يبدو أن الفرنسي “باسكال بونيفاس" قد فقد القدرة على الكلام، وتحول من مناقشة قضايا الساعة إلى البحث عن خصومات غير مبررة، ومعاداة كل من يختلف معه في الرأي، وصار في وقت قياسي (خصوصا بعد نشره كتاب: مثقفون مزيفون -2011، الذي تهجم فيه على الجميع دون تقديم إثباتات ملموسة) نسخة طبق الأصل للكوميدي المسيس ديودونيي، الذي وجد - بعدما فشل في إضحاك الناس والفوز بالانتخابات ودخول البرلمان - طريق شهرة “لحظية" في التحالف مع أحمدي نجاد، والترويج لخطابات المؤامرة، والمؤامرة المضادة.. مصطلح “المؤامرة" الذي يختفي وراءه كل باحث عن غاية عاجلة أو آجلة صار صفة لصيقة بالمشهد الثقافي الفرنسي الذي يعاني حالة تصدع، غير مسبوقة، تعكس تلاشي “يوتوبيا" طالما شغلت بال مثقفي الضفة الجنوبية من المتوسط وحركت غيرتهم.. بين فرنسا الأنوار وفرنسا اليوم، كثير من الأشياء الجوهرية تغيرت، وتحولت شريحة واسعة من المثقفين إلى “مثقفي ردود فعل" (بحسب تعبير سارج حليمي) يتحركون وفق براغماتية المرحلة وضروريات الأطراف المسيرة للرأي العام، وانسحاب المثقف الفرنسي، ومعه المثقف الأوروبي إجمالا (مع بعض الاستثناءات طبعا)، عن دوره “النقدي"، واصطفافه خلف مصالح سياسية ومادية، يبعث مجددا التساؤل بحدة عن “أخلاقيات" العمل الفكري، وأهمية ودور المثقف الأوروبي، في الفترة الراهنة الحرجة، التي تشهد فيها القارة العجوز حراكا وقلقا داخليين، خصوصا مع توسع نطاق الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة (البرتغال، إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، وخصوصا اليونان وقبرص) من جهة، وعودة أحزاب وكتل اليمين المتطرف من جهة أخرى إلى الواجهة (خصوصا في فرنسا، هولنداوإسبانيا)، التي استفادت من “حالة الغضب" التي تتسع بين الأوساط الشعبية، لتسترد خطابها “الكزينوفوبي"، المعادي للآخر (الأجنبي، الأسود، المسلم، إلخ)، والمعادي للاختلاف بكل أشكاله، حيث ما يزال حزب “Partido nacional renovador" يصر على شعار “البرتغال للبرتغاليين"، وهو توجه يتقاطع مع منطق أنصار “Falange Español"، الذين لا يخفوا تعاطفا مع الفاشية الإيطالية، يضاف إليهم حزب “الفجر الذهبي" اليوناني، الذي يصنفه بعض المحللين ضمن حساسية النيونازية، أما حزب “Vlaams Belang" البلجيكي، فهو يدعو صراحة إلى ترحيل المهاجرين.. هكذا ساهمت كتلة اليمين الأوروبي المتطرف في عودة “الإسلاموفوبيا" التي برزت مجددا، في السنوات الأخيرة الماضية، كنوع من التنفيس على كبت داخلي إرضاء لأهواء شريحة معينة دون غيرها، رافقتها حملات “هوموفوبيا" جد واسعة، بلغت محاولة الاعتداء الجسدي على الكاتبة والصحافية الفرنسية المثيرة للجدل كارولين فورست، بسبب دعمها لحق “المثليين" في الزواج وفضحها للسياسة اليمينية، التي تتنافى مع قيم الجمهورية وسياسيات الدول الأوروبية.. وجاء الربيع العربي ليقسم طبقات المثقفين الأوروبيين جزأين، خصوصا منهم المثقفين المحسوبين على انتماءات سياسية بعينها، فالتحولات الميدانية المتسارعة، من تونس إلى صنعاء، مرورا بالقاهرة ثم دمشق، لم تمنح البعض فرصة للتفكير والتمعن قبل تحليل ومناقشة الوضع ثم اتخاذ موقف سياسي محدد، وسادت “ضبابية" أشهر طويلة، بينما سارع اليسار إلى تبني ودعم الثورة السورية، وجد اليمينيون أنفسهم خارج اللعبة ومتأخرين بأكثر من سنة عن مجريات الأحداث، وبدل تدارك التأخر وتصحيح المسار، فضلوا - في لحظة ارتجالية - التعبير عن رأيهم بمعارضة “الأغلبية" ودعم ضمنيا النظام السوري الأسدي، حيث لم تمانع زعيمة اليمين “مارين لوبان"، من الظهور على التلفزيون السوري الرسمي، ولم يتوان أنصارها عن تقديم دعم إعلامي ومعنوي للنظام السوري، عبر قنوات عديدة، مثل الموقع الإلكتروني الإخباري، واسع الانتشار: “شبكة فولتير" (يخاطب متصفحيه بخمس لغات مختلفة، بما فيها اللغة العربية)، الذي يديره الفرنسي تيري ميسون، فالموقع نفسه يتقن مهارة التلاعب بالرأي العام، ويجد دائما حجة وسببا لتبرير ما يحدث في سوريا، منذ أكثر من عامين، بوصم الثورة بالمؤامرة والإدعاء أن نظام الأسد يواجه جماعات أصولية وليس موجة غضب شعبية. ففي مقالات كثيرة نشرها، يربط الموقع نفسه بين الربيع العربي وما يسميه مخططات أمريكية وإسرائيلية، تهدف لإعادة رسم ملامح الوطن العربي. ويذهب موقع “شبكة فولتير" بعيدا حين يتعرض لتطورات الوضع باعتبارها حلقة مهربة من سنوات الحرب الباردة، بين المعسكرين الشرقي والغربي، ويتواصل دعم اليمين الأصولي للنظام السوري الحالي من خلال إنشاء موقع Infosyria، لصاحبه فريديريك شاتيون، أحد العقول المسيرة للحزب نفسه.. وبين الخطاب الرسمي لمارين لوبان التي صرحت يوما “لا بد من رمي المهاجرين في البحر" ودعمها لنظام سوري عربي معزول دوليا، تتجسد واحدة من مفارقات المشهد الثقافي والإعلامي في الضفة الشمالية من المتوسط، حيث يبدو الخيط الفاصل بين القيم الأساسية والمصلحتية جد رفيع، والحدود بين الرفيق والخصم تكاد تكون غير مرئية.. أوروبا ثقافيا اليوم، هي إذا مزيج من التناقضات، تحاول فيها مجموعة صغيرة من المثقفين الأحرار الحفاظ على استقلاليتها، وعدم السقوط في فخ “الراهنية المضطربة"، فعدم وضوح تفاصيل المشهد واتساع حد الأزمة الاقتصادية الداخلية سهل تغلغل اليمين، أكثر فأكثر، في جسد المجتمع الأوروبي، مع كل ما يحمله من أفكار وأطروحات تجاوزتها الحقبة الحالية: من كره للحاضر، ورغبة في العودة إلى الماضي، ونوستالجيا لما يسميه العصر الذهبي، وخوف من الاختلاط ومن انفجار ديمغرافي بسبب تزايد أعداد المهاجرين في أوروبا (القادمين بالأساس من دول الجنوب)، ومحاربته للفردية وللنخبوية وتمسكه بالقيم الدينية المسيحية في صيغها الأكثر تصلبا.. حالة الشتات الثقافي الأوروبي لا بد أن تلقي بظلالها على المشهد العربي، بحكم التواصل الدائم بين الطرفين، والانقسامات تنطلق عادة من الشمال لتصل إلى الجنوب، والوضع الحالي لا يخدم النخبة العربية كثيرا، ومن صالحها أن تستعيد أوروبا توازنها الثقافي والفكري وأن تنفض الغبار عن نفسها وتدير ظهرها لخلافات مبنية على حساسيات ذاتية.