الاجتماع الوزاري لمنتدى الأمم المتحدة لتحالف الحضارات: عطاف يعقد جلسة عمل مع نظيره البرتغالي    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية لمجلس الشورى الإسلامي الإيراني    أشغال عمومية: شركات مصرية ترغب في المشاركة في برنامج السكك الحديدية    سوناطراك: نشوب حريق بمركب معالجة الغاز بإليزي بدون تسجيل أي ضحية    سوناطراك تشارك في الصالون الدولي للموارد الاستخراجية والطاقوية في كوت ديفوار    كأس إفريقيا 2024: المنتخب الوطني النسوي يواصل تحضيراته بحضور كل اللاعبات    خبراء أمميون يدعون الدول للامتثال لقرار المحكمة الجنائية الدولية    غوتيريش يرحب بإعلان وقف إطلاق النار في لبنان    المسابقة الوطنية ستطلق غدا الخميس    لقد جعلت بلادنا من الأمن الغذائي رهانا استراتيجيا يتوجب علينا كسبه    ضرورة تصحيح الاختبارات داخل الأقسام    ورشة تكوينية للقضاة وضباط الشرطة من تنظيم وزارة العدل    عطاف يقوم بطرد وزيرة الخارجية السابقة للصهاينة تسيبي ليفني    لبنان يواجه أعنف فترة له من الاعتداء منذ عقود    إقامة صلاة الاستسقاء عبر الوطني السبت القادم    الإصلاح الشامل للعدالة يعد أبرز محاور برنامج رئيس الجمهورية    خنشلة : أمن دائرة بابار توقيف 3 أشخاص وحجز 4100 كبسولة مهلوسات    ترقب تساقط بعض الأمطار وعودة الاستقرار يوم الجمعة    مستغانم : قوافل الذاكرة في مستغانم تتواصل    كرة القدم/رابطة أبطال إفريقيا : شباب بلوزداد ينهزم أمام اولاندو بيراتس (1-2)    الفريق أول شنقريحة يزور معرض أحمد الجابر للنفط واللواء مبارك المدرع 15    بصمة الرئيس تبون بادية للرقي بالفلاحة والفلاحين    دعوات للتصدي للتطبيع التربوي بالمغرب    رمز الريادة والابتكار    الاحتلال الصهيوني يمسح 1410 عائلة فلسطينية من السجل المدني    وزارة الصناعة : السيد غريب يشرف على تنصيب الأمين العام ورئيس الديوان    الدعم مكّن من إنهاء ندرة الحليب المبستر    وزير الاتصال يعزّي عائلة الفقيد والأسرة الإعلامية    رحيل صوت القضيتين الفلسطينية والصحراوية في المحاكم الدولية    تطبيق مبتكر يحقق الأمن السيبراني    محرز يحقق رقما مميزا في دوري أبطال آسيا    حريق يأتي على ورشة نجارة    اكتشاف عيادة سرية للإجهاض    طالب جامعي متورط في سرقة    الإطاحة بشبكة إجرامية من 5 أشخاص بوهران    مازة لن يغادر هيرتا برلين قبل نهاية الموسم    معرض لورشات الشباب الفنية    البحث في علاقة المسرح بالمقاومة    تسليط الضوء على أدب الطفل والتحديات الرقمية الراهنة    جائزة الشيخ عبد الكريم دالي : حفل تكريمي للفنان الراحل نور الدين سعودي    الأيام السينمائية الوطنية للفيلم القصير بتبسة: فيلم "القناع" للمخرج فيصل قادة يفتك المرتبة الأولى    الملتقى الدولي للمهرجان الثقافي للفن المعاصر : منصة للتبادل والتحاور في مواضيع الفن المعاصر    مدرب مانشستر يونايتد يصر على ضم آيت نوري    أيام توعوية حول مضادات الميكروبات    كابوس مرعب في موسم الشتاء    الفترة المكية.. دروس وعبر    معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة بوهران: استقطاب أكثر من 15 ألف زائر    وزير الصحة يشرف على اختتام أشغال الملتقى الدولي الثامن للجمعية الجزائرية للصيدلة الاستشفائية وصيدلة الأورام    تسيير الأرشيف في قطاع الصحة محور ملتقى    الفروسية : كأس الاتحادية للمسابقة الوطنية للقفز على الحواجز من 28 إلى 30 نوفمبر بتيبازة    رقمنة القطاع التربوي: التأكيد على "الانجازات الملموسة" التي حققتها الجزائر    إعادة انتخاب دنيا حجّاب    ندوة بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر    وفاق سطيف يرتقي إلى المركز الخامس        هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غرائبية السرد والتشكيل اللغوي في رواية “زهوة" للحبيب السائح
نشر في الجزائر نيوز يوم 11 - 02 - 2013


- 1 -
يحدثُ أنْ يُثير عمل أدبي جدلا بين متلقيه، وهذا ضروري من حيث أنَّ الكتابة هي إعادة إنتاج لدائرة التلقي، وسعي حثيث إلى إثراء الذائقة وتجديد الوعي الجمالي عند القارئ. والمتوقع أنْ يُبنى هذا الجدل على أسس معرفية. وأن يقوم على مساءلاتٍ حقيقية تروم الاقتراب من العمل بقناعات مختلفة ومرجعيات متعددة. لأن الكتابة الإبداعية دائما ما تكون فعلا استفزازيا “يحرض الذات ضد الآخر، وهي في الوقت ذاته تحريض للآخر ضد الذات"، ومع هذا هي تحريض عارف، وواع. والواجب أن يواجهها تحريض من المستوى نفسه أو يقاربه إذا أردنا إنتاج مجتمع معرفي يستثمر الأدب والثقافة في بناء منظومته الحضارية.
بهذه الرؤيا نفضل الدخول إلى قراءة رواية “زهوة" للحبيب السائح؛ الصادرة عن دار الحكمة. وهو دخول من هامش النص، من خارجه، إلى مركزه؛ أي من فضاء تلقيه إلى بنيته اللغوية وسماته الأدبية. وهذا الدخول اقتضاه السياق الذي قرأنا فيه الرواية واطلعنا على بعض ما كتب عنها في الجرائد بالخصوص. فبدل أن نجد حوارا بين نص مشاكس، أو هكذا نراه، وبين متلق يمارس حقه كقارئ، وجدنا قراءات تسعى، بشكل غريب، إلى إلصاق فشل القارئ بالنص، وتبتغي إعادة إنتاج السؤال القديم الذي طرح على أبي تمام: “لماذا لا تقول ما يفهم"، وكأننا من جديد أمام متلق ضيق الأفق، يبحث عن الفهم، مع ضروريته، قبل بحثه عن الجمالية، ولو أنه قصد هذه الأخيرة لكان الفهم من تحصيلاتها. كما أننا أمام قارئ، عادي ومثقف، يستنكر اشتغال صاحب الرواية على اللغة، ويرد هذه الأخيرة إلى غموض وإلى علو مستواها، وكأن في هذا دعوة أخرى لإنزال النص إلى القارئ، وإخضاع لغة الأدب المتعالية لليومي والمبتذل من الكلام، مع العلم أنه من اللازم - كما يرى صاحب كتاب “نظرية الأدب" - “تفريق اللغة الأدبية عن الاستعمالات المتعددة للغة اليومية"، لأنها لغةٌ لا تقف عند الإيصال والإخبار فحسب، وإنما تتعمد تشكيل فضاء أدبي باذخ ومختلف، وغامض بالقدر الذي يستدعيه مضمونه، وتحاول من خلاله إخراج القارئ من معلومه الواضح، والسطحي أحيانا، وإدخاله إلى مجهول النص وإلى عوالمه المتعددة.
- 2 -
تأخذ رواية “زهوة" على عاتقها تشكيل ملامح جديدة للغة، تختلف عن ملامح رواية “مذنبون: لون دمهم في كفي" التي صدرت قبلها، وتبرز سعي صاحبها إلى الملاءمة بين أسلوبه وبين موضوع روايته، جاعلا طرائق القول مناسبة لمضمونه ولمسار الحكاية، منطلقا من أساس بلاغي قديم ينص على أن يراعى للمعنى الشريف لفظ شريف. وهذا نفسه ما عرف به القزويني بلاغة الكلام من حيث هي “مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته"، مقسما إياه، أي مقتضى الحال، على مختلف مقامات الكلام المتفاوتة والموزعة بين التنكير والتعريف، الإطلاق والتقييد، التقديم والتأخير، الذكر والحذف... إلخ. وفي “زهوة" هناك مطابقة للكلام، وللسرد أيضا، لباطنية معينة، تنظر إلى الأشياء وإلى العالم من منطلق تأملي، يحفر عميقا في الذات المفتونة بالشر افتتانها بالخير، والتائقة للفضيلة توقها للرذيلة. كما يبحث في العلائق الظاهرة والخفية بين المدركات. وقد استدعى هذا النوع من الاشتغال من الكاتب الاتكاء على مفهومي “الحال" و«المقام"؛ باعتبار الأول دخولا في خصوصية لحظة ما تفلت من قيود الزمان والمكان، وتتصل بزمكانية اللذة والنشوة، سواء في الحال الروحاني، أو في حال بشري، غالبا ما يكون مرتبطا بمقام الأنثى وبمقام البحث عن الأب، كما سنوضح، لاحقا. وهو أيضا حال يستدعي خصوصية لغوية وتعبيرية معينة. وباعتبار الثاني -أي المقام- ارتباطا بمكان ما ضمن رقعة جغرافية محاطة بشيء من القداسة أو بشيء من ظاهرها فقط، وهو أيضا مقام يتموضع ضمن جغرافيا السرد، ويتصل بخارطة غير واضحة الحدود في المخيال، وفي عالم اللغة.
- 3 -
وحتى نكمل الكلام عن لغة الرواية، نأتي بشاهد من كتاب: “السيميائية وفلسفة اللغة" لأمبرتو إيكو، يقول فيه: “يقدم السياق الذي له وظيفة جمالية دائما استعاراته على أنها (بكر). وذلك لأنه يجبرنا على أن نراها بطريقة جديدة ولأنه يتصرف في قدر كبير من الإحالات بين مختلف مستويات النص مما يجيز دائما تأويلا جديدا للعبارة المستعملة (والتي لا تعمل أبدا بصفة منفردة بل تتفاعل دائما مع جانب ما جديد للنص)، ومن ناحية أخرى فإنه من خصوصيات السياقات ذات الوظيفة الجمالية أن تنتج متعالقات موضوعية لها وظيفة استعارية مفتوحة جدا".
لقد جئنا بهذا الشاهد للتدليل على ظاهرتين متحققتين داخل رواية “زهوة": السياقات الجمالية، والاستعارات البكر. وتنشأ الأولى من جمالية اللغة ذاتها ومن غرائبية المشهد السردي المحاط بالوصف الدقيق والتصوير الخلاق، وذلك غالبا ما نستشعره في اللقاءات الحميمية التي تشمل بعض شخوص الرواية (يوسف/بهيجة، يوسف/ربيعة أخته، رضوان/كوثر، ربيعة/ عبد اللطيف، عبد النور/خولة، عبد النور/عالية، إدريس/عزيزة... إلخ) وهي لقاءات معطرة بالعشق ومشتعلة بمقام الأنثى. ونجدها أيضا في مقام المصاحبة التي تنشعب بين الأبوة والصداقة والأستاذية، وهي ما يستحضره الشخوص من الذاكرة عن علاقتهم بإدريس، ويعبر به كل واحد منهم عن شوقه إليه وسعادته بقربه.
وتنشأ الثانية، أي الاستعارات البكر، وهي منبع كل جمالية على مستوى الجملة، من اشتغال الكاتب على مقامات الكلام المذكورة آنفا (التقديم والتأخير، الذكر والحذف، الإطلاق والتقييد...)، وأيضا على تصوير لا يخلو من الشعرية يلون به قرميد الحكاية. وليست الاستعارة هنا بمعناها الضيق، بل هي كل إنتاج للغة من منطلق تخييلي مجازي، وفي حال الرواية، من مشاهد سردية غرائبية. وسنبين أنواع هذا الاشتغال في مايلي:
أ- اللعب على الاحتمالات التي تأتي بها الجملة في العربية تقديما وتأخيرا، حذفا وزيادة، تطويلا وتقصيرا، نفيا وتأكيدا، تجاوزا واستدراكا... إلخ. من هنا تتشكل الفوارق بين لغة الرواية باعتبارها تروم الأدبية، وما دون ذلك من لغة الصحافي أو اليومي. كما تحقق استعارتها البكر، من خلال لعبها على محوري الاختيار والتركيب. ولنأخذ مثالا: “نزعت من فؤادي شوكة الندم على دنياي الزائلة وغرزتها في كفي قهرا لمطامعي"، ولنبرز خصوصية هذه الجملة وبهاءها الأدبيين، سنقترح بعض الاحتمالات أو الاختيارات الممكنة التي كان باستطاعة الكاتب توظيفها لكنه تحاشاها لخفوتها وافتقارها إلى الجمالية اللازمة وإلى الاستعارة البكر: “نزعت من فؤادي شوكة الندم على دنياي: 1- نزعت من فؤادي الندم على دنياي. 2- نزعت من فؤادي حب الدنيا. 3- اعتزلت دنياي الزائلة ولم أندم. 4 - لم أعد نادما على دنياي. 5 - اعتزلت دنياي. 6 - زهدت في هذه الدنيا".
ولا ريب في أن مقارنة هذه الاختيارات الممكنة في التركيب بعضها ببعض، يظهر أن التركيب الذي شكله الكاتب واختاره من بين عديد الاحتمالات هو الأنسب والأكثر أدبية، وهو يمثل -من منظور أمبرتو إيكو- استعارة بكرا. والكلام نفسه يقال عن بقية الجملة: “وغرزتها في كفي قهرا لمطامعي"؛ لأنها هي الأخرى تتميز بتصوير استعاري وتركيب لغوي فريدين. وإذا قارنا بين الجملتين، أي بين نزع شوكة الندم من الفؤاد وبين غرزها في الكف، نلاحظ الدلالة وقد أخذت تتوسع وتحتمل أنواع التأويلات الممكنة في باب الإعراض عن الدنيا والزهد فيها.
وإلى مثال غيره: “وإلى ممر آخر متفرع مسوّى بالطف الأصفر المدكوك، خرج بهما..."، في هذا المثال سنركز على دور التقديم والتأخير في صنع الجمالية، وفي إعطاء اللغة قوتها وتأثيرها الحقيقيين. فبعد تقديم الجار والمجرور وما تبعه من لواحق اقتضاها الوصف، جاء الفعل متأخرا ومساهما في صنع الدلالة الخفية التي تروم تنبيهنا إلى الممر وصفاته أكثر من الإشارة إلى فعل الخروج. وكأنه يحاكي باللغة ما تقوم به عين “الكاميرا" حين تركز على شيء وتهمل ما دونه لإرسال رسالة خفية. وفي هذا المقطع كان الاهتمام بالممر أكثر من الخروج؛ لأن رضوان كان يعرفهما على المكان الذي يجهلانه، ممثلا في المقام الذي عكف إدريس على صيانته وتجديد أثاثه.
ب- تتشكل من السياق الجمالي والاستعارات البكر المشاهد السردية ذات المسحة الغرائبية، والتي عادة ما ترتبط بالخلوة أو بالمقام أو بالعلم ممثلا في الكتاب. وتنتج هذه الغرائبية بسبب من رؤيا باطنية جوانية عميقة، يتصف بها بعض الشخوص الذين نالوا الحظوة عند إدريس؛ سواء عن طريق الصداقة أو الأستاذية أو الأبوة، كما ذكرنا سابقا. وجميع هؤلاء يدخلون في أحوال تأملية؛ إن بلقاء بين بعضهم، أو في خلود إلى وحدة الذات. وأغلبهم على نصيب من العلم يسمح له بالتدبر، وبامتطاء لام السؤال (يوسف: الطب، عبد النور: التاريخ، عبد اللطيف: الفلسفة، جعفر: البحث عن الكتب النادرة). كما يذكرنا كلام هؤلاء الشخوص بقولة “فيكو" أن “البشر يعلمون كيف يتحدثون مثل الأبطال لأنهم كانوا يعرفون كيف يتحدثون مثل البشر". ولأن شخوص الرواية يفيضون بالحكمة والتأمل، كانت اللغة تظهر في أعلى مستوياتها وأبهى تجلياتها. ومن هنا منشأ الغرائبية أو العجائبية في الحكي والطرح على حد سواء. مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن لغة الشخوص الآخرين المهمشين جاءت على حسب مستواهم وطريقة تفكيرهم ونواياهم (فرحان وسعدان، الحسير، باكور، سلطانه، السبعاوي). ونورد هنا مشهدا من الرواية يفيض بالحكمة والعمق لندلل على ما ذهبنا إليه: “وكان إذ مد يده إلى مشكاة نحاسية، من بقايا أثاث مكتبة والده، مصوغة من تزايين الفوانيس العتيقة فلمسها، بزغ له سطوع كأنه من شمس أو من قمر، لا هو في ليل ولا في نهار. كشف له عن سبعين ظلا يمشون على سطح زيت الشجرة الوبيض الصافي. فهتف له من بينهم صوت جده حسن: “أولياء ينتظرون عودتك." فرأى نفسه خلع نعله. فانفتح له إليهم مسرى ملئ ضبابا أبيض سرعان ما جلا عن امرأة ائتزرت أكاليل حلقية من الياسمين نطقت له: “عبد النور حبيبي، سأكون رفيقتك في رحلتك".
ولنختم حديثنا عن لغة الرواية لابد من الإشارة إلى أن هذه الاشتغالات جميعا جاءت منظومة حتى بدت كأنها سبكت سبكا واحدا وأفرغت إفراغا واحدا، كما قال الجاحظ. ولا ريب في أن مرد هذا إلى وعي الكاتب بمفهوم النظم كما عرفه الجرجاني بقوله: “واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك، أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك، وهذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس".
من النظم انطلقت الرواية إذن. ومنه سعت إلى أن تكون لحمة واحدة، من حيث ارتباط أجزائها ببعضها، والتحامها تحقيقا للوحدة وتجنبا للتفكك. وهذا، لأن المطلوب من الروائي أنْ ينجح في جعل عمله خطابا مثلما نجح في جعله نصا منتهيا له بداية ونهاية، أي أن يكون له تحقق فكري مثلما كان له تحقق لساني.
- 4 -
مثلما تنبع الغرائبية من خصوصية الموضوع ومن الحفر في اللغة وتأثيث ملامحها، تنبع كذلك من الرواية التي ابتدأت بنهايتها، وانطلقت دائرة إلى أحداثها، عائدة على بدء؛ وكأن ما حدث لا يسرده الراوي نفسه، وإنما ينساب من ذاكرة الرواية ذاتها، والتي يرمز انتهاؤها بآخرها بتمامها وانغلاقها؛ بحيث لا نذهب إلى تأويل النهايات -كالمعتاد- بل نرد آخرها من حيث التسلسل في أرقام الكتاب على أولها، ولكننا نذهب إلى تأويل البدايات المتأخرة. وعلى رغم هذه الخصوصية، استطاع الكاتب بذكاء أن يخدع القارئ، حيث ينسيه أن الرواية هي على سبيل “فلاش باك" داخلي، وأن ما يتوهم أنه يحدث -لتوه- أثناء القراءة حدث في ماضي الحكاية وانتهى.
ولكي يتحقق التدوير - على شاكلة القصيدة تماما - كان لابد من وجود قرائن في البداية وفي النهاية، وهي التي تربط بداية الرواية المتأخرة من حيث بلوغ القارئ إليها، بنهايتها التي يصلها القارئ أول ما يبدأ بقراءة الصفحات الأولى من الرواية، ومن هاته القرائن نكتفي بذكر بعضها هنا:
1 - ورد في الصفحة 6 ذكر كتاب بجانب عبد النور يتحدث عن الحياة المشتركة للعرب المسيحيين والمسلمين في الشام كله، أحضره له جعفر في آخر زيارة له. بينما نجد في الصفحة321 شيئا مختلفا، إذ أن جعفر يعد عبد النور أنه سيرجع له من رحلته القادمة بكتاب نادر عن الحياة التي يتقاسمها الجيران من عرب الشام مسيحييه ومسلميه.
2 - ورد في الصفحة 10 حديث عن رحلة عبد اللطيف وربيعة إلى توات، حيث “سبحا في فيض أهازيج أصحاب الطبل والبارود المنتشين في الساحة الرملية ورددا معهم يدا في يد لازمة العشق"، بينما نجد في الصفحة 313 أمنية عبد اللطيف بأن يترافق مع ربيعة إلى وهران، “بحقيبة واحدة لسفرية شهر بين تاغيت وتيميمون وتمنطيط...".
3 - ورد في الصفحة 8 ذكر تلقي هدية عينية للمقام من الوناس من منتوج أرض أبيه، بينما نجد ظهور الوناس في الفصل الأخير هو من أجل الحصول على عقد ملكية أرض والده الذي كانت تحتفظ به سلطانة وسلمه السبعاوي إليه بعد وفاتها.
والحق أن هناك قرائن أخرى تربط أول الرواية بأحداثها المتتالية، وتساهم في تحقق “الفلاش باك" بإتقان شديد وفنية عالية. ومن أهمها ظهور يوسف في البداية أنه طبيب متزوج بينما يوحي التقدم في الرواية أنه لا يزال يدرس. ومنها أيضا معرفة المكان الذي دفنت فيه خوله، بينما كان هذا هو ما أرق عبد النور على امتداد الحكاية العامرة بحزنه وبحسرة يوسف وشوقه إلى أب لم يره. ومن هذا الاشتغال على التدوير يتشكل مفهوم للرواية من حيث أنها “ملتقى الأزمنة في حواريتها وتقاطعاتها وتواليها (الحاضر، الماضي، المستقبل). وبالتالي فإن الميزة الجوهرية للعمل الروائي هي التقايس والتفاعل في الزمن وضمنه. ومعنى أن الرواية ملتقى الأزمنة أنها تعرض أحداثها المرتبطة غالبا بزمن السرد أو بزمن واقعي معين، بشكل يتوالى سواء عن طريق السرد المتراتب الذي تؤدي بدايته إلى نهايته، أو عن طريق السرد المعتمد على “الفلاش باك" وعلى تقنيات سردية تعرض الزمن بشكل مختلف.
- 5 -
قلنا بداية إن لغة الرواية تصدر من اتكاء على مفهومي الحال والمقام. وهي أيضا تصدر من علاقتها بالمكان، الذي يحمل مختلف أنواع العاطفة التي يكنها الإنسان له. وقد أشار السعيد بوطاجين إلى هذه الخصوصية التي اشتملتْ عليها “زهوة"، وجعلتها رواية المكان بامتياز، موضحا ذلك في مقال في “الجزائر نيوز": “أما ما خطط له السائح في روايته الأخيرة فيتمثل في توطين المكان ومنحه بطاقة ثبوتية تضبط انتماءه وجنسيته وزاده ومكوناته، لذلك جاء دالا ومنسجما مع الشخصيات، أي أنه يشبهها في الملامح ويبرز أقوالها وحركاتها".
إن ما تحدث عنه السعيد بوطاجين هو في صميم الرواية، إذ أن المكان في الرواية يستمد جميع خصوصياته من خصوصية أصحابها والمرتبطين به بشكل من الأشكال. وقد أعطى الحبيب السائح للمكان الاهتمام نفسه الذي منحه للشخصيات، وأحاطه بالوصف ذاته، أو أكثر، الذي أحاطها به. ولا ريب في أن الرواية أخذت تميزها من اهتمامها بالمكان مثلما أخذته من ولعها باللغة والاشتغال عليها، لأن “العمل الأدبي حين يفتقد المكانية فهو يفقد خصوصيته وبالتالي أصالته".
لقد ارتبطت مصائر شخوص عديدة في الرواية بالمكان، وبالتحديد بالمقام الذي قام على صيانته إدريس خارجا من حياته مع زوجته عزيزة، ومن حياة الناس، تاركا خلفه جنينا أوصى بتسميته ورحل. وقد جعل -هذا الأمر بالذات- يوسف فيما بعد، يشق رحلة بحثه عن الأب التي تبدأ من المقام وتنتهي فيه، بتعرفه على شخص والده الكريم، لكن بذكراه وطيب ما خلفه وراءه بعد موته، ولقائه بأخت له منه، وبأحبة يكنون له الخير والحب وينتظرون قدومه منذ سنوات. وكأن هناك إشارة ضمنية إلى أن الأبوة مرتبطة بالمكان أيضا، المكان العامر بالمحبة والأحباب والدافئ، دفء حضن الأب. ولعل ما ذهبنا إليه هنا يبرره ما ورد على لسان كهل في الحضرة: “فنطق كهل آخر، من الجهة المقابلة، عميق الصوت: “إلى حفيدنا إدريس المحفوظ بعناية إلهنا الجميل. لأصلك الذي يضرب جذرا في تربة أجدادك، فإنه سيبلغ قلبك نداء فلا تقعد. واترك لهم دنياهم وأحزانها. فلا مسرة لك خارج مملكة عقلك وأرضك".
واضحة أهمية المكان إذ ربطه مباشرة بالأصل، أو بتعبير أصح، جعل أصله مرتبطا بتربة الأجداد، ومحصنا بها، ومنه يأتي نداء القلب، وتأتي المسرة من مملكة العقل والأرض. فمن هذا النص نفهم فلسفة الماكن في الرواية، بأنها نابعة من إيمان عميق بأن الحفاظ على الأصل/السلالة لا يتأتى إلا بالحفاظ على الأرض، أي على المكان.
ومن هنا نفهم أيضا، كيف توارث الأجداد على ترك المقام في عهدة شخص من السلالة الصافية، ممثلا بإدريس العلاوي، ثم بابن عمه عبد النور العلاوي الذي ترك له الوصاية على شؤون المقام وشؤون ساكنيه ورائديه. وقد ارتبط المكان في الرواية بالعلم، وبطلب المعرفة والتفكر في شؤون العالم. فليس من العشوائي وجود خزانة تحتوي على أمهات الكتب ونوادرها، وارتباط أبناء الفضيل بالعلم، وكأن هناك رسالة ضمنية أخرى تؤكد أن الأصل لا يرفع إلا بالعلم، وأن لا خير في مكان لا كتاب فيه ولا أهل كتاب.
- 6 -
رواية “زهوة" باب مفتوح على لغة تشربت فلسفة القول العربي، جاعلة لكل مقام مقالا، ولكل شخصية ما يتلاءم مع مستواها من الكلام. فليس ما ينطق به يوسف هو كما ينطق به الحسير. ولا ما يقوله عبد النور هو كما يقوله السبعاوي. وهي بهذا -أي الرواية- تنبع من عمق البيانية العربية وبلاغتها اللازمين للانطلاق في تجارب أدبية بقدر ما تبحث عن المغايرة والاختلاف تعرف جيدا كيف تستثمر ماضيها الأدبي والإبداعي وخصوصيات لغتها في التعبير لتفتح آفاقا جديدة للأدب والفكر والثقافة.
للموضوع إحالات
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.