في البداية، نترحم على روح فقيدنا المغفور له بإذن الله سي عبد الرزاق بوحارة المجاهد والقائد والضابط والمسؤول والقيادي والسياسي والدبلوماسي والمناضل والأخ والأب والصديق والمثقف والمفكر والكاتب وفوق كل ذلك كله عبد الرزاق بوحارة الإنسان الذي أحب أهله وعشيرته ومنطقته حتى الهيام وأحب من خلال ذلك، الجزائر كلها،حضارة،وتاريخا، وأرضا، وشعبا. وفرض حبه على كل من عرفوه وعاشروه لنقاء سريرته ولعفته وتواضعه ولبساطته وثقافته الواسعة، وتلك صفات قل ما تجتمع إلا لدى القليل من عظماء الرجال. إنه لشرف عظيم لي أن أحاول إلقاء بعض الأضواء على جانب من جوانب شخصية الفقيد العديدة، وعلى الرغم من أن هذا الجانب لا يقل أهمية عن جوانب شخصيته الأخرى، فهو أقلها معرفة عند الجمهور الواسع. وذلك من خلال تقديم أعمال سي عبد الرزاق الفكرية في هذه المناسبة التأبينية. وإنني لواع بأن الأمر سيكون في غاية الصعوبة لأنني لا أدعي امتلاك كل الكفاءات والأدوات التي تتطلبها مثل هذه المهمة العويصة وفي هذه المناسبة بالذات. ذلك أنه من غير الميسور اختصار عمل إبداعي كبير مثل ما كتبه بوحارة في مؤلفين في عدد من الصفحات القليلة وفي دقائق معدودات. لذا أرجو أن تعذروني سيداتي سادتي الحضور، إن لم أوف سي عبد الرزاق حقه أو لم أوفق في تقديم ما هو منتظر مني. لقد كان لي شرف ترجمة كتابه الأول »منابع التحرير« إلى العربية، الأمر الذي سمح لي بمجالسة المؤلف لساعات طويلة ومحاورته وإجراء مناقشات طويلة معه رحمه الله حول جوانب عديدة من الكتاب ومن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لجزائر الأمس واليوم. وقد تعددت اللقاءات وامتدت إلى ما بعد صدور النسخة العربية للكتاب، حيث كان يطلب مني باستمرار ترجمة كل تدخلاته وآرائه وأفكاره السياسية الجريئة والشجاعة التي كان رحمه الله يسهر دائما على تدوينها وتقديمها باللغتين حتى تكون واضحة للجميع ولا تقبل أي تأويل، وتبقى للتاريخ كما يقول، ولا يهمه في ذلك لوم لائم. وقد كانت كل هذه المناسبات لحظات سعيدة بالنسبة لي، تعلمت فيها الكثير وكان لي في ذلك نعم الأستاذ. من هذا الموقع وبهذه الصفة، سألقي في هذه العجالة، بعض الأضواء والأفكار والانطباعات والآراء التي كونتها عن هذا الإبداع وعن سي بوحارة رحمه الله. وأشير في البداية إلى أنني أرى أن الصورة الفنية الإبداعية الشاملة التي أراد المؤلف أن يقدمها للقارئ لا تكتمل إلا من خلال الكتابين معا. وأنه لا يمكن إجراء قراءة وافية ومعمقة لأحدهما دون الآخر. فالكتاب الأول: منابع التحرير، أجيال في مواجهة القدر يتبع التسلسل التاريخي كما يقول المؤلف نفسه: فالجزء الأول معروض كصورة شاملة لظروف معيشة الجزائريين في الريف وفي المدينة خلال العشرين سنة التي سبقت ثورة نوفمبر المظفرة. فالمنطقة المعزولة وبلد الشجعان والقلعة الكبرى، تعرض صورا ملاحظة، وانطباعات محسوسة من طرف أبصار أطفال ومراهقي تلك المرحلة وبصيرتهم. في حين أن الجزء الثاني والذي أميل إلى وصفه كما يقول الكاتب بطفرة الشعب الكبرى، فهو سرد لمظاهر المعركة من أجل الحرية والاستقلال. وهكذا، تتناول دروب الحرية والأولويات المحتومة الثلاث ظروف ميلاد هيئة جديدة في وسط الأمة وتطورها، وهي جيش التحرير الوطني. في حين أن الجزء الثالث قد خصص للتحولات التي طرأت على جيش التحرير من حيث مشاكله، وكيفية سيره، ومن حيث تقنيات المعركة التي استعملها والتركيبة البشرية المؤطرة له. وقد حاول المؤلف من خلال القاعدة الخلفية، وجيش التحرير الوطني على الحدود الشرقية والسنوات الأخيرة للحرب، إطلاع القارئ على وحدات مقاتلة، يقول إن دورها العسكري لا يزال محل خلاف. وفي الجزء الأخير من الكتاب: مناورات نهاية الحرب، يقول الكاتب: خاطرت بتناول موضوع الدور السياسي للوحدات الحدودية، أي التأثير الذي مارسته هذه الأخيرة لتغيير مسار اتخاذ القرار السياسي داخل الهيئات العليا للثورة. والكتاب الثاني: من الجبل إلى حقول الرز: بخصوص المقاومات فيلقي بعض الأضواء في جزئه الأول على ظروف تحرير البلاد وبناء قواتها العسكرية غداة الاستقلال. وفي جزئيه الثاني والثالث، يسلط أضواء على تضامن الجزائر الفاعل مع شعبين من الشرق الأوسط وجنوب آسيا. ففي الجزء الأول من هذا المؤلف يتناول الكاتب: - الفترة الانتقالية التي تلت اتفاقيات إيفيان، وتنظيم عودة اللاجئين من تونس - المشاكل التي عرفها جيش التحرير غداة الاستقلال - الأزمة السياسية التي تولدت بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة - الدخول إلى الجزائر - قضية محند ولحاج (أو ما يسمى بقضية القبائل) - تحول جيش التحرير الوطني إلى الجيش الشعبي الوطني وعمليات بنائه أما الجزء الثاني فقد تمحور فيه تفكير الكاتب بوحارة حول الظروف التي شارك الجيش الوطني الشعبي في ظلها في مقاومة الشعوب العربية، على إثر اعتداء إسرائيل وحلفائها في .1967 كما يتعرض الكاتب إلى أسباب الهزيمة، مع إبراز حركية إعادة بناء القوات المصرية وتضامن الجزائر مع مصر، وثبات دعم الجزائر لفلسطين، ومناورات القوات العظمى في المنطقة. وقد اهتم الجزء الثالث من المؤلف بالفيتنام بصفة خاصة، وبلدان الهند الصينية عموما. ويتعلق الأمر بالدرجة الأولى بدعم الجزائر وتضامنها مع بلدان المنطقة في كفاحها من أجل الحرية والاستقلال. واستعراض المعركة التي خاضها الشعب الفيتنامي البطل، مع إبراز صور التفاهم والتضامن بين الشعبين الفيتنامي والجزائري. ويتعلق الأمر في هذا المؤلف بمقاومة الشعوب في هذه المناطق الثلاث من العالم. ويصل الكاتب إلى الاستنتاج بأن انتصار الثورة في كل من الجزائر وفيتنام تحقق بسبب التناغم والتلاحم بين الشعب والجيش. بينما كان أحد أسباب الانتكاسة التي مني بها جيش مصر هي انفصاله عن الشعب في تلك المرحلة. هذا باختصار وبسرعة كبيرة، عرض موجز لأهم محتويات الكتابين . وإنني أرى أن هذا العمل الإبداعي الذي أنجزه الراحل بوحارة يختلف اختلافا جذريا عن سلسلة الكتب المذكرات التي نشرت في السنوات الأخيرة للعديد من المجاهدين والمسؤولين، لاسيما بالنسبة لمنابع التحرير، من حيث المحتوى والمنهج، والأسلوب. إذ أن الكاتب بوحارة رحمه الله، قد استطاع أن يصف بأدوات بليغة وبدقة كبيرة الوضع الاجتماعي والتحولات الكبرى، والوقائع التي طبعت حقبة هامة من تاريخ الجزائر، تمتد على أكثر من 40 سنة، بحبكة ومهارة لا تختلفان عن حبكة ومهارة كبار الكتاب والمبدعين. فعبد الرزاق بوحارة الكاتب إنسان مرهف الحس، له قدرة فائقة على الوصف، ليس وصف الأشياء والأحداث فحسب، بل وصف المشاعر والأحاسيس والعواطف والعلاقات بين الأفراد كذلك. وهو بالإضافة إلى كل هذا مشبع بالثقافة الشعبية لمنطقته، ولمدينته، ولبلده، ولكنه مشبع كذلك بالثقافة الإنسانية بوجه عام. كما أنه يتسم بالروح العالية والترفع، ونكران الذات، والإيثار. لذلك نجده يقول: إن الطريق الإبداعي الذي أسلكه يميل إلى تفضيل معاني الأحداث وأبعادها على أوصافها الحقيقية والأمينة. كما نجده يختفي وراء الأحداث كي لا يتكلم عن نفسه، وهو اختيار لازم الكتابين، تجسيدا لروح التواضع والإيثار التي تحلى بها الكاتب الذي لم يسع إلى تضخيم نفسه على حساب وقائع التاريخ، فحو يخفي شخصيته وراء الأحداث كما يشهد على ذلك المفكر محمد الميلي. وفي هذا السياق، نجد الأديبة والكاتبة الكبيرة زهور ونيسي تقول في تقديمها للنسخة العربية من كتاب منابع التحرير: لم يكن الكاتب يتحرك من قاعدة ذاكرة ذاتية شخصية ضيقة نرجسية مثل بعضهم- لكنه كان يتحرك من قاعدة الذاكرة الشعبية الجماعية: الناس، مشاعرهم، وأحاسيسهم، وردود أفعالهم، بل حياتهم في جميع جوانبها....، كان يتحرك من خلال نظرة شمولية للإنسان في محيطه الصغير، ثم محيطه الكبير. وها هو (الكاتب) تواصل زهور ونيسي، يتحفنا في الأخير بهذا الإنجاز الهام والذي لا يكتفي بالتأريخ للحركة الوطنية والثورية فحسب، ولكن ليصور لنا الإنسان والمجتمع، بدءا من مدينته الجوهرة الحالمة في ضفتي جبل الغوفي الأشم على ضفاف المتوسط، إلى محبوبته سيرتا وشوارعها ودروبها. حيث تنام وتصحو حضارة شعب عريق، وذلك بتطرقه لمختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والفكرية. فتساير كتابته، ويحاكي أسلوبه دون وعي منه، جده الكبير ابن خلدون، وهو يصف المغرب العربي ز انتهي كلام زهور ونيسي. وفي السياق ذاته، نجد أن الكاتب يختار أبطاله من عامة الشعب ومن البسطاء من أمثال: بائع الدجاج، والبراح، والمكاس، والبانكا، وموسطاش، وعمي محمد السيكليست والسيد قريقوار وزوجته وابنتهما كولات، وموستيك، في رائعتيه Lenclave des braves la grande citadele، وجنود بسطاء كثيرون في الأجزاء الموالية، وكذا العديد من الشهداء الذين ضحوا من أجل الحرية والاستقلال، ولم ينصفهم التاريخ والأحداث. كما أن الكاتب في عمله الكلي (الكتابين) يتفادى الوقوع في تمجيد الثورة وأبطالها الأحياء منهم خاصة. فلم يركز كثيرا على المعارك المظفرة التي خاضها جيش التحرير الوطني، وما أكثرها كما نعلم جميعا، ولا على القادة الكبار، ما عدا الأموات منهم. بل ركز على الثورة في أبعادها الإنسانية. وهو يبرر اختياره هذا بقوله: كما يقول في مقام آخر: 'كان كفاح التحرير الوطني سلسلة من المراحل الإيجابية والسلبية. وبالرغم من أن الإيجابيات تفوق السلبيات، فإننا مدعوون لتثمين المراحل الإيجابية وتجنب إهمال السلبيات، أو التقليل منها. بل ينبغي دراستها بدقة، من حيث أسبابها، والدروس التي يمكن استخلاصها. وكما هو الشأن بالنسبة لجميع الأعمال الإنسانية الكبرى، فقد عرفت ثورتنا نكسات رجال، وسجلت حالات تخلي واستسلام''. وهكذا، فإن الكاتب عبد الرزاق بوحارة قد حاول من خلال عمله الإبداعي، أن يقدم بعض المعلومات التي من شأنها، كما يقول رحمه الله، أن تساهم في تحسين فهم تطور الوضع العام في بلادنا، أكثر من محاولته تقديم إجابات عن تساؤلات مترددة لدى الكثيرين حول الأوضاع والتحولات والتطورات التي تشهدها الساحة السياسية. ويتساءل الكاتب في هذا السياق وكأنه يصرخ بأعلى صوته: - ما ذا حدث في بلاد نوفمبر - ماذا حدث كي يشوه مشروع سياسي نبيل وسخي، للعدالة والرقي الاقتصادي، والاجتماعي، إلى أن يصبح محل الانتقاد الجارح، والإدانة القاسية ؟ - ما الذي حدث للشبيبة التي كانت بالأمس مجندة ومتحمسة ومتطوعة ومندفعة، كي تجد نفسها اليوم حائرة، ومن دون مرجعيات ز. وكأني بالكاتب يدعونا أن نتفحص الأحداث التاريخية، لفهم الصعوبات التي تجتازها الجزائر اليوم. وفي استخلاصه للنتيجة يرى سي عبد الرزاق بوحارة أن ثلاثة أجيال من الجزائريين قد عرفت الجزائر خلال نصف قرن من الزمن على صورتين: - جزائر منطق الانتصار - وجزائر الشك ويتساءل: هل سيعرفون جزائر ثالثة ؟ هي جزائر منطق الثقة المسترجعة وديناميكية التجديد. فالجزائر الأولى كانت صاعدة إلى الأعالي، بفعل الوطنية التحررية. وتبدو الثانية اليوم وكأنها تشك في مشروع الحركة الوطنية، وتبحث عن معالم أخرى. أما الجزائرالجديدة التي تلوح في الأفق، فستعرف من دون شك، بعد انتهاء المرحلة الانتقالية التي طال أمدها، وطال معها انتظار تسليم المشعل، ستعرف كيف تتصالح مع ماضيها من أجل إرساء قواعد متينة لجسور الغد الذي سيكون لا محالة مشرقا. وإذا كان الفقيد المجاهد والكاتب بوحارة قد ترجل أخيرا وذهب للقاء ربه في الدرجات العليا إن شاء الله، دون أن يرى هذه الجزائر الثالثة فإننا نتأسف لفقدانه كأحد عظماء هذه الأرض المعطاءة، ونتأسف كذلك كقراء لكوننا لن نقرأ له جزءا ثالثا من إبداعه المستنير عن المرحلة الانتقالية بين جزائر الشك وجزائر الثقة المسترجعة كما يقول رحمه الله. لكن عزاءنا في فقيد الجزائر كلها يكمن في كل ما تركه من عبر ودروس ومواقف وذكريات و صورة ناصعة تركها للجميع. كما يكمن عزاءنا بصفة أخص في هذا الموروث الفكري الذي لا يزول ولا يفنى، وسيبقى نبراسا ينير الأجيال القادمة على مر الأزمنة والعصور. نسأل الله العلي ألقدير أن يتغمد روحه الزكية الطاهرة وأن يسكنه فسيح جناته. صالح عبد النوري مترجم كتاب ''منابع التحرير'' كلمة ألقيت في الحفل التأبيني للمرحوم الذي نظم بسكيكدة يوم 9 مارس 2013