يحتاج الفلسطينيون إلى ما هو أبعد وأعمق من المصالحة السياسية، ومن مجرد التوقيع على اتفاق مكتوب قد تذروه الرياح مع أول مطب سياسي أو خلاف بسيط على منصب أو وزارة، فالمصالحة السياسية تخضع لحسابات سياسية ضيقه، وقد تخضع أيضا لحسابات شخصية فردية، وقد تعود معها الحالة الفلسطينية أسوأ مما كانت عليه من انقسام وصدام وتنازع، ولن تكون المسألة مجرد خلافات، ولذلك لا بد من إدراك أن سيناريو الخلاف والفشل في أعقاب المصالحة قد يكون كارثياً وأكثر ضررا من عدم توقيع اتفاق مصالحة، وهذا ما ينبغي التحذير منه، لذلك وعلى الرغم من أهمية المصالحة السياسية وحاجتنا الماسة إليها، فإن نجاحها يتطلب الكثير فلسطينيا ومصريا وعربيا، ذلك أن الأمر لا يتوقف عند حدود اتفاق مكتوب لا تتعدى مساحته بعض سنتيمترات قليله من الورق، بل تكمن القيمة الحقيقية في التركيز على المصالحة المجتمعية التي توفر الركيزة والدعامة لاستمرار الاتفاق وترسخه في النسيج الاجتماعي والسياسي للجسد الفلسطيني، وضرورة خلق القوى المجتمعية الذاتية التي قد تحول دون العودة إلى الخلاف والصدام، وفي اعتقادي إذا شعر كل طرف أن قوى المجتمع ومؤسساته فاعلة وقادرة على التحرك، فهذا من شأنه أن يشكل عاملا مهما في الحفاظ على أي اتفاق وضمان استمراره، والفرق كبير ما بين المصالحة السياسية والمصالحة المجتمعية، فالشعب الفلسطيني في حاجة إلى أن ينتصر ويتصالح مع نفسه، حتى يقتلع كل الشوائب والقيم السلبية التي دخلت حياته بسبب الانقسام، وهذه مسألة ليست بالسهلة، ولا تعالجها اتفاقات مكتوبة بقدر ما تعالجها استعادة القيم الخالصة لهذا الشعب من تسامح ونبذ للعنف والكراهية والثأر، ومن روابط عائلية وأسرية وفردية، وإبراز دور القيم الدينية السمحاء التي تدعو إلى الوحدة والأخوة، والتداعي بين أبناء المجتمع كما يتداعى أجزاء الجسد الواحد، ولا بد أن نؤكد هنا على قوة الشخصية الفلسطينية، وعلى أن حالة الانقسام والتشرذم التي نخرت في أجزاء الجسد الفلسطيني وجعلت منه جسدا وهنا ضعيفا غير قادر على الحراك أو مواجهة الاحتلال كانت بفعل عوامل مصطنعه، وليس لها علاقة بمكونات هذه الشخصية التوحيدية، فالشعب الفلسطيني مقارنة ببقية الشعوب الأخرى، لا يعاني من مذهبية، ولا طائفية، ولا حتى حزبية متعصبة وأن عناصر التوحد فيه أكبر بكثير من عناصر التفتت والتشرذم، وعلينا أن نعترف أن حالة الانقسام قد خلفت وزرعت ترسبات مجتمعية سلبية، فهناك من فقد ابنه وهناك من اعتقل وعذب، وهناك من اضطر لترك منزله وبيته، وسالت دماء وأريقت على الأرض الفلسطينية ومع ذلك تبقى لدى هذا الشعب القدرة على التسامح والترفع عن كل خلاف، وحتى التضحية والتنازل من أجل المصلحة العامة والعودة للوحدة، وخصوصا أن هناك احتلالا يبتلع الجميع، إذن نحن في حاجة إلى المصالحة المجتمعية وهي أساس أي مصالحة حقيقة، فمصالحة المجتمع هي مصالحة كل الشعب الفلسطيني، أما المصالحة السياسية فهي مصالحة عدد قليل من السياسيين، وقوة المصالحة تكمن في اندماج كلا المصالحتين، بمعنى تحول المصالحة السياسية إلى مصالحة الشعب، لقد عانى هذا الشعب من مظاهر الانقسام على مستوى الأسرة والعائلة الواحدة، وحتى على مستوى المصاهرة الاجتماعية، والعلاقات الأسرية، وعلى مستوى منظومة القيم والسلوكيات والتعامل الفردي، الذي حولنا جميعا إلى أفراد وليس مواطنين، وسلب منا الانتماء والولاء، وجعل الجميع يفكر في الهجرة وترك الأرض والأهل، وهذا في حد ذاته جريمة وطنية ترقى إلى مستوى الخيانة العظمى، لأن تحرير فلسطين يتحقق ببقاء أبنائها والمحافظة على أرضهم، بل وبتشجيع من خرج ومن يعيش في الخارج للعودة والبناء، وعليه فهذه المصالحة هدفها الأكبر ليس مصالحة سياسية فقط بل مصالحة من أجل إعادة البناء والتعمير والاستثمار، وإعادة ترشيد لكل عناصر القوة وإذا ما نجحنا فى ذلك نكون قادرين على التحدي والاستمرارية، هي مصالحة من أجل بناء نظام سياسي ديموقراطى حقيقي، وإعادة بناء بل واسترجاع منظومة القيم الحقيقة لها الشعب، وهذه مسألة ليست سهلة وتحاج إلى وقت وجهد، ورؤية ونوايا صادقة· ولعل هنا أشير إلى بعض مظاهر المصالحة المجتمعية، وأبدأها أولا بالمصالحة على مستوى المجلس التشريعي، ويفترض أن نواب هذا المجلس هم نواب الشعب، ولذلك السؤال هل هم قادرون على التصالح مع أنفسهم، في الفترة المتبقية، وأن يرسخوا ويقدموا نموذجا حقيقيا لهذه المصالحة؟ وهل يمكن أن نتصور عودة أعضاء المجلس إلى مقارهم وممارسة عملهم النيابي بما يخدم نوابهم وبما يمهد لانتخابات قادمة؟ وإذا ما نجح المجلس فسيقدم نموذجا وصورة صادقة للمصالحة، ومن المظاهر الأخرى إعادة النظر في دور وسائل التنشئة بكل أشكالها؛ التعليم والمساجد والقنوات الفضائية التي لعبت دورا تسميميا كبيرا، أن نعيد لهذه الأدوات دورها بخطاب إعلامي وسياسي تحكمه منظومة قيم واحدة، ومن المظاهر الأخرى عودة مظاهر المصاهرة الاجتماعية بين الأسر والعائلات الفلسطينية حتى تقوى الوشائج والروابط الاجتماعية، ومن المظاهر المهمة عودة الحياة المدنية ودور مؤسسات المجتمع المدني، وكل هذا من شأنه أن يوسع من مجال الحرية الفردية التي تحكمها حرية المجتمع، وتشجيع سيادة القانون التي تحمي حياة الفرد، ولا ننسى أن المجتمع الفلسطيني مجتمع يلعب الدين فيه دورا هاما، فهو مجتمع يعرف كيف يحافظ على دينه وقيمه، وخصوصا أنه مجتمع منفتح على كل الثقافات الأخرى وهذا يعطيه قوة دفع ذاتية تسمح له بالبقاء والقدرة على التحدي، وحدود هذه المصالحة لا تنتهي عند الحدود السياسية والمجتمعية والقيمية، بل إنها سوف تنعكس إيجابا على الوضع الاقتصادي، وعودة الاستثمار الفلسطيني، وبدلا من هروب هذا الاستثمار بسبب الانقسام سيعود إلى أرض الوطن ليبني ويعمر، مما يتيح الفرصة الكبيرة لاستيعاب الشباب الذي يبحث عن عمل وهجرة إلى الخارج· هذا هو المعنى الحقيقي والواسع للمصالحة الفلسطينية، هي مصالحة من أجل البناء والتحرير والاستقلال وإنهاء الاحتلال، فخيار الانقسام لن ولن يحقق أياً من هذه الأهداف المجتمعية والوطنية·