تعددت الوسائل التعبيرية في توظيف الديوان كظاهرة طقوسية مترسخة في الكيان الاجتماعي والثقافي، من شأنها مخاطبة المتفرج وجلبه داخل دائرة العرض الفني. من الفن التشكيلي، السينما، المسرح إلى الموسيقى وفن الكوريغرافيا، أصبح الديوان ورغم عدم ضبط دلالاته، عالما فنيا قائما في حد ذاته، في تأويل رؤى الوجدان والطقوسية في الذات الجزائرية على الخصوص وبصورة منتشرة. استعصيت منذ فترة ليست ببعيدة الأمد فكرة تصور الديوان كحالة طقوسية خارجة عن نطاقها التعبيري الاجتماعي وآيلة للتحول نحو العرض الفني لدى أهلها وممارسيها. لكنه ولعدة أسباب، لم ننتظر طويلا ليخرج نفس المحافظين والمتشددين على حصر الديوان في فضائه المقدس نحو تأويله فنيا واقتراح الفرجة كبديل للطقس ربما حرصا منهم على تداول هذا الموروث من التراث اللامادي بصفة "واعية" حتى لا يضحى عرضة للتغليط والتحريف سيما لعوالمه ودلالاته الداخلية. على ضوء ما شهده المهرجان السابع لموسيقى الديوان ببشار، من نسبة تحولات طرأت على العروض التي شاركت بها عدة فرق، معظمها منحدرة من عشائر الديوان، تسنى الاطلاع على مفهوم العرض وكذا البدائل المقترحة في صورة تمكنَ أهلها من نفض النمطية والأحكام المسبقة عنها وفسحت المجال للمتفرج للاحتكاك أكثر بجماليات الديوان على عدة مستويات أهمها الموسيقى، الرقص، وحتى الاقتباس لملامح وممارسة تقاليد الديوان بات فنا قائما في حد ذاته استحضر الفرجة بشكل مبهر يدعو بإصرار لإعادة اكتشاف الديوان كثقافة تنوع قابلة للتجدد والانبعاث بعيدا عن ثقافة الكليشهات السائدة. ويبقى العنصر المهم في هذه الفرجة هو هوية صانع العرض، الذي يضع عشائر الديوان في منعرج تاريخي أمام خيار الانفتاح والانتقال من فضائهم المقدس نحو ممارسة إبداعية فنية محضة قائمة على مسرحة الحال والظاهرة الروحانية خارج الطقوس. تأتي هذه القراءة من خلال رصد التطور الذي يعرفه مهرجان بشار والذي تمكن منذ تأسيسه في خضم ست سنوات، من جمع الديوانيين حوله ووضعهم أمام جميع الرهانات في الانتقال بثقافة هامشية رحالة نحو تجربة الركح. وطرح هذا التطور بدوره عدة أسئلة ونقاشات سمحت بالاقتراب من بعض الممثلين الشرعيين لعشائر الديوان، الذين ولأول مرة، قرروا الخروج عن صمتهم، وتسليط الضوء على نقاط الظل التي طالما لاحقت ثقافة الديوان وكذا علاقة أهل الديوان و تصورهم لتظاهرة احتفالية تضيف قيمتها الإبداعية على غرار التجارب الفنية المستوحاة من عمق الثقافات الشعبية مثل الراي أو الحلقة. الديوان كممارسة احتفالية ذات بعد اجتماعي رحلة زمنية في حد ذاتها. فهي تستذكر في جوهرها حسب بعض الباحثين تاريخ العبودية التي تعرض لها الزنوج الأفارقة، أول من خلق دلالات شفاهية وإيقاعية لتدوين "التراجيديا"، نشأت بحكم قوة تفاعل الإنسان مع الطبيعة حيث يلتقيان في درجة انسجام عالية للإيقاع والوتيرة مع الحياة في رصد الحالة المعاشة. سواء كان العبيد يعبرون عن مأساتهم أم يجدون في هذا الشكل التعبيري ملاذا للحياة بنمط أرحم، فإن الممارسة التي تداولت وشاعت لدى هذه الفئة، جعلت من الزنجي كائنا إيقاعيا بامتياز، سنجدها كميزة قرونا من بعد في الفضاء التعبيري الفني سيما في الرقص أو الموسيقى (الجاز أو الطانغو مثلا). لكن معظم الديوانيين في الجزائر يدعون لإعادة النظر في هذه الصياغة التاريخية المختلفة عن أصل انحدار الديوان والمستمدة أساسا من الدراسات المقدمة حول تاريخ القناوة في المغرب. ويشرح رحماني محمد من زاوية سيدي بلال عين الصفراء وفق البحوث التي أجراها بدوره أنه "في دائرة من سيطلق عليهم لاحقا ب«القناوة"، قبائل ليست بالضرورة من سلالة العبيد، فالقناوة هم من كرسوا للثقافة الشفهية، ينقلون يومياتهم عن طريق سرد الأبراج ومعظمهم منحديرون من قبائل البامبرا، الهاوسة، البوسو والسايو وبعد مجيء الإسلام قام الفولان وهم من القبائل الرحالين بتكييف الديوان وفق ثقافة الدين، وسيظهر في هذه الفترة شخصية مهمة في تاريخ الديوان وهو مرزوق (الذي يرمز إليه في العجل الأسود) وهو رجل ترقي سيعمل على توجيه حوالي 1700 عائلة لتناقل هذه الثقافة الشفاهية، ستنتشر بدورها عبر ربوع المنطقة المغاربة وتورث الديوان في عدة لهجات مختلفة..." وترجع الطقوسية التي ارتبطت بالممارسة العقائدية والبحث عن عوالم أخرى تنتقل بالإنسان في التعبير عن كيانه الداخلي "المُغيّب" بحكم القهر الذي تعرض له، نحو التواصل بعالم "الغيب" الممثل في مجتمع الجن. وكمرآة تعكس بين المرئي واللامرئي، يوظف هذا النمط من التواصل باللجوء إلى الطقوسية الرمزية والممارسات المجوسية كهمزة وصل بين عالمين متوازيين لاسترجاع ذاكرة "المغيَّبين" أو الأجداد المستحضرين لترسيخ حالة الصدمة المستدامة في لذة اللقاء. وستتأثر هذه الطقوسية قرونا من بعد بالظاهرة الدينية، ومجيء الإسلام، لتخضع لقواعد الاحتشام، حيث يقول في هذا الشأن المعلم محمد الأمين كانوا حسب معرفته المتناقلة أبا عن جد أن "أهل الحبشة في السودان هم أول من سيكيف الديوان وفق الدين الإسلامي "حيث سيعرف الديوان نوعا ما رقابة ذاتية لن تصل بالضرورة لدرجة التحريم في جوهرها، إلا في محاولة استئصال الجانب المجوسي الذي ورغم انتشار الإسلام بقوة عند قبائل القناوة سيظل ممارسا في الدوائر الضيقة و التي بفضلها ربما، تسنى الاطلاع على هذه الذاكرة الجماعية المتنقلة عبر الزمن والأجيال في شكلها الخام. تستمر ممارسة الديوان إلى يومنا هذا جامعا لكل جوانبه الطقوسية والاحتفالية لدى قبائل عدة متواجدة عبر مناطق مختلفة (الغرب الجزائري، الوسط، وجهات من الشرق والجنوب). ومهما اختلفت طرق الأداء يبقى الشكل واحدا ومتفقا عليه. يتجسد في اللقاء بين عشائر القناوة لتنظيم الجلسة التي تأخذ بدورها تسميات عدة كالوعدة، المبيتة أو المحلة. تدوم حسب التقليد سبعة أيام وسبع ليال. تخضع هذه الاحتفالية لعدة قواعد، أولها التدرج في المناصب بغرض تقسيم الأدوار وتأطير الجموع الحاضرة لممارسة الديوان. حيث يتكفل"المقدم" وهو يمثل السلطة العليا في الديوان بالجانب التنظيمي، على غرار تحضير الوعدة وهي حفل الطعام بين الضيوف. يكون كذلك همزة الوصل بين الحاضرين والديوان، حيث يحرص على سير الطقوس بين الطرفين في ظل احترام القواعد المتفق عليها ويرافقهما طيلة ممارسة الحال. يتكون الديوان في جانب الأداء من المعلم الذي يقود وتيرة الطقوس، على إيقاع القمبري. وليس معلما من يريد. فالمعلم هو من يبايعه المقدم وشيوخ الديوان بالإجماع وفقا لمعرفته بالإيقاع ومدى حسه بروح الديوان وقدرته على مرافقة الحاضرين، ويساعد المعلم في الأداء "الكويو بانغو" وهو الذي يتكفل بالجانب الغنائي للديوان. ويتبع المعلم في التدريج" القناديز" أو الكويو، وهم الجماعة المرافقة له طيلة الليلة على الإيقاع بالقرقابو، مهمتهم كذلك الرد على المعلم في أدائه الغنائي ورفع حرارة وجو الأداء أو تخفيضه عند الحاجة. يتكون سجل الديوان مما يسمي بالأبراج، وكل جملة من الأبراج تؤول إلى مرجعية معينة تختلف من عشيرة إلى أخرى وتقديم الأبراج خلال الليلة يخضع لتدريج وفق مقام المذكورين في النص (النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الصحابة و الأولياء الصالحين) تجمع كل فئة منهم راية لونية خاصة تعلن للحضور الانتقال من برج إلى آخر. يروي المعلم محمد الأمين كانون من زاوية سيدي بلال بسعيدة طقوس الديوان المحلي، حيث تخصص ليلة الثلاثاء لتلاوة القرآن قبل انطلاق مراسيم الديوان يوم الأربعاء بالتقاء جميع العشائر المدعوة والتي تدخل الحضرة بالرايات، بعد تبييت العجل بالحناء، يتجول به الديوانيون في المدينة للإعلان عن الوعدة، ويتم ذبحه قبل العصر وتقسيم العشاء على الحاضرين، وتتداول حسب المعلم كانون، فرقتان لاكتمال ليلة الديوان، حيث يتم أداء حوالي 220 برجا تبدأ وفق التقليد دائما من برج "صلو على نبينا' وتنتهي ببرج "دو الله، دو النبي" (لوجه الله ولوجه النبي ص)، ويعطي التدرج المذكور سابقا للأبراج فكرة حول مدى أخذ الديوان بعدا روحانيا محضا، يشرحه المعلم كانو كما يلي "ينطلق الديوان من برجين مختلفين للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا على نبينا)، تتبعه الفرقة بأبراج البحارة وهم بانية، سيدي اليوم، بحري موسى، تليه أبراج السراقة وهو أبراج الرثاء لحفيدي الرسول صلى الله عليه وسلم، الحسن والحسين، من بينها جنغر ماما خادم الحسن، الذي يجسد في رقصة الخنجر تعبيرا عن الحادثة الأليمة في غدر الحسن. ينتقل الديوان إلى برج اوبا نواري وهو دائما في ذكر الحسن قبل أن يسترسل في سرد حكمة الروحانية في الإسلام من خلال قصص تسرد من باب الاعتبار مثل بانية سيدي الشما، سيدنا محمد داوي، وكذا مولاي عبد القادر الجيلاني، والي يالله، بودربالة وجامنغرو التي تروي رحلة حج تصدق في رؤية. يستذكر الديوان كذلك برج سيدنا علي، وسيدنا إبراهيم ليأتي بعدها قسم النساويين الخاص بذكر النساء مثل فاطمة ولالة عائشة رضي الله عنها، يليه بعدها قسم البامبر الذي يحوي أبراج الصواندي للترحم على الموتى، صويو بالما ومعناه في الهاوسة طريق الملح، برج سيدنا بلال رضي الله عنه، ثم ريمة لإعادة استذكار مولاي عبد القادر الجيلاني. ويقفل الديوان بالميغزوة، وهو الفقرة التي يشارك فيها الأطفال والنساء في الحضرة حيث يخرجون لتشكيل حلقة رقص يرتدون فيها أزياء تنكرية يقتنونها من الزاوية، تختتم بنحر الأضاحي وتقاسمها". يبقى هذا التعريف الأولي نسبيا نظرا لاختلاف وجهات النظر والتأويلات في طقوس الديوان التي لم تمنع من تداوله أبا عن جد، وبطريقة تناقلية شفوية جد صارمة ومحافظة. وكون الديوان موروث قائم على تاريخ مأساوي يحمله على عاتقهم عشائر القناوة فإن الاجتماع حول الديوان كقاسم مشترك هو تعبير لهم عن تجدد دورة الحياة وانبعاثها من جديد بعد رحلة الفناء، تتدخل فيها رمزية التضامن الاجتماعي التي تطغى عليه نظرة وجدانية. يمكن تفسيرها كذلك كممارسة جماعية علاجية تتدخل فيها أبعاد الذاكرة، الروحانية، متصلة بالتعبير الجسدي والموسيقي. في إطار البرنامج العلمي المنظم على هامش المهرجان، يفسر عميد كلية بشار والباحث في التراث محمد تحريشي، في محاضرته حول "الديوان من التدنيس إلى التقديس، ثم التدنيس ثانية" ظاهرة الاحتفالية في الديوان معتبرا أن "الطاقات التعبيرية يترجمها الفنان بغية إيصالها إلى الآخرين وتعتبر الاحتفالية الفضاء بامتياز حيث يتلقي المقدس كقيمة ثابتة بالمدنس كقيمة متحولة". ووفقا لما ورد في مداخلته، فإن ممارسة الديوان تعرضت لتحول فاضح منذ إقحامه في العرض الفني، بعيدا تماما عن فضاء الطقوسية والمقدس. فأصل الديوان نابع من فن الهامش. وإن كانت ممارسته مقبولة في المجتمع الجزائري عكس المجتمع المغربي أين كانت طقوس القناوة مصنفة ضمن الطابوهات في وقت مضى قبل تسويقه كإنتاج ثقافي رائج، يبقى التعبير عنه جزءا مترسخا في الذاكرة الشعبية الجزائرية والحياة اليومية للناس التي تعايشت مع هذا النمط الفني النابع من الهامش دون تصنيفه إلى حد الآن (لا توجد إلى اليوم مبادرة لتصنيف الديوان ضمن التراث اللامادي)، ويذكر أن المهرجان الإفريقي الأول تم افتتاحه في الاستعراض الشعبي من طرف فرقة ديوان دليل على اعتراف الثقافة الرسمية بالديوان كفن نابع من الكيان الشعبي العميق ذي البعد الإفريقي. ورغم تعايش ثقافة الهامش هذه مع فضاء واع بتنوعه الموسيقي من حيث الطبوع والألوان التي يزخر بها، يبدو أن المعرفة بموسيقى الديوان هي مجرد معرفة سطحية ترجع أسبابها غالبا إلى استغلال موسيقى الديوان لغرض جمالي ورمزي، دون التوغل في حكمها وأسرارها التي تبقى حكرا على أهل الديوان الرافضين بدورهم فكرة "الدخيل" على حساب تقديس الإرث. ولعل أحد الأسباب التي دفعت بالمحافظين من أهل الديوان للخروج عن صمتهم هو رواج ظاهرة القناوة التي انطلقت من المغرب وتوسع استغلالها في فضاء العرض في الفترة الأخيرة، ما أدى للاهتمام بالديوان كنوع موسيقي يعتبر حسب العارفين والمختصين من أغنى السجلات في المنطقة المغاربية من حيث عدد النصوص (الأبراج) وتنوع طرق الأداء ذات الإيقاع الخماسي وكذلك الآلات الموسيقية المستعملة. وهو ما يؤكده المعلم محمد الأمين كانو، من سيدي بلال بسعيدة. والمقدم محمد رحماني من سيدي بلال عين الصفراء" وربما أن رواج ظاهرة القناوة أو ما يسمى "الفيزيون" اليوم، أدى إلى حصر الديوان في صورة سطحية من الكليشيهات و الأحكام المسبقة حول عوالمه وأبعاده الروحية التي باتت في الجزائر تميل إلى الممارسة الروحانية المتأثرة بالظاهرة الدينية أكثر منها طقوسية. أين تكمن عناصر الفرجة في الديوان؟ وماذا يقترح الديوان للمتفرج؟ أسئلة، سمح اللقاء الذي جمع بعض المعلمين في الديوان بمبادرة من الصحفيين على هامش المهرجان السابع برصد وجهات نظر مختلفة حول علاقة أهل الديوان بالمهرجان والرهانات التي تضعهم أمام إشكالية مصير الديوان كتقليد ينتقل نحو الخشبة. النقاش كان الأول من نوعه، غلبت عليه الصراحة وإصرار في وضع النقاط على الحروف. وفي مستوى أول، يرفع المعلم هواري و المعلم محمد الأمين كانو، أزمة الهوية التي طالت الديوان وأصبحت ظاهرة على المنصة، حيث لا تعكس على حد تعبيرهم صورة الديوان الجزائري الأصلي. وإن كان الجانب الجمالي في العرض يقتضي التنميق إلا أنه لا يمكن له أن يطغى على حساب ثقافة الديوان الأصلي. يقول المعلم الهواري من جمعية تراث قناوة من وهران "لاحظنا وللأسف أن معظم الفرق تحصر أداءها لأبراج معينة من سجل البامبرا وهو سجل مستخدم عند قناوة المغرب أكثر من الديوان الجزائري الذي يعتمد في جله على سجل الهاوسة، رغم أن هذا الأخير يزخر بعدد هائل من الأبراج التي لا تنتظر إلا استغلالها لما تمثله من تنوع كثيف للديوان." ويلاحظ المعلم محمد الأمين كانو في نفس السياق أن الزي التقليدي للديوان الجزائري ليس حاضرا بقوة إن لم يكن نادرا، مستغربا ميول الفرق الشابة خصوصا، لأزياء قناوة المغرب (الملونة والمزركشة بالوديعات) مع أنه يمكن استغلال زي الديوان بالشكل الذي يقتضي به فن العرض. في هذا الصدد أبدى المعلم الهواري تحفظه إزاء اقتراح تصنيف الديوان ضمن التراث المادي المحمي، إن كان الترويج له مؤسسا على التغليط. وفي هذا الصدد يعود المقدم رحماني محمد حول ممارسة الديوان وترسخها بصورة متجذرة لدي العشائر كتقليد مقدس"يعتبر الديوان بالنسبة لي ممارسة يومية على مدار السنة، وكل يوم هو ديوان ينبعث للحياة من جديد". ويفيد رحماني أنه لازال إلى اليوم يجري بحثا في عوالم الديوان الذي ينتمي إليه، بحكم كونه تقليدا عائليا متوارثا، وقد تمكن إلى حد اليوم كتابة حوالي 165 برجا من سجل الهاوسة مع ترجمتهم. وهو الأمر الذي يصبو إليه المعلم كانو الذي تمكن من التنقيح اللغوي للأبراج التي يؤديها في زاوية سيدي بلال في سعيدة واستمراره في البحث وتأويل الطقوس والسرد التاريخي لأصول الديوان في منطقته. والجدير بالذكر، وجود مبادرات فردية لأهل الديوان واجتهاد شخصي لإخراج مادة بحث يمكن استغلالها في مجال الانتروبولوجيا الموسيقية. وعكس المتحدثين، يصر المعلم الهواري، الذي يعكس في شخصه صورة الديوان المحافظ، على ضرورة بقاء الديوان ثقافة شفاهية لا يمكن تجريدها حرفيا سيما الموسيقى التي تعتمد على حكمة الاستيعاب "الديوان في جوهره ثقافة صمود واستمرارية، يجب أن يبقى على حاله كما نقلناه عن أجدادنا لأن سره يكمن في العلاقة مع مفهوم الإرث" أمر لم يخالفه فيه الرأي المعلم كانو ورحماني. وفي سؤال يطرح نفسه بالحاح، حول قضية "السرّ" ومكانة الطقوسية في الديوان الذي غلب عليه الطابع الديني الوجداني، تحفظ كل من المعلمين الهواري وكانو والمغامرة بالحديث في هذا الشأن، حيث أصر الأول أن الطقوس الممارسة في ليالي الديوان مجرد ضرب من الخيال، وممارسات توهيمية أشبه بألعاب الخفة لا تمت بصلة لثقافة الديوان الدينية، فيما نفى الثاني قطعا وجود هذه الطقوس المجوسية. ومع هذا يشير المقدم رحماني محمد، إلى أن الديوان يمارس ما يشبه الرقابة الذاتية من خلال تبرأه من الطقوسية "صحيح أنني لم أبحث يوما عن تشفير دلالات هذا السر، لأن من سبقونا رحلوا و أخذو هذه الحكمة معهم، مثلا بالنسبة لرقصة الخنجر يجب أخذ التسريح من طرف الشيوخ وتنحر الأضحية على شرفك ليتمكن من أداء الرقصة" ولم يتردد فيما بعد المعلم كانو في سرد قصة في هذا السياق "حدث في إحدى الحضرات أن شيخا من العيساوة لمح أحد قناديزه يدخل دون استئذان للديوان فأخذه وهو راقصا من جبهته واستدرجه خارج الديوان قبل أن يدفعه بسبابته في الجبهة فيسقط الشاب في نوم عميق إلى الصباح الموالي"، قصص أخرى وردت في شأن "السر" مرتبطة أكثر بحكمة وجود الإنسان على أن تكون مجرد ممارسات مجوسية أو شعوذة. ومع هذا تبقى الطقوسية مجسدة في العرض الفني، وتجذب المتفرج في محاولة لتفكيك معانيها، وتجسد هذا الجانب الخيالي والفرجة المتعذرة الفهم. لذلك فإن محاولة التوغل في طقوسية الديوان هي كذلك فضاء من الدلالات والمعاني المتعلقة بالوجدان، يمكن استغلالها فنيا ورمزيا بدل إعادة تجسيدها شطحيا وبشكل مفرغ من معانيه. فكرة لمح إليها بطريقة الأستاذ تحريشي محمد حول مفهوم التو صل الفني قائلا "إن ما يسمى بالفيزيون في أيامنا لا يفترض أن يكون مجرد تبادل سطحي بين الآلات الموسيقية وتزاوجها فيما بينها، بل هي تواصل بين الأفكار والمعاني تكون الموسيقى أو التعبير الفني على العموم مجرد وسيلة لإيصالها إلى المتفرج."