حمل الفكر الغنائي العربي ما حمله من موضوعات ودلالات، ناقلا أوجاع المواطن العربي وبثوره، مترجما حالاته وإيقاع وجدانه إلى حيثما يجب أن تصله الأغنية وأصحابها من مؤدّين وأهل نغم ومجالسي طرب وأشياع كلمة موزونة، ولم يكن وجع العربي إلاّ ترجيع صداه في المنشط والمكره، منشط الرغبة والإلتياع والوصال، أو مكره السياسة بنقمتها ولا ديمقراطيتها وأحاديتها، فكأن الأغنية هي أغنية في أحوال القلب وجغرافياه السحيقة أو في أحوال الحكومات فلا تنمو إلا على درب النوم الطويل غير آبهة بالمطالب والاحتجاجات، أو الحدود وحراسة حياض الوطن أو فلسطين السليبة فلا يستصرخ لها لا معتصم ولا صلاح الدين إذ صارت الأحوال كلها سيان، غزة وبغداد ودمشق سيان، بيروت والمنامة والقطيف، عدن وصنعاء وقرطاج والقاهرة، الجزائر وطرابلس والساحل، خضم وشيك كهذا تعتوره المطبات، تهوي به الريح، تذروه عواصف الغضب، فلا تعود الأغنية إلا التعبير والصوت، الصورة والضمير، المنظومة، الأسلوب، الطريقة، المقال، إن مقال الأغنية العربية من مقال اليأس والشقاء العربيين بامتياز لصيق ومناغمة منسجمة، كيف هو حال الغناء العربي السياسي، نسقه ومذهبه، رؤيته وملمحه، باكورته وألبومه، هي مساءلات تفيض وثمة في الدواخل هجاس ومخاوف ولا مفكرات فيهن من هذه الموضوعات التي تنزع إلى الطابو، الأقنوم والمحرمات. بين شرف الغنا حول الوطن وميل النفس إلى هواها من رقص وترنح ونشوة شراب يستقوي المقال الغنائي العربي ويغذي مفرداته ومطامحه ذوات الصبغة الجمالية والفنية والأسلوبية، وصميم الذكر والتذكر لا يكون إلا في هذه الإستعادة الإيجابية لواقعنا التعبيري في تجليه الطربي، إننا لسنا في حاضرنا التو مع الشيخ إمام، أو أحمد فؤاد نجم، أو مارسيل خليفة، أو خالد الهبر وأمثالهم من الخارجين عن بيت الطاعة، مكرسين الثورية والموقف خطا والتزاما ومنهجا لأغنية السبعينيات والثمانينيات خصوصا فسرعان ما قدم هؤلاء الطريقة الثورية كعزم أخير للوجدان العربي حتى يتحرر ويدرك مسالك نوره لا في الهيصة والإبتذال وبدعة ليل وعين،، بل في العروبة ومجدها الأثيل، في فلسطين المغصوبة، في الوطن الجريح وفي التنكيل بالإمبرياليات، ولكنه العصر ولّى وانقضت لماحات شمسه الإمبراطورية، فرابط الأغنية بالعقيدة قد فك والخيط الثوري الذي انشد إليه العرب تدلى من عناقيد إسرائيل فسقط، والشعرية الغنائية الدرويشية مالت إلى التحوير والتبديل وتحريف البوصلة نحو القلب والمرأة وأصالة الروح، مثّل هذا النفس بسلطنة وصدارة ماجدة الرومي، جوليا بطرس، كاظم الساهر،، رغم أن هؤلاء ومعهم آخرون غنوا للسيات ولنزار قباني ولهنري زغيب كذلك إلا أن البصمة الدرويشية علت واعتلت المشهد مسفرة عن الارتخاء والرغبة والراحة من حروب العرب الداكنة وليلهم الداجن. ينبغي ترك الخجل جانبا عند القول إن التأريخ لأغنيتنا كاذب أو عصيّ أو غير منهجي إلا على النحو الشذري المنقول من مسودات وورقات قابلة للعمل عليها والإضافة على هوامشها، إننا استعملنا احالات إسمية ومرموزات معينة للتدليل على وجود جذر لهذا المقال العربي الموسوم باليتم لأنه حقا لا توجد منظومة غنائية سياسية بمفهوم المدرسة، المذهب، التيار، أدّى ذلك إلى الإبتئاس والنفرة والسقوط في الكيتش والخردة على شاكلة أخمد عدوية أيام السادات وهيفاء وهبي أيام حسن نصر الله وعمرو دياب أيام مبارك.. لمن يقرأ واقع الثورات العربية والزلازل التي أحدثتها يمتعض أيما امتعاض من حضورات الأغنية وتلازماتها بميادين التحرير والرأي والخطاب كون هذا الإمتعاض قائم بسبب استعجالية الغناء كوظيفة وهشاشة الخطاب الثوري الشباني المفتقد لعقائدية الثورة وميكانزمات تحولاتها، لقد ولدت الأغنية السياسية الثورية في مرحلتها الثانية بوصفها موجة فايسبوكية عابرة واتجاها في التعبير الجديد وتنويعا للأسلوب الثوري- فيما عرف بثورات الربيع- لكنها ما كانت أبدا على تماسك ورصانة أو حتى ذيوع كاف على ما كانت عليه الأغنية الثورية الماركسية الطبقية أو الأخرى الوطنية الرسمية، وقس على ذلك أغاني ديب المغني المصري الشاب، مغني ميدان التحرير وأيديولوجي الحراك الشباني المعروف، وقس على ذلك أيضا مقطوعات محمد منير التي تحكي بنوستالجيا مصر المتخيلة، مصر ما بعد المباركية والديكتاتورية الغنائية الممجدة لمناقب الزعيم الأغر كما كان يغنى مبارك غداة كل عيد أكتوبري، فضلا عن غثاثة منتشرة في كل ميدان وشارع ومسرب، إذ عادت الأغنية خلال هذا الزمن المصري الثوري أنشودة أو أهزوجة أو موالا يندب في الحظ فلا يأت، يتكيف مع الهامش فلا ينجب إلا النشاز واللاّمفرد والكورس الهجين. عمدت التونسة إلى أسلوب مخصوص بها فما كان أدبا سريا ينتج على خلفيات الشوارع والأزقة في القصبة وبن عرّوس حتى سيدي بوزيد والقفصة خرج إلى العلن طافحا بالتمرد، والتمرد المضاد، إن الخصوصية التونسية وحدها تقرأ من عدة مناحي وأقل مجلبة للحيرة، هاهو النظم الغنائي السياسي التونسي في شكله- شكل الراب- يحمل صرخات المألومين، المبتغين خبزا كريما، المعافاة من علل بن علي والطرابلسية، تنسّم عبير الياسمين التونسي ولياليه في النقطة الأبعد من استلام تونس للإسلاموية نمطا في المعيش ومنهجا في الرياسة واختيارا في الديمقراطية، في تونس اليوم راب كثير، صرخات، ديناميات ثائرة في الكلام والملبس والظهور على المنصة يعكس ذلك ثورة الضواحي القديمة على بن علي، رجاله وربّات حجاله وكذلك الثورة الجديدة على الأئمة وخطابهم التعنيفي، إنها أغنية تعيش المخاض، تضمن الأسلوب والقوة والشراسة ولا تضمن البقاء، مناضلة، مكافحة، متمترسة وحيث ناحية الجهة الأخرى يقيم الإسلاميون أناشيدهم ومواويلهم اللاّهجة بمقربة الصبح الإسلامي الخالد والطوبى الخلافية والفنتازم النبوي، إذ ثمة فرق أنشودات كثيرة تغني، توظف الجمالية الموسيقية بإسراف تتعاكس مع التوجه الديني الصرف وتقاليد الإسلاموية العربية في هذا المجال، فلقد هاجم السلفيون التونسيون حفلا مخمليا في إحدى مدن تونس أقامه النهضويون بدعوى أنه يغالي في حق الدين باستعمال الآلات الموسيقية. تخلت الأغنية السياسية العربية عن قماشها اللغوي الجميل، عن رنين كلماتها الغاضية، عن رصانتها والتزاميتها وحرفيتها، لصالح أغنية جديدة شبانية لها الإحتجاج المناوئ، الشكلنة والموضوية ومجاراة العصر، التقنية والخفة والماركيتنغ. لقد ولدت أغنيات / ديب/ أو / الجنرال حمادة بن عمور/ أو / ريما خشيش/ من رحم مغاير مشدود إلى النبض والمرونة والإنسياب لا إلا النظم والكلام والشعرية فلا القيتارة تنفع، ولا العود ولا الموندول ولا الناي ولذلك هي لعند هؤلاء بارزة توجهات البوبو، الهيب هوب، الغولدن بوي، أطفال الذهب والبرجوازية الذين لم يعيشوا غيفارا على طريقة الأسلاف ولافيديل كاسترو ولازاباطا ولا تشافيز. تختلف المدرسة الغنائية -بصفة الواقع- لا بصفة الأكاديميا أيما اختلاف عن سابقاتها، إنها أغنية الرمز والسيمياء والتقنية واللإلتقاط والما بعد حداثية حتى في أشكالها السوسيولوجية الأخيرة المليئة بالتشوهات والنقلات حيث التحق مغن عربي ومطرب الحب واللوعة فضل شاكر بالتيار السلفي الجهادي وأفرد صوته لجماعات النصرة والكتاب بأناشيده ووصلاته وينافح اليوم بأغنياته عن الشهادة والشهيد في ديار الشام، كما استكانت أغنية الراب الجزائرية إلى وضعها الهادئ الأقل صخبا على يد / لطفي دوبل كانون/ الذي بدأ بنقد /الكامورا الجزائرية/ و/ الكنيبال/ و / الفيروس/ ثم استقامت طريقته في الآونة الأخيرة على التحليل الإجتماعي الأخلاقي والمفاصلة مع السلطة والإكتفاء بإقامة الحجة على المجتمع وانحلال شبكة علاقاته مبتعدا عن لطفي القديم. في المشهد الغنائي السياسي الجزائري لا ملاحظات ذات أهمية وجدوى عدا الإشارة إلى أغنية / لالجيرمونامور/ التي غناها كورال جماعي معروف من بعزيز إلى جلطي إلى جيمي وحيد، الأغنية الكورالية تلك دشنت عصر الخروج إلى السوق والبحث عن كل ما يلمع ولو كان من الفضة أو البرونز...