السينما الحرة في إيران، تناضل من أجل تمزيق الصورة النمطية التي تسعى السلطة إلى تأكيدها في المحافل الوطنية والدولية، سينمائيون أحرار، رجال ونساء، يحملون من عاصمة إلى أخرى أعمالهم المعبرة عن مستجدات مجتمعهم المتحرك. يرون بالصورة الملونة والموسيقى الزاهية، بلغة فارسية مدبلجة إلى العربية أو الفرنسية، قصص شعب يحلم بأرض لا تهددها العقوبات الدولية، وتحتضن ميولاتهم المقبولة وغير المقبولة. السينما الإيرانية التي زارت الجزائر عمر أسبوع كامل، لم تحمل كل عبيرها إلى الجزائريين، بعد تدخل غير مناسب للسفارة الإيرانيةبالجزائر. ومع ذلك كانت الأعمال المقدمة بطعم السكر والخبز الصباحي الطازج. درس يحكي حكايات الزيف والكذب، وينظر بعمق إلى الفرد الإيراني المتأثر بالنموذج الغربي، ورحلته الصحراوية للبحث عن الأصل. قبل أن تصل السينما الإيرانية إلى شكلها الجماهيري المعروف، كانت في البدء رفاهية لا تقدر عليها سوى الطبقة الغنية والراقية. في ال 10 جوان 1900، بعد رحلة الشاه مظفر الدين إلى فرنسا، لحضور أحد العروض هناك، سحرته الشاشة الكبيرة، فأمر مصوره الخاص ميرزا ابراهيم خان، بشراء كاميرا من نوع “غومونت". كانت تلك الكاميرا تدور بأمر من الحاكم، لا تصور إلا أفلاما تحت الطلب، تلتقط حركة بعض الفعاليات كعيد الزهور، احتفالات شهر محرم وحديقة الحيوانات مثلا، لكنها مع الوقت كانت تؤسس لثقافة ستزهر نتائجها في السنوات اللاحقة. ربما هو القدر السينمائي للمصور ابراهيم خان، ليكون أول مالك لقاعة سينما في إيران أيضا، ومرافقته للشاه اطلعته على سحر الصورة، جمالها، روايتها المميزة للأحداث في قالب درامي متناسق. وقد بدا في تصوير أفلام قصيرة، عرضها في قاعته بإيران، أمام جمهور مبهور بما يحدث في مدينتهم. يتذكر الإيرانيون بداية الفن السابع في بلادهم، أيام كان لرجال طهران مطلع القرن العشرين، حظ مشاهدة أفلام فرنسية تم شراؤها للاستهلاك الجماهيري، وولوج قاعات كبيرة فتحت أبوابها تباعا، في الفنادق الفخمة والأماكن العمومية، إلا أنها لم تسلم من عين الرقيب، الذي عرض إبراهيم خان، إلى جملة من الضغوط، دفعته إلى مغادرة البلد، والتخلي عن حلمه وعن معداته. في المقابل، لم تكن لنسوة إيران حظ الجلوس في قاعة العرض إلا سنة 1928، حيث خصصت لهن قاعات خاصة، إلا أنها سرعان ما أوصدت أبوابها لأنها لم تكن مربحة، فغامر مسيرون آخرون بفتح قاعات مختلطة، تحول اللحظة السينمائية إلى فرصة تجارية مربحة. مع الالتزام بفصل الرجال عن النساء، وفق العادات والتقاليد.. اليوم، ضمنت المرأة الإيرانية مقعدا دائما لها أمام الكاميرا، وباتت عمودا أساسيا تبنى عليه الحكايا، وتؤسس لمشهد بصري يضاهي ما تقدمه الآلة الهوليوودية. السينما الإيرانية أو السينما الفارسية تاريخ طويل وحافل بالمحطات البارزة، تأثرت كثيرا بالسينما الفرنسية، لكنها تحررت فيما بعد من التقليد، وبفضل المتغيرات الاقتصادية والسياسية للبلاد، تشكلت نخبة فنية وثقافية، ساهمت في نقل تلك التقلبات إلى السينما. ففي 1960-1970، نمت سينما الاختلاف، كمنعرج هام في تاريخ الفن السابع الفارسي، متأثرة بالثورة الإيرانية 1979. ظهرت فيما بعد عراقيل جديدة أمام الفاعلين، واصطدامهم بالنظام السياسي المنغلق على المبادرات الشخصية والحريات الفردية. خاصة بإرساء نظام الدولة الإسلامية منذ الثمانينيات. في 1990، سجلت السينما الإيرانية، نموا ملحوظا، خاصة على المستوى الدولي: أفلام تتوج تباعا في أكبر المنافسات العالمية، مهرجانات مكرسة للسينما الإيرانية بدأ في تنظيمها عبر عواصم عالمية. إستطاع السينمائي الإيراني، رغم الرقابة الفوقية المتواصلة، أن يؤسس لنفسه مجالا فنيا يعبر من خلاله عن مختلف التيارات المتوفرة في البلد. مثقفو الداخل والخارج، قدموا لسينما جديدة حرة، محاولين التخلص من الدولة الممولة الرئيسة لهذا القطاع الحساس، الذي بات يشكل رهانا اقتصاديا وتجاريا، لولا ما طرأ على السياسة الخارجية الإيرانية، خاصة بعد تطبيق العقوبات الاقتصادية الدولية على إيران بسبب برنامجها النووي، ما أصاب اقتصادها بفقر ظهرت أعراضه على مستوى معيشة الأفراد، وكنتجية منطقية لواقع الحال، اهتزت عمادات الصناعة السينمائية في هذه الدولة العريقة الثقافية. لا تزال مع ذلك السينما الإيرانية تدهشنا، تصيبنا بنوبة جميلة، بمجرد مشاهدة المنجز الفني لمخرجين كبار مثل رضا مير كريمي، أصغر فرهدي، كمال تريزي، وأجيال جديدة من مخرجين درسوا في أوروبا أو أمريكا، وعادوا إلى إيران متحدين المحظور، الذي لم يعد فقط دينيا بل أخلاقيا، كما هو الحال بالنسبة للمخرجة الشابة مريم كاشافارز، حفيدة شاعر إيراني عرف السجن بسبب أشعاره، لا تكف عن رحلات الذهاب والإياب بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوإيران. ولداها استقرا بمدينة بروكلين مطلع الستينيات، ليس لأسباب سياسية وإنما لأن والدها طبيب. مريم الصغيرة كانت تزور إيران كل صائفة، وباقي العام تقضيه في أمريكا، حيث تدرس ويشتغل أهلها. بعد نيل شهادات عليا في الأدب المقارن بمقاطعة إيلينوا، ثم دراسة الفارسية بجامعة شيراز، فالفنون بنيويورك، اشتد عود مريم الثقافي، واتخذت من ثقافتها المزدوجة، حجة لتقوية العلاقة بين إيران والغرب. في 2004، وقعت عملها “ألوان الحب"، وثائقي حول الحياة العاطفية للشباب الإيراني. تبعته محاولات أخرى في الفيلم القصير، كرسته لمواضيع جريئة للغاية، من شاكلة ظاهرة الشذوذ الجنسي لدى الجنسين في بلدها. نالت بها جوائز وتتويجات. لتنجز بعدها عملها الطويل حول الموضوع نفسه، لكنها صورته في لبنان. المحظور في السينما الإيرانية هو سياسي أيضا، ورغم انخفاض مبيعات التذاكرة بنسبة 40 % خلال العام الجاري، إلا أن الجمهور لم يقاطع فيلمان مثيران للجدل هما “مواجهة المرايا"، الذي يستمد موضوعه من حياة شخصية عابرة للجنس، و«أنا أم" الذي يتناول قصة شخصية صارت من الأثرياء الجدد، تعيش على النمط الغربي. عملان أغضبا السلطة الدينية والسياسية. فالثاني يتحدث عن امراة اختارت الحياة الليبرالية، تتعرض للاغتصاب فتقرر الانتقام بقتل مغتصبها، وكرد فعل تطالب أسرة المغتصب بتطبيق القصاص القانوني عليها بحجة أنها “منشقة" عن المجتمع. في “مواجهة المرايا" تابع الإيرانيون ما يحدث لامرأة “مسترجلة" يسعى والدها إلى تزويجها للتخلص من “لعنتها". لكنها تهرب من منزل الأسرة وقد صارت رجلا. إكتشاف عوالم المخرج رضا مير كريمي، يعد حدثا فنيا في حياة من جلس قبالة الشاشة الكبيرة، واستلم لمنطقه الحكائي. في البداية تظن أنك ستواجه عالما مجهولا، تطأ أرضا بعيدة، ثقافة فارسية نادرا ما تحط رحالها في الجزائر، إلا أن أول لقطة من فيلم كريمي بعنوان (خيلي دور خيلي نزديك) أو “قريب جدا، بعيد جدا" باللغة العربية، تلغي منطق الجغرافية البعيدة، رغم أن كل فيلمه يتخذ من جغرافية إيران مسرحا لحدث إنساني عميق. مع مير كريمي يمكن أن تجرب لحظة الوقوف عند الحافة. يمكنك أيضا أن تقيس مدى تحملك لسفر طويل صوب المجهول. في الطريق، البنزين والماء يغدوان قطرات من ماس نادر. أساسا رحلة الإنسان على وجه الأرض شاقة، قاسية، مريرة، خاصة عندما يستيقظ الواحد على حقيقة مؤلمة، مثلما كان الحال مع “محمود" طبيب مرموق متخصص في الدماغ والأعصاب، متورط في كثرة التزاماته المهنية، مبتلى بشرب الخمر والقمار وإهمال واجباته الأسرية. أدى به هذا الوضع إلى نسيان ولده (سامان)، المولع بعلم النجوم ورصدها. في ليلة عيد رأس السنة، يكتشف الطبيب أن الاضطرابات الصحية التي كانت تصيب ابنه، مردها ورم خبيث في دماغه، الذي قرر بعد أن استبدت به هويته، حمل أدواته وأجهزته لتتبع مواقع النجوم وحركتها. في إطار مقاسه 130 دقيقة، رسم مير كريمي مدينة متحضرة غارقة في البهجة المستوردة من ثقافة غربية، يعيش “محمود" العائد من السويد، ويغرق مجددا في مباهجها الفانية. المدينة في نظر هذا المخرج، هي الفوضى التي تمحو إنسانية الفرد، تجعل من المشاعر مادة صلبة يمكن تعليبها في ليلة عيد. وفي كل مرة يروي لنا عبر سيناريو كتبه رفقة محمد رضا كوهري، لحظة السقوط الحر، الصدمة التي تعيد المرء إلى حالاته الأصلية والمبدئية. تحمّل الممثل الإيراني مسعود رايكان (محمود) مسؤولية ترجمة الأفكار والأحاسيس والآلام، عبء ثقيل جره إلى صحاري إيران البعيدة، وضعه تحت ركام رمال زاحفة، دفنته حيا، وأعادته إلى لحظة البداية والنهاية، استعاد خلالها شريط حياته عبر كاميرا صغيرة، ضمت لقطات من حيوات أبنائه الذين ظل بعيدا عنهم. كان السفر عبر صحاري إيران، رحلة سياحية تكشف عن بعض سحر ذلك البلد المتعدد الألوان، “دشت كوير" هي المكان الفسيح الغارق في بحور الرمل والملح، هي الهضبة العظيمة التي تتقاسم محافظات طهران واصفهان ووخرسان وأخرى هوائها. ولعلها إرادة مير كريمي المتعمدة أن يعيد هذا المواطن العصري إلى مهد الحضارة الإيرانية، إلى الصحراء، حيث البداية والنهاية، يتبع صوت ابنه القريب عبر الهاتف النقال، طامعا في استدراك الأمر، دون أن يتوصل إليه على مدار الساعتين من الزمن السينمائي، ودون أن نتمكن نحن أيضا من التعرف على “شامان" فظل مجرد صوت خلفي بعيد جدا، يقودنا مزيدا إلى التوغل في رمال “كوير". فهل كان “شامان" شخصية حقيقية أم هو الصوت الطفولي في نفس كل فرد إيراني كبر على طموحات جديدة بعيدا عن الأرض؟ أنتج فيلم “قريب جدا.. بعيد جدا" عام 2004، ونال العديد من الجوائز الدولية والإيرانية، من بينها جائزة أفضل عمل فني في مجال التصوير السينمائي. تقاسم الأدوار إلى جانب مسعود رايكان كل من أفشين هاشمي، محمد رضا نجفي وإلهام حمدي، ووجوه فنية لا تكاد تفرق إن كانت حقيقة أو تمثيلية. وقد رافق محمد رضا عليقلي، أحداث القصة موسيقيا، بمقاطع كلاسيكية وأخرى من الريبرتوار الإيراني العتيق والعصري، أعطى للعمل بعدا رومانسيا رغم قسوة المغامرة. لا يمكن تصنيف أعمال رضا مير كريمي، ضمن الأفلام الواقعية المحضة، رغم اشتغالها على المواد الطبيعية والملامح الأساسية للشخوص، فهو لا يحتاج إلى مكياجات كثيرة ليظهر أثر الواقعة على البطل أو من حوله. فالرحلة ببعدها الروحاني والفلسفي، لخصت في عنوان العمل “قريب جدا، بعيد جدا"، كناية على اكتشاف المرء لأشياء كانت قريبة جدا منه لكنه ظل بعيدا جدا عنها. كما لم تغب فكرة الله في العمل، عندما يجد الإنسان نفسه في لحظة الحقيقة، دون وسائل رفاهية تغنيه عن مساعدة من هو أقوى.. الطبيب “محمود"، الذي لم يؤمن إلا بالماديات، استحال إلى متصوف متأمل في وجوده، عندما غمرته الرمال ولم تحمه سيارة المرسيدس القوية، من غضب الطبيعة. تشكل المرأة محور أعمال الكثير من المخرجين الإيرانيين، وتشعر وأنت تتابع إحدى القصص الاجتماعية المصورة في فيلم، أن الرجل الإيراني لم يعد يلتقط عبر كاميرته الجنس اللطيف بكونه “عورة" أو باعتباره كائنا مثيرا للفتن والجدل. وهو ما ظهر جليا في فيلم “قصة إيلي" (2009) لمخرجه أصغر فرهدي، الذي جعلنا نعيش وسط شلة أصدقاء وأقارب كلهم من الجيل الإيراني الصاعد، مختلف من حيث الهندام أو الأفكار أو طريقة التعايش مع الجنس الآخر، شباب وفتيات، درسوا في الخارج، انفتحوا على أساليب جديدة لنسج العلاقات الاجتماعية، بما فيها علاقات الحب والزواج والتعارف بعيدا عن دوائر الأسرة التقليدية. «إيلي"، هي النموذج المكتشف في المجتمع الإيراني الحديث، الذي انتعش في العقود الأخيرة، بوصول جيل متعلم في دول أوروبية، كألمانيا، إنجلتراوفرنسا. يشعرك هذا الجيل أن الرجل والمرأة حينما يجتمعان في مكان واحد، يمكن ألا ينتج بينهما “قنبلة ذرية" مثلما تصورها الأعراف المنغلقة على نفسها، أو ذات المرجعية الدينية المحضة. لكن “إيلي" أيضا هي النموذج الإيراني الذي يطمح إلى أنماط معيشية مختلفة، لكنه يعتصر في الداخل بين صراع الممنوع والمسموح به، بين رغبة الأنا وقهر الآخر، بين المرأة المتحررة التي تبحث عن حرية الحب والاختيار، وبين المرأة المرتبطة على الدوام بأسرة تنقب عن أبسط أخطائها لإرجاعها إلى البيت ومعاقبتها. فكرة بسيطة انطلق منها المخرج العبقري فرهدي، حينما أركبنا على متن سيارات ثلاث عائلات صديقة، أزواج شباب منفتحين، عاشوا في الخارج، وعادوا إلى طهران للترويح عن النفس، للبحث عن مساحة للراحة قريبا من بحر الوطن. «أحمد"، هو شاب عاد إلى البلد بعد خيبة عاطفية، يستنجد بدفء أصدقاء الجامعة وعائلاتهم، عله ينسى فشله في ربط علاقة متينة مع امرأة غربية. يقرر الجميع تنظيم رحلة بحرية بعيدا عن ضوضاء طهران. نهاية أسبوع خطط لها أن تكون بداية سعيدة لأحمد عن طريق دعوة تقدمها “سبيديه" لصديقتها الجميلة “إيلي" (معلمة). الكل انخرط في مهمة تقريب العازبين “أحمد" و«إيلي" التي ظلت طيلة يومها متحفظة عن فكرة الاقتراب من الشاب الوسيم (شهاب حسيني). لم تكف كاميرا فرهدي عن الحركة، لقطات كبيرة جدا وأخرى مقربة، التقطت أنفاس المجموعة في حيويتها وانفعالها لفكرة قضاء نهاية أسبوع على شاطئ البحر. تقنية تصوير دقيقة، لم تهمل التفاصيل، دون أن تكل أو تمل. فالسينما الإيرانية أخذت على عاتقها مهمة نقل الهموم اليومية إلى الشاشة الكبيرة، أن تروي لمن يريد، الفكرة في أدق تفاصيلها، بشكل تصبح ملموسة لدى المشاهد. لهذا تعتبر “قصة إيلي" (56 د) لحظة تحبس الأنفاس، خاصة بعد أن بدأت الفتاة الجميلة تبين عن سلوك مشبوه، إلى أن يفاجأ الجميع باختفائها غير المتوقع. لم يكن اليوم الثاني من العطلة الأسبوعية، مثلما خطط له. غياب إيلي حول المرح إلى حادثة مؤلمة، أيقظت نزاعات بين الأزواج، كشفت عن حقيقة امرأة تعيش بهاجس الخوف من العائلة، لا تعرف كيف تقول حلمها الدفين، لا تحسن التخلص من عبء الجماعة، فتجبر نفسها على العيش بوجيهن، الأول لطيف خفيف الظل، والثاني سوداوي مهووس بالمجهول. لا يكف أبطال الفيلم من التساؤل: من هي إيلي؟ هل هي فعلا معلمة الصبيان أم أنها شخص آخر؟ لماذا بقيت هويتها مجهولة لدى الشلة، بينما كان يمكن أن تكون واضحة مثلهم؟ لماذا أخفت خطبتها لشخص آخر وقبلت المجيء لرحلة قصد التعرف على أحمد؟ هل يجب الدفاع عن شرفها أو الخوض في اختلالها المثير؟ لم يعثر الجميع على أجوبة لكل هذه الأسئلة، إلا أن فرهدي فضل أن يفك لغز اختفاء تلك الفتاة الجميلة، ويخبرنا في نهاية عمله السينمائي بأنها غرقت في بحر.. فهل دلالة على الضياع الكبير الذي يعيش فيه الفرد الإيراني الحديث، بعد أن تعسر عليه فهم ما يريده وما لا يريده؟ البحر الهائج الصامت المهدد الذي جلس قبالته هؤلاء الأصدقاء، يمكن أن تكون أمواجه بمثابة التيارات الكثيرة التي باتت تتوغل في المجتمع الإيراني فتصيبه بنوبة عاطفية، تفقده توازنه الداخلي. لا يختلف إثنان في الاستنتاج بأن المخرج فرهدي، سلط الضوء على ظاهرة الكذب في المجتمع الإيراني، وببراعة كبيرة، اختصر الصراع الداخلي للأشخاص في شخص “إيلي"، للإشارة إلى المنحدر الخطير الذي تسير صوبه المجموعة. وإيمانها الخاطئ بالنماذج المزيفة، دراما مشوقة، أخرجت في أسلوب معقد ومحكم في آن واحد، تفاصيل صغيرة جدا، كما كانت المشاهدة المتراكمة الواحدة تلو الأخرى، دون الشعور بالملل أو الاسترسال المطنب. وككل مرة ينجح صاحب “حفل نار" في مغافلة الرقابة، وتمرير رسالته الواضحة بخصوص علاقة الرجل بالمرأة، واضطرار الطرفين إلى الكذب.