كان يمكن أن تكون مسرحية “أمسية في باريس" صفحة من تاريخ المقاومة الجزائرية خارج الحدود، بتسليط الضوء على دور المغتربين في دعم مسار الجبهة. إلا أن نص مجيد بن شيخ، اختلطت عليه اللغة التي يجب أن يتحدث بها، فجاء أداء الممثلين أعرجا يتأرجح بين لسان فرنسي وعربي، ولعب درامي فتح شهية القاعة للتعليق مبكرا. المسرحية التي مثلت ولاية أم البواقي في الدورة الثامنة لمهرجان المسرح المحترف بالجزائر، لم تكن بمثل السنتين السالفتين، حينما اكتشف الجمهور طاقات فنية جميلة، وأعلن حبه لهذا المسرح الفتي، الذي وعد أن يمنح الخشبة المحترفة قامات شابة، جديرة بتحمل رسالة أبي الفنون. أم البواقي الزاهية بموسيقاها وألوانها ولباسها وتاريخها الوطني، حاول مجيد بن الشيخ، أن يستحضرها في بعض الملامح الثقافية والفنية للمنطقة. من خلال روايته لقصة شاب اضطر للهجرة صوب فرنسا المستعمرة مع جموع الجزائريين عقب أحداث الثامن ماي 1945. واختار تاريخ 19 ماي 1948 المنطلق التاريخي الذي دفع البطل إلى السفر بعيدا عن والدته و«خديجة" خطيبته التي طال بها الانتظار. عاش البطل كغيره من الجزائريين المهاجرين، في أقبية وشبه غرف، مضطرا للعمل وتحمل تبعات العنصرية والمضايقات المستمرة. وسيتحمل المهاجر لاحقا ألما أكبر، حينما تقرر شرطة باريس إغراقهم في نهر السين. إذا كانت خيوط القصة الدرامية التي كتبها بن الشيخ، واضحة الآن ساعة تلخيصها، فإنها بدت غامضة على الخشبة. تتطلب جهدا ذهنيا لاستيعاب التسلسل المنطقي للأحداث، وتقبل الشخصيات “الغريبة" التي واجهها المتفرج تحت إنارة خافتة على مدار عمر المسرحية. تكمن غرابة الشخوص في بطئ تشكيل ملامحهم لدى المتلقي. وضعهم المخرج حسن بوبريوة داخل مستودع أبوابه الحديدية مفتوحة على مصراعيها، تتوسطه طاولة مهترئة دائرية الشكل، كتلة من الدخان تتصاعد فوق رؤوس خمسة رجال ببدلات أنيقة، تقرع كؤوسهم بعضها ببعض، تستعجل المشروب، علها تطفىء نار العنصرية والكراهية في نفس “فرانسوا" و«مارسيل". بزيهم المدني يتباهون بأسلوبهم في تصفية “الجزائري البطيخ"، الذي تجرأ على الخروج إلى الشوارع الفرنسية وإعلان مساندته لجبهة التحرير الوطني. سريعا فهمنا أن هذه المجموعة الشريرة، تتصرف بإيعاز من مسوؤلين كبار، ظهورهم محمية، ينفذون الجرائم دون تأنيب ضمير، أو وازع ديني. قبالة كتلة الشر الخماسية يجد “لوسيان" نفسه وحيدا، حينما لم يتقبل المجازر المقترفة في حق الجزائريين، دون ذنب. يسقط في دوامة الندم، يبكي ويشد رأسه، فلا يجد من رفاقه سوى السخرية والعزل. إلا أن “لوسيان" في نظر بن الشيخ المؤلف، لم يكن قويا وشجاعا كفاية، ليواجه أصدقاءه، فأبقاه طيلة العرض قابعا في كرسيه، مشدودا إلى الأسفل، رغم أن صوت الحق ارتفع وصور الضحايا حملته مسؤولية نقل شهادته للعالم، إلا أنه ظل صامتا. لم نفهم لماذا اختار الكاتب أن تتحدث شخوصه بلغة فرنسية شعبية ساقطة في بعض الأحيان، ويقرنها بين الجملة والجملة، بلغة عربية فصيحة؟ ما شوش علينا استقبال الفكرة، وجعل الحوار تمرينا معقدا. الجملة الواحدة بلغتين مختلفتين لم تؤد أي منهما غاية التبليغ المرجوة منها؟ خاصة عندما يتعلق الأمر بفرنسيين مشبعين بالثقافة الاسعتمارية، ومؤمنين بضرورة استدمار الشعوب الأخرى من أجل رفاهية المتربول. فما الداعي لهذه الازدواجية، في وقت كان يمكن الحديث عن أحداث 17 أكتوبر بشكل صريح ومباشر بلغة دارجة مفوهة لدى العام والخاص؟ لماذا لم تذكر الأحداث صراحة؟ هل نحن بحاجة لاستعارة ما لنقل حقيقة تاريخية اعترف فرانسوا هولاند بفظاعتها وأكد الدور اللاإنساني لشرطة باريس آنذاك؟ لم نفهم دور أحسن ثليلاني في ترجمة مقاطع النص إلى العربية، مع أن العبارات لم تكن عالمة أو معقدة لتنقل إلى مستوى تعبيري مختلف تماما عن الآخر؟ المسرحية التي استفادت من دعم وزارة الثقافة (عكس “ما تبقى من الوقت" لتعاونيتي سيدي بلعباس)، لم تكن جديرة بالوقوف على خشبة بشطارزي، والسؤال: كيف اختير العمل ليمثل مؤسسة يشرف عليها لطفي بن السبع، الذي قدم السنة الفارطة عملا اكتسح به كل الفضاءات الوطنية؟ سلسلة من الإخفاقات تتابعت البارحة بقاعة مصطفى كاتب، موسيقى صارخة، تصم الآذان، أفقدت آلة الساكسوفون سحره الأخاذ، استهزأت بالنغمة الشاوية الحرة، في مشاهد لا ترقى إلى الاحترافية، ومخارج حروف بحاجة إلى من يعالجها. لا شك أن الموسيقى أقحمت عنوة، وبدل أن تساعدنا في الشعور بحجم الكارثة الانسانية، دلتنا على عجز الممثلين (زاوي محمد الطاهر، كريم بودشيش، باديس مراد، طارق عشبة، عنتر زايدي، تريعي عدلان، اناس بوسعيد وفرياك ياسمينة)، عن الانغماس كليا في أدوارهم. تغيير مكان البوابة الحديدية من يمين الخشبة إلى يسارها، لحظة الانتقال من اللوحة الأولى إلى الثانية، كان هو الآخر نقطة استفهام كبيرة حاول الجمهور عند عتبات المسرح الوطني تفسيرها دراميا دون جدوى.