ثمة شيء مقدس عند سعد الله، هو العلم. ومن أجل العلم كابد الآلام، آلام النكران وآلام الغربة والتهميش وآلام المرض والمعاناة، والعلم عند سعد الله هو الضامن الحقيقي لنقاء واستقلالية الإنسان والمفكر “منطلقات فكرية" كان الكتاب الأول الذي طالعته وأنا في سنتي الأولى بمعهد العلوم السياسية والإعلامية للمؤرخ بلقاسم سعد الله، ثم توالت قراءتي له في مجال التاريخ والتاريخ الثقافي في الجزائر، ولم أكن في البداية ميالا لتوجهات سعد الله، بحكم ميولاتي الثقافية والإيديولوجية التي كنت أدافع عنها وأنا لازلت طالبا، فلقد كان سعد الله متحفظا تجاه الحركة الثقافية البربرية بشكل خاص ومتحمسا لأنصار التعريب المتشددين القريبين من التيار القومي البعثي والوطني المحافظ في حين وأنا الذي كنت أكتب أساسا باللغة العربية ومولعا بالكتابات الشعرية والنثرية لفطاحل الشعر وأمراء النثر فلقد كانت تلك المقاربة المحافظة تضايقني ولم أكن أنظر إليها إلا بعين الشك لأنها كانت تتسم بالانغلاق والجمود والجنوح نحو الأصولية الدينية القائمة على النظرة الأسطورية، الأحادية والبسيطة إلى درجة الابتذال الذي أنتج العقل الإسلاموي المغلق على نفسه والرافض كل مُخْتَلف معه.. ولقد رأينا النتيجة فيما بعد كم كانت محزنة وكارثية وبائسة.. لكن مع ذلك ظل شيء ما يجذبني إلى هذا المؤرخ والكاتب خاصة بعد إطلاعي على كتاباته في مرحلة الشباب مثل “منطلقات فكرية" وهو عبارة عن مقالات وأبحاث كانت في الفكر والثقافة وفي السجال الثقافي والجهد الفكري في البحث عن طريق خاص تتلاقى فيه أصالة الهوية بروح الانفتاح على حداثة العالم.. وتطورت علاقتي مع أعمال سعد الله بشكل متئد وهادىء خاصة بعد إطلاعي على عمله الضخم والمثير الذي أفنى فيه سنوات من عمره، وهو المتعلق بتاريخ الجزائر الثقافي من الفترة العثمانية إلى عشية استقلال الجزائر، وتستغرق مدة زمنية ضاربة في الزمن القديم، تكشف ليس فقط عن النتاج الثقافي من أدب وفقه وتاريخ وفلسفة وتصوف وعمران وفنون، بل كذلك عن مسارات العلماء والمثقفين وعلائقهم بالحكم وبالمجتمع وبالحياة وببعضهم البعض وبالإدارة الاستعمارية وبالاتجاهات التي ظل يفرزها ميزان القوة المتجدد والمتحول والمتغير.. استغرقت قراءتي ومتابعتي لأعمال سعد الله في الشأن التاريخي عموما، والشأن التاريخي الثقافي خصوصا منذ المنتصف الأول من الثمانينيات بحيث درست يومها الجزء الأول والثاني، لأطلع فيما بعد على الأجزاء التي راحت تصدر بشكل متتالي خلال كل هذه السنوات الطويلة التي عرفت الجزائر في ظلها أحداثا عميقة وجذرية اتسمت بالحدة والصدمة في تحول القيم والسلوكات والنظرات.. ولقد تمكنت من الحصول لدى باعة الطريق على الأجزاء العشرة من تاريخ الجزائر الثقافي، ثم أبلغني صديق أن ثمة إعادة نشر لأعمال سعد الله كاملة صدرت بمناسبة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، ولقد استطعت بفضل هذا الصديق أن أشتري المجلدات التي جمعت أعمال سعد الله كاملة، وكانت بهجتي بذلك كثيرة، بحيث جعلني ذلك أعيد قراءة ما ضاع مني، وأطالع أعمالا كنت أسمع بها، سواء كانت ذات طابع أدبي محض أو تاريخي أو فكري، كما اطلعت على مجمع المقالات التي كتبها سعد الله في ظروف ومناسبات مختلفة، وأكثر ما أثار في نفسي البهجة والاعجاب، هو اكتشافي لتلك الأجزاء المهمة من نشاطه الثقافي أو الإبداعي المتمثل في مجلدات “مسيرة قلم" سمحت لي هذه الأجزاء ليس فقط بالتعرف على مسار سعد الله الثقافي والاجتماعي والعلمي، بل أيضا على مسار جيله، من المثقفين والمفكرين والباحثين الجزائريين وغير الجزائريين من أمثال الراحلين عبد الله الركيبي وأبو العيد دودو، لكن كذلك على الحياة السياسية في المجتمعات العربية من تونس، إلى الجزائر إلى مصر إلى غيرها من البلدان العربية، وذلك من العام 1956، إلى السنوات الأخيرة.. إنها سنوات زاخرة مليئة بالآمال العريضة والإحباطات والخيبات الكبرى والمهولة، وكذلك بالإرادات والأحلام والكوابيس، وعامرة بشجاعة الناس ونذالات البعض، وبالمخاوف والقلق ولحظات اليأس والانفراجات.. وعبر كل لحظات السواد والبياض التي يرويها سعد الله ليس فقط بقلمه وعقله وقلبه، بل بكل جوارحه ولحظات قوته وضعفه وشكوكه ورجاءاته، لقد اكتشفت كيف تحاشى سعد الله في أكثر من مناسبة تجنب تقلد المسؤوليات عندما عرضها عليه مسؤولون جزائريون، كرئيس للجامعة، ثم كوزير، وكاتب دولة في وزارة الثقافة والاعلام.. ولم تكن اعتذاراته خوفا من تحمّل المسؤولية، بل كانت تكشف لنا عن معدن أصيل، هو معدن المثقف المستقل، المثقف النقدي والحريص إلى درجة الغيرة على حريته وتلك المسافة التي يجب أن يتمتع بها كل مثقف حقيقي من ذوي الضمائر الإنسانية الحرة.. ثمة شيء مقدس عند سعد الله، هو العلم. ومن أجل العلم كابد الآلام، آلام النكران وآلام الغربة والتهميش وآلام المرض والمعاناة، والعلم عند سعد الله هو الضامن الحقيقي لنقاء واستقلالية الإنسان والمفكر ولإخلاصه ووفائه تجاه خالقه ووطنه وأبناء وطنه وأفراد عائلته وأبناء الجيل الجديد.. تستطيع ألا تتقاسم الكثير من الآراء مع سعد الله، لكن دون شك لا تستطيع إلا أن تقف أمام هذا المسار الفكري المتنوع، وأمام هذه التضحية المثيرة للإعجاب، وأمام هذا التواضع، الذي لا يمكن أن يوصف إلا بتواضع العلماء والأنبياء والرجال العظام ومحييا ومقدرا وشاكرا الله أن منحك فرصة العيش قي زمن سعد الله.