يضحكون، يتغامزون، يتشفون، يقهقهون.. أنا أتلوى. أصرخ. أبصق في وجه السماء وفي وجوههم. المطر يتساقط. شرطيان كالقطين الأسودين الشريرين. الأول يدخن، الثاني لا. سيارة بيضاء، اسعاف تولول. العالم مثل بصقة شمة. أنا أتلوى. هم مجرد أصوات، الآخرون مجرد أشباح. طفل أمرد يطل من الطابق السابع. النافذة مشرعة. زمه الشمطاء تصرخ به، (أدخل، ادخل) وأنا أمك، أمك، أمك، صوت آخر كالشيفون (أتركوه، أتركوه) أنا أقتلكم. جميعا وصوت الشيفون إرهابي، إرهابي. قهقهة تتفرقع في السماء. السماء حمراء وزرقاء، يا الله، يا الله أين أنت يا الله؟! الله هنا وهناك. الله هل أنت معي؟! صوت الشيفون، الله معهم. الله معه. المسكين. الضابط، أنا أتذكر الضابط، عينان مبحلقتان، صوت بارد وخادع وصوت الشيفون إرهابي، إرهابي. والطفل الأمرد يصرخ، ماما، ماما. وهي (ادخل، ادخل) وأنا أصرخ، أنا شير، أنا شير. أتلوى بين أيديهم، أقتلكم جميعا، أقتلكم جميعا. صوت باهت، المسكين تائب. الدم ينتقم. أشباح القتلى يتراقصون، يطيرون كالفراشات في السماء. والسماء حمراء وزرقاء. اللون الأخضر يتراقص. أصرخ. الجنة الجنة. وصوت الشيفون حذار، حذار. قاتل. أصرخ أمك. أنا مجاهد أنا مجاهد.. يتغامزون، رأيتهم، سمعتهم يقهقهون. صوت الشيفون، اطرحوه أرضا، أرضا اطرحوه أرضا. ضعوا الشكة. أصرخ أتركوني يا كلاب أتركوني يا كلاب، ثم راحت الأرض تتطاير في رأسي وفي دماغي وفي عيوني وراح الاسترخاء يضمني إلى صدره وصدره مثل صدر أمي. وها أنا أحلق كالطير الحر في السماء وصوت الشيفون خدروه، خدروه وها أنا أحلق كالطير الحر في السماء والمطر الأبيض من سابع سماء يتساقط خدروه، خدروه، والطيور البيضاء والصفراء تملأ قلبي زقازيق خدروه، خدروه وها هو العالم صفحة بيضاء، شديدة البياض خدروه، خدروه.. وها هي الكلمات تغرد، تفيض، تتساقط وتتراقص كالأوراق البيضاء.. ها أنا تدغدغني الحكاية صاخبة بالصمت العميق والحروف الخضراء.. أما السيارة البيضاء ابتسمت، كفّت عن النواح والولولة، أجل سمعتها تغرد.. إن لم تصدقونِ، فأنا سمعتها، والله سمعتها تغرد.. ديسمبر ديسمبر.. أهو حلم أم كابوس؟! حقيقة أم خيال؟! حكي أم هذيان؟! سواد أم بياض؟! وعي أم جنون؟! نظر أم رؤيا؟! حياة أم ممات؟! تنظر إلي الممرضة. وعين أخرى من ثقب الباب.. بيني وبينهم باب أزرق اللون. انتظر أن يفتح، انتظر أن يغلق. يضعون أكلاما على الطاولة. رجل يلبس لونا أبيض، أصلع غليظ الأنف، بدون شوارب. تمتد إلي يده. هو يتفحصني، يتبادل الكلمات مع طاقمه. صوت يقول، (أهو صوت الشيفون) هل استعاد وعيه. ثم كلمات كلمات تتطاير كالشظايا في بحر الطلاسم.. إنه يبتسم يقول، صوت الشيفون. ثم يخرجون كلهم. ثم وحده ديسمبر بارد وعارٍ وصامت كالحجر.. تتناسل الخيوط.. وحده ديسمبر يجلس أمامي (هل كان يضع على شفتيه جمرة حمراء؟!) ديسمبر، ينظر، يتأمل، لا يتكلم.. كان صافيا كالمرآة.. وكانت المرآة، تتصاغر ثم تتكابر.. أدخل جوف المرآة، واتكىء على شاطىء المرآة.. أحب شاطىء المرآة، شاطىء ديسمبر.. وأرى.. كان رأسي معلقا في أعلى شجرة التوت. شجرة التوت وارفة الأغصان.. أنا، وأبناء خالي وبنات خالي وأبناء وبنات الجيران، نلتف حول شجرة التوت.. والتوت أسود وأحمر.. في قناة الجزيرة، رجل يصرخ، ينهق (سقطت ورقة التوت، سقطت ورقة التوت) البنات الجميلات في غابة ماكدرة، يذهبن كل مساء وهن يحملن السلال حتى تمتلىء بحبات التوت.. يصعد ابن خالي إلى أعلى شجرة التوت، ونحن نصرخ كالمجانين (ما أروع الطفولة) توت، توت، توت وها هو رأسي، رأسي أنا، معلق في أعلى شجرة التوت.. الكلمات تلونت بلون التوت. الشوارع تلونت بلون التوت.. صارت الشوارع، والمدن، والساحات ملونة بالتوت.. الشوارع حمراء وسوداء، توت المدن حمراء وسوداء، توت الساحات حمراء وسوداء، توت توت توت توت رأيت المطر، كذلك يتساقط بغزارة الجثث أيضا تتساقط بغزارة والرصاص، الرصاص، الرصاص، كذلك يتهاطل في جوف الليل بغزارة.. والناس قابعون كالجرذان في جحورهم، ولاشيء غير التوت، والمطر والجثث والرصاص.. وأنا مسجى كالميت، كالقتيل.. رصاصة في ظهري، رصاصة في رأسي أهلي وأحبتي من حولي يبكون، وأمي تصرخ، تتخبط كالدجاجة الذبيحة.. أرى.. مجرد أرى.. ثم أصوات كاليعبوب الهادر الأسود تندلق من النافذة، ومن كل الثقوب السوداء.. قتلوه، قتلوه.. ثم فروا تحت جنح الظلام، كنت أرى ينعقون، شير، شير، شير، وأنا، توت، توت، توت ومن أعلى شجرة التوت، كنت أرى.. رأيت الله، صامتا، غاضبا، جليلا يحدق في أنامه.. ينظر إلى خلقه.. والخلق دم وتهافت وجنون رأيت النجم يسير رأيت النجم يتهاطل على رؤوس الأنام.. رأيت الله هنا، وهناك.. رأيته ما بين هنا وهناك.. يتجلى.. أرى التجلي يسطع في السماء.. اغتسل بالمطر، بلون القمر وبالدم الفياض والروح المنبجس من منبع التيه.. وكذلك يا الله القابع في أعماقي من أعلى شجرة التوت قدمي الموشمتين.. كانت عاريتين، باردتين، جامدتين. وذاك الحذاء الأسود المكفهر الكئيب كالمدينة من سوق المدينة ملقى في حالة ضياع خلف الشجرة.. أما اللسان، لساني الكالح فقد كان ملقى على غصن شجرة التوت.. وأما الصراخ يصاعد إلى سدرة منتهى رأسي.. وأما الأشباح، قصدت جمهرة الأشباح فهي كمفاتيح السور، كألف لام، كص، كنون ترتدي عباءة الرمز البيضاء، تحمل القناديل الراقصة، وتحث الخطى في هودج جنائزي باتجاهي، أنا الذي فقدت رأسي، وفقدت عيوني، وفقدت يدي وفقدت رجلي وفقدت عقلي ولم يعد لي سوى ذاك الخرير المتصاعد في غياهيبي.. وتحث الخطى باتجاهها، شجرة التوت وأيضا وليعلم الجميع، كان ثمة أزيز يملأ المكان ويصم الأذان.. نحل أسود مستوحش كان يلتف بجنون حول شجرة التوت أصابعي يا الله.. متناثرة كالعقد المشبوه في المكان الفاسد، بينما روحي، يا أتفه وألعن روح ها أنا أراك تشطحين كما الجنية النزقة تحت زخات المطر المتساقط كالأسياخ المتغازرة.. وفجأة يستيقظ العالم، يستيقظ الحلم من قلب الكابوس، أتحسس جسدي، هو ينضح بالحمى والعرق. كنت عامرا بالجمر واللهب، أنضح أنا شير بالهذيان، كنت كالهذيان.. كنا سواء.. انظر إلى الجدار المتمايل تشير الساعة إلى خامسة ما إلى نصف ما إلى صباح ما توك توك تيك.. هل للساعة قلب؟! هل للزمن روح؟! هل للموت وجه؟ هل للدنيا قناع؟! هل للكلمات معنى؟! هل للرواية جسد؟! هل للعقل وجود؟! هل للوجود دلالة؟! وهل لكل هذا الصراع البذيء توك وتوك وتيك؟! الساعة مثبتة مثلما هو القدر الأرعن مثبت على جبين الكلمات على الجدار المتمايل. أجل، ولقد تأكدت من الأمر بنفسي التأكيد كله عندما تركت السرير وأزحت الغطاء جانبا وأنرت الغرفة ورحت وكأنني أبله مفزوع أحدق بشراسة في وجه الساعة الجدارية. ورحت أعد، اثنتا عشرة، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، إحدى عشرة ثم اثنتا عشرة.. ولعلمكم ثمة شيء جلل لازلت أتذكره وأذكره، وكأنه حدث اللحظة.. وهو الأصوات.. ألف لام صاد واو ألف وتاء ومجموع كل ذلك، الأصوات ولقد لاحظت، أنها، الأصوات تأتي، تنبجس خافتة، متصاعدة، ملتوية، متشابكة، مزدحمة، متشظية أصوات كالنشيج، أصوات كالعويل، أصوات كالنحيب، أصوات كالنعيق، أصوات كالزفير، أصوات كالنواح، أصوات كالصياح، أصوات كالأنين، أصوات، أصوات كالصياء. توقفت، وكدت أصدق أن العالم كله من أمامي ومن خلفي ومن داخلي ومن خارجي توقف. كدت أصدق، لكن هل توقف من أمامي وخلفي ومن داخلي وخارجي؟! من يصدق؟! وتساءلت بصوت آخر، مرتبك (من أين تأتي يا أيتها الأصوات؟!) تبخر الجواب، وكأنه الروح تبخر.. رأيته يتبخر في صمت لافت للنظر.. انتباه: الغرفة كانت خالية من الحياة.. الغرفة، في مستشفى الأمراض العقلية.. لها نافذة تطل على ساحة فسيحة.. أناس، يجلسون، يتحدثون إلى أنفسهم وإلى العالم الذي لا يرى.. أناس يضحكون، لا أحد يشارك غير أنفسهم ضحكاتهم.. أناس يركضون، يجلسون، يبكون، يصاعدون إلى السماء ثم يعودون.. أناس يركلون بأقدامهم الحافية أرواحهم التي تشبه كرات خفيفة وجلدية.. الغرفة كذلك باردة.. وكانت كذلك باردة مثل جثة.. وهرب الناس، عندما رأوه، ذلك الشبح الذي كان يحمل محفظة سوداء يسقط.. كم رصاصة اخترقت رأسه؟! هرب الناس.. وفي الغد، كل الناس الذين هربوا عندما سقط ذلك الشبح قرب عمارته، كان صحفيا.. ما معنى أن يكون ذلك الشخص، أو امرىء ما، صحفيا..؟! يخبر الناس. ينقل إلى الناس أخبارا.. وتلك الأخبار.. أخبار الحياة، أخبار الموت؟! لكنه، ها هو يسقط، وهم يهربون.. لا أفهم، لماذا يختار مثل هؤلاء الأشباح حرفة إخبار الناس.. أنا لا أريد أن أخبر الناس.. أنا أكره، من يخبر الناس عني.. اعتقدوا أنني، كنت أخبر الناس عنهم..؟! أنا قلت لا أخبر الناس.. كنت أذهب إلى دار الصحافة.. لكنني لا أخبر الناس.. مهنتك؟! بعد أن تصفح ذلك الشرطي أوراقي؟! قلت: مصحح؟! مصحح؟! أجل مصحح.. تصحح ماذا؟! في الجريدة؟! تصحح ماذا؟! الأخطاء؟! الأخطاء؟! أنت صحفي؟! أنا مصحح.. إذن أنت صحفي.. أنا تقني.. الغرفة باردة كالجثة.. أجل كالجثة.. الجثة؟! كم، كان عمري؟! الجثة. كلهم صرخوا جدتك ستموت، انهض. ونهضت مفزوعا. لكن لماذا ستموت؟ منذ أن فتحت عيني والناس تموت. منذ أن جئت إلى الحياة من صلب أمي والأقارب والأباعد يموتون. النمل يموت. الكلاب تموت. الخنازير تموت. الزعماء يموتون. الرؤساء يموتون. المجرمون يموتون. القطط تموت. النباتات تموت، الزمن يموت. لماذا، هكذا، هكذا، الكثير يموت. مثلا أنا رأيتني أموت. ها أنا أموت. صرخوا أجل سترحل، هناك حيث الجنة والنار، حيث العالم لا يموت. كان رأسي مشوشا. شعرت بالخجل والخوف لأن سروالي الأسود مثل حذائي الأسود كان مبللا وخشيت زعاق أمي وضحكات إخوتي وأخواتي وزمجرة والدي. تناومت. وكل الأصوات تصرخ بي، انهض جدتك ستموت، خرجوا من الغرفة، ذهبت باتجاه الخزانة العتيقة وأخفيت سروالي المبلل بالبول وارتديت سروالا وقميصا. ثم خرجت من البيت الصغير إلى الدار الكبيرة اللاصقة ببيتنا الصغير، وكانت الباحة تغص بالنساء والرجال والأطفال. قادني والدي من يدي وأدخلني حيث كانت جدتي تحتضر، عينان مبحلقتان في السماء. اصفرار مر في العينين الملطختين بالبياض والاحمرار الباهت.. وكانت الأصوات المتعالية والمقرفة تحثها على الشهادة.. أشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ولأول مرة يا الله رأيته.. أجل كان يرتدي لباسا غامضا مليئا بالدهشة الخفية كان يقف أمام رأس جدتي.. كان يبتسم كان جليلا وهادئا وصامتا كان يحرك شفتيه المدهشتين كان يندلق من بينهما شيء كالطيف المسحور كانت الطيور المزركشة الألوان تخرج محلقة بشكل متتالي.. وأما هم كانوا يتظاهرون كاللامبالين بعدم مشاهدته وهو كان يعلم، أنهم يدّعون اللامبالاة.. هل كانوا يتجنبون رؤيته؟! هل كانوا يتجنبون مشاهدة المصير اللاحق؟! على كل حال، تظاهروا باللامبالاة.. كان ينظر إلي.. حدق في ملامحي مليا.. لم ينبس بكلمة كان يحمل شيئا ما، في يده.. في يده اليمنى أم اليسرى.. لا أتذكر.. أشار إلي.. خيل إلي أنه أشار إلي إن الأوان قد حان وعندئذ نظرت إلى جدتي وقربت فمها الأدرد من أذني.. وتلك الهمهمة لازلت أتذكرها.. «اسكت.. أنت الوحيد الذي. رأيته.." بقيت جامدا كالصخر الأبكم أحدق في وجه الموت.. ثم رأيتها كالفراشة تحلق في أفق بعيد بلوزتها البيضاء تبدو خفية كفراشة بيضاء.. صرخت.. انظروا، انظروا.. جدتي فراشة انظروا، انظروا.. جدتي بلوزة بيضاء انظروا، انظروا.. جدتي تحلق انظروا، انظروا.. جدتي أفق بعيد يا أيتها النفس.. يا أيتها النفس ارجعي، ارجعي إلى ربك ارجعي، ارجعي.. راضية، ارجعي.. إلى ربك ارجعي مرضية ارجعي وادخلي، وادخلي ارجعي، ارجعي إلى ربك.. جنتي.. جنتي.. يا أيتها النفس.. يا أيتها النفس.. لكنهم لم يروا شيئا.. لم يسمعوا شيئا.. يا أيتها النفس يا أيتها النفس..