معه تعلمنا كل هذا.. وأكثر من ذلك، تعلمنا الدرس السيميولوجي المتعدد، المتشاكل في كل شيء ومع كل شيء.. عندما جيء برولان بارت إلى الفضاء العربي بنظمه ونصه، بتقاليده الكتابية المدرسية والدوغمائية، بشذريته وفسيفسائيته، اشتغاليته على الفروع وتفريعاته على الموضوعات والتيمات، ماظنه الناس إلا وافدا بغرابة فكر وموضة توجه وهوسا بمخيال ليس هو نحن العرب كذائقة وسليقة وخطاب.. الكتابة في الدرجة الصفر، شذرات لخطاب العاشق، هسهسة اللغة، ميثيولوجيات، المغامرة السيميولوجية، والحال أن أعماله الكثيرات هذه تلغي الماسبق من الموضوعات وتمتد إلى المابعد من البعديات، لقد استهام القارئ العربي -المغاربي- ببارت وكسّر به حواجز كثيرة في البنية والشكل، في المفهوم والنص، وكذلك في الأنساق واللامنطوقات واللامكتوبات.. إن غرابة رولان بارت فرع من فروع الفنتازمات التي لا يسوغها القارئ باللغة العربية أو هو على مبعدة منها أو هو لا يتفاعل معها لأنها لا تشكل درسه السيميولوجي، وعلومه الكتابية، إن التفكير في بارت داخل حلقة الثقافة العربية التي تمرنت عليه على مدار سنوات ليست قليلة على ما يمكننا الحكم بذلك ويقود هذا التفكير إلى جردة حساب حقيقية مع رمزية بارت والمنظومة البارتية، فهي تغلق وتفتح هذه البارتية ما شاءت من الأقواس، تكسر الأنساق وتعيد ترتيبها، تتسلل إلى بواطن النصوص ومنسوجات اللغة، انتقلت نحونا نحن المغاربة -قصدا الفضاء الثقافي المغاربي الواسع في ميادينه وورشاته النقدية- قبل أن يسمع عنه أو يقرأ له في مصر والبحرين والسعودية، عبر الناقد الجريء والمثير المرحوم عبد الكبير الخطيبي وقد كانا يقولان الشيء نفسه لبعضيهما كلما تحادثا، اتخذ رولان هذه الموقعة المتميزة تحت فضائنا لأسباب وسيعة، لا تتوقف في الإحصاء، سلاسته، مرونة العبارة ودهشة الأسلوب، الشذرية والتنميق، النسق المتعدد ضد الأحادية والمونو ديداكتية، وعندما كان يقال للجيل الجديد من المعربين -الحداثيين- ممن هم على صلة بالفكر الفرنسي ومدارسه الأدبية والفلسفية ستقتلون الأدب وجماله بسعيكم المحموم وراء رولان، كان الرد مفحما يأتي خاصة من كتاب المغرب الأقصى فهم أقاموا له المواعيد والملتقيات، جسروا له الفرص المواتية لمقروئية دائمة، مكنوا له أكثر ومن خلال مجايلات كثيرة، ترجموه ودققوا في نصوصه، ثم هم راحوا يبحثون في ما لم يكتبه هذا الأسطورة، فيما فكر فيه أو أخفاه بين أعطافه أو دسه في محفظته أو ما سرقته منه الريح لتمضي إلى -ما بعد موته-، حال كذلك في أن الناقد -من هذا الطراز والصفة- يمر، يسهل، يسلس، وتنصاع له الذائقات.. بل إن غرابته في هذه إذ يقوم بقراءته ناس من غير ناس الأدب وينتمي إلى عائلته قراءة واستيهاما وتفكيرا كل من تعنيهم الوظيفة السيميولوجية في الحياة وقوته ليست في نظرية يسوقها ومذهبا اجترحه ويبغي تجريبه واتجاها أكاديميا يعمل على ساق وقدم حتى ينجح فتتلقفه الطالبات والطلبة متحدثين عن صلبه ومبناه، هامشه ومركزه.. في التفكير النقدي الفرنسي يأتي الأثر البارتي عينيا، بائنا كلون، طريقة ومنهاج، مسلكا ورؤية، حقلا مزروعا وطبقة نصية أركيولوجية وجيولوجية فمن يقرأ بارت هو من يقرأ فيليب سولرز وميشال أنقري وإدغار موران، وجاك بيريك وميشال دوسارتو وهو من يقرأ دولوز وفوكو ودريدا، أي النص مقروء بإحالات وتأملات وإلماعات لا توفي الأشياء موافاة إحكام وجاهزية مسبقة وتطلع ماض إلى خلاصاته، أي أن رولان بارت بقلمه وبحبر رصاصه والفلسفة ودارسها، موت المؤلف وبقاء اللغة، موت اللغة وبقاء العبارة، موت أيضا النص وبقاء المنصوص والمران والتمارس بين متجاذبين حادين، الكاتب ونصه.. الدال ومدلوله، الإشارة ومكنونها الخفي، هذه العملية سارت على منوالها أجيال كثيرة في الغرب المدرسي والجامعي والشعبي الشباني، بينما حاز رولان بارت عندنا شهرته الأدبية من مسوقين له أو ناقدين له من غير أن يتجاوز العقل النقدي العربي عقدته البارتية من كونه، أنه بيننا وفقط، لأنه اقتحم، خلخل، فتح، كشف، أنار، استبطن، تنبه.. إن بارتا تسلل إلى المؤسسة الذوقية العربية لأن ذاتها هذه المؤسسة لم تكن على مناعة وحصن وتجدد.. شغلة بارت كبيرة بين ظهرانية واستثناء عند أمثال الخطيبي أو عبد العزيز بن عرفة أو بختي بن عودة وأضرابهم من الذين استوعبوه واستوعبوا درسه فقدموه بوصفهم التلامذة النجباء والمريدين الملتزمين مما رفع من أسهم التعاطي معه بروحية خاصة وقلق ساري وعشق قرمطي، إنه البارت بيننا وليكن ما يكون، لماذا تقرؤون بارت دائما، في ماذا يفيدكم بارت، ماذا أضاف لكم بارت؟ إنها أسئلة، أسئلة، يداري البعض من نقاد أدب النهضة التعيس -أدب أحمد أمين والمنفلوطي والرافعي- نفاقهم وجبنهم من عربية ستصير طيعة، منقادة إذ تخلع نعليها عند أنهر وشطآن وآفاق، ترتاد المغامرات، تتقدم على خرائط شهوتها ولا تنكص ولا ترتكس، أي هذا الحال كذلكم معه هذا الأسطوري القادم حيا لا يموت في نصوصنا وكتابتنا وطرائق عملنا في ورشة اللغة والإبداع والدربة.. يؤاخد هؤلاء النقاد الصغار من أساتذة الجامعات العربية في الجزائر والخليج الكتابة البارتية والمتماهين مع نموذجها في الشذرية واللا نسق، في الإعوجاج اللغوي المتوهم، في اللافكرة واللانهاية في إماتة المؤلف وتركه ينزف دما دونما جراحة وتطبيب وفي الموزاييك والتجميع وهذه ليست مثلبة ونقيصة طالما أن الأدب بحور وأودية، هضبات ومصاعد، منازل وديار، الأدب ليس الوثن، النهاية والقيامة والخلاص، المحتومية والفناء، بل هو التجريب، التقطيع، التلصيق، الرسم بالماء والزيت والعطور، إنه ليس بيتا ندخله أو لا ندخله، لغة واحدة فقط، إشارة موحية ثم لا هوة ولا قاع بل السطح أو المصطبة أو الأرض الإسمنتية الشكل.. إن المؤلف إذ يموت سيخلف من ورائه هذه الأشياء التي حازت شهرة في عالمنا الما بعد حداثي، إذ عادت هي من يكتب النص أو يخلقه أو يستميت على إبقائه حيا يرزق، بينما تظهر طفرات العلوم والمعارف نوايا حقيقية عن “حضارة المحو" ومفاهيم الإزالة والاستبدال، المبادلة والإفراغ، التعبير الإشاري وسيادة البصري والشفاهي -في عودته- على اللساني والألسني المكتوب.. فيما تعلمنا فيه البارتية دائما، أنها نثر سيميولوجي عام، الوجبة والطبيخ، الرياضة والمصارعة، السيارة وعالمها، اليابان، الصين، الفرجة، ألعاب القمار، العشق والشبق والإيروتيكا، لا كان، جورج باطاي، ماريلين مونرو ونيويورك... تطرح العمارة البارتية المنسوبة إلى رولان بارت (1915-1920) درجتها الصفر من العمل الأدبي، بل من الحياة برمتها وتقدم المفهوم التقليدي الرصين الذي يعرف الكتابة على كونها أداة، وسيلة تواصل، جمالية وخيال، فعند هذا المعلم الفيلسوف، الأدب هو ما وراء اللسان، إنه التاريخ والجهة التي ينحاز إليها وليس ما يوازيها أو ما يعبر عنها، مهارة تمكن منها وأجاد الإمساك بها من صفريتها، من البدء التاريخي بالأساتذة غريماس، دوسوسور وجاكويسون... لننظر في البارتية خاصة نحن العرب، نحن الذين لا نملك إلا اللغة زخرفها وقشيبها، استطراداتها وفذلكاتها، شنشناتها منذ أخزم -كما في المثل العربي- وصهيل سيوفها في الغبراء داحس ولننظر إلى هذه الحصة الخاصة على سبيل الوجوب والتلقين والديداكتيك.. «اللغة معطى اجتماعي مشترك، ملكية مشاع للناس وللكتاب وهي عنصر سلبي للكاتب لأنها لا تخصه"، ويقول أيضا “الكتابة وظيفة، إنها العلاقة بين الإبداع والمجتمع، وهي أخلاق الشكل والمجال الاجتماعي الذي يقرر الكاتب أن يموضع داخله، طبيعة لغته، لكن ثمة بين اللغة والأسلوب نقطة هي الدرجة الصفر التي تبرر قياس الدرجات الأخرى والدرجة الصفر للكتابة في عصرنا هي التي طلعت بعد تمزق البرجوازية..". يكتب بارت هذه الكتابة الطليعية التي تحاجج لا باللغة والجعجعة والتوليفات وإنما بسكنى الكلمات بين البواطن، إذ لا يصنع الكاتب الجيد اللغة ولا أسلوبه الشخصي، بل يصنع الإشارة وإذ ينتج عرب كثر حروفهم السمينة من قاف وصاد وضاد يقفون عاجزين عن قراءة ذواتهم وأشيائهم وعالمهم الذي يموضعهم حيث يشاء -هذا العالم- لغة وأسلوبا وزمنا وجغرافيا، إن العرب هم الصحراء، الخيمة والوتد، الترحال من المكان وكراهيته، الماء، الغذاء، والنفط، الغناء الطويل والليل الطويل، البادية وثغاء الجمل وصرير الأبواب التي تغلق وضح النهار ثم يتسلل منها الغريب والأجنبي ليلا.. في الخامس والعشرين من شهر فيفري من عام 1980، والساعة التاسعة مساء، أوردت وكالة الأنباء الفرنسية الخبر الأليم “الأستاذ الجامعي والباحث والناقد رولان بارت البالغ الرابعة والستين كان بعد ظهر هذا اليوم ضحية حادث سير في الدائرة الخامسة، في شارع المدارس، ونقل للمعالجة في مستشفى اللبيتييه..". لكن بارت ما عاش بعد حادثة اصطدامه بالكميون، حادثة جعلت ميشال فوكو يخبط على قفاه وجبهته وهو يقول: حماقة، حماقة، حماقة... أليست حماقة أن يستجيب بارت لالحاحات ميتيران وجاك لانغ ويتجالس ثالثهم حول مأدبة غذاء، فيذهب الرئيس والوزير إلى حملتهما الانتخابية ويذهب المعلم الفيلسوف إلى حماقة الكون الأخيرة... a_maouchi@live. Com