أن تسمح للحشود أن تسبقك و أن تأخذك إلى الساحة العامرة بالأصوات و تنويهات الباعة و اللجلجات من كل صوب، نحو الأغورا AGORA و في الأغورا كل شيء على كل شيء، التوهج في الذهب المطلي الكاذب و الناس الملتحمون ببعضهم و الورقات الصغيرة التي تبيع حروزالقرآن و سورة الناس و الفلق، تبدو ساحة الفناء في مراكش ساحة إلهام و شعر همجي و غزوات روحية قاطعة النفس لكاتب بقامة خوان غواتيسلو، لم أستطع أن أقرأ خوان خارج مراكش الحمراء، خارج جامع الفنا، الساحة التي تدونت في منظومة التراث البشري العالمي و حازت مقاما رفيعا في اليونسكو، إن خوان غواتيسولو ليس هو إلا من مراكش مدينته التي هام فيها، لثمها بكلماته، جمل بها آدابه الرفيعات، لغته الخلاسية المنتهكة، نصوصه المتفردة، كتاباته العذبة الشرهة، مع الإسباني المثير تدرك أن لمراكش أبواب و مفاتيح و أن للكلمات لغات أخرى كاليوتوبيا و أن للمغرب الثقافي فسحات و أجهزة تنفس و خوابي و مسكرات المثقف المترحل، الصحافي الملتزم، الروائي المرموق، لا تكفيه ألقاب النجوم، فهو مركز فحص و آلة تنحت الكلم و حقيبة سفر محملة باللذائذ و المباهج و الأمكنة و عبق الأمكنة، يكتب خوان كأنه الكاميرا الخفية و المنطاد و صائد الجواسيس، خبير في الرائحة و في المسافة و هو الأقل خبرة مع إسبانيته، نادر في عالميته كذلك، الإسباني على مضض هو ما يظل يردده خوان منتميا إلى الأكابر مع غونترغراس، و نعوم تشومسكي، و ادوارد سعيد و روجي غارودي· إنني إذ أستعيد خوان غواتيسولو فإنني أستعيد صورة المثقف النقدي، المتماهي مع الثقافة العربية تماه فيه الإستسلام الطوعي الذي لا مثيل له في المدرسة الإستشراقية الغربية العاجة بالخيلاء و العجرفة /انتقدت سلوك فلوبير في مصر، و رؤية ماركس للهند و الجزائر، و حين مات فرانكو رفضت العودة للإقامة في اسبانيا مكتفيا بالذهاب لزيارتها من وقت لآخر و بقيت أمارس ما يشبه رحلة النوارس بين مراكش و باريس/·· لن تصدق أكاذيب الأدلة السياحية إلا بعد أن تقرأ هذا اللورنس، لورنس العرب الذي حل بيننا و لم يكن إلا الشخص النبيل الذي رفض أن يزيف، يتنكر، يملأ ما بين أغراضه بالحبر السري و قوائم و أسماء و مشاريع نهضتنا التي نترقبها كل مئة سنة و هي لا تأتي، نهضة لا تأتي فهمها الإسباني الذي بين ظهرانينا فهو الواحد المتعدد فينا، الطبيب الروحي الذي عافت نفسه الإستشراق في جوعنا و في الملح المغربي· لم يكتب خوان كتابة سياحية منظورا إليها بعين الفنتازم الغربي و الإكزوتيكية المتفلتة التي لا تلحظ إلا ما يغدي الآخر الإستعماري، المدني، الرسالي، مخيالات الغربي كان معها الكاتب ساديا حتى أبعد نقطة فعنده حتى المتصوف المسيحي القديس يوحنا الصليب يتعشق الثقافة العربية و يتشبه بالمحبوب في فضائل الطائر المتوحد، و كذلك مروره بالراهب المتحلل الداعر الذي يكتب للمراهقات رسائل فضائحية، إنه يزيح أسطورية الغربي الكاثوليكي بدعواه الأيديولوجية التطهرية، كما يمرر العربي بشهامته الأندلسية، فروسيته العذراء، مرحه على نفسه، شفويته التي لا محل لها من الإعراب غير القلب، يمرره هكذا خوان بالتسريب و التفليت حتى لا يكون المستشرق فيه دائما بل هو الحامل لأوجاع تاريخ و جغرافيات متصدعة و هوية قابلة للإستزادة و الإضافة و الضم، كما ينضم إليها الإسباني الأقل في نزعته، في اندفاعيته المحمومة نحو حراسة /الأغورا/ الساحة العربية المغربية المراكشية، عندما أقرأ كتاب مراكش اكتشفها مرة عاشرة بساحتها، جامع الفناء، الكتبية، زنقة السعدي، مقاهي التراس، شارع فرنسا، وغليز، أصوات السحرة و المشعوذين، باعة التكايا و الحروز، اسبانيا الشعبية، العربية، الصاخبة، غير الفرانكونية، المتسامحة، التي غادرها الموروس لكنهم يحلمون بالعودة و بفتح جديد يأتي من باريس، من حي /الساننتييه/ الهذياني في كوسموبوليتيته· إن الساننتييه هو حي شعبي، أجنبي، يهودي، عربي، إفريقي، آسيوي،تنزاح فيه الهوية عن هويتها و يركب الآخر عربة الآخر، و يساكن أفراد و جماعات نظراء لهم على التلاق و على الرؤية الجماعية المخلوطة بأدق التفصيلات، الوضع في الحي يشبه روايته /مناظر ما بعد المعركة الأخيرة/ حيث يشكل سكان الحارة الفرنسية غزوا خياليا بالغ التنفيذ في دقته للغرب، نقاش هو اليوم مطروح على أسنة و رمح و على الطاولات و في الصفحات الإفتراضية عن الغرب المتخيل و الإسلام المتخيل· إن الصحافي السخيف الذي كتب عن غواتيسولو و حماسته للعرب متهما إياه بتعاطي الحشيشة المغربية هي نفسها الإتهامات و الفذلكات التي يحط عليها الغرب جزء من فخاخه و استبطاناته كي يقطع طريقا امام تعايش مفترض و مسكن لائق و هجرة تبادلية، منافعية، لا يوقفها عسف القوانين المفاجئة·· الكتابة الغويتسولية هكذا جاءتني، غير مختلة، صادقة، و تطلب منك دائما أن تجوب في المعاني و تحت الأحاسيس و أن تدع مداعبة الجلد و شعرات الجلد إلى الروح، روحك أنت المتوسطي، العربي، الإسباني، المالطي، المسلم أو المسيحي أو اليهودي،هو بحث دامي، تسأل فيه الشفاه عن شفاهها و تسأل فيه الربى عن أوطانها، و تسأل فيه الأنا في أنواتها، مذ قرأته و أنا أعيده هو خوان، قرأته شرقيا لا كما كتبه فينا سلامة موسى، يعقوب صروف، و ميشال شيحا، شارل مالك، و فوزي منصور، و لا كما يكتبه عنا اليوم، فؤاد عجمي، و كنعان مكية و العفيف الأخضر، و شاكر النابلسي، بل إن شرقنا فعلا مريض، عليل، مكتوي بآثار ندبات و كدمات و أوجاع و ذاكرة جماعية وحده هذا الإسباني الطفل الرقيق في شيخوخته الرائعة من يفهمه - هو الشرق - و يفهمنا - لا نحتاج إلى الدليل الأزرق كما ينصحنا و نحن نتعثر في غدونا و رواحنا في مراكش و طنجة، في غزة و القاهرة، في برشلونة و كابادوكيا، رحلات تحتار في تصنيفها و هجانة في اللون الكتابي الذي ينحدر منه هذا /الهيدالغو/ نبيل اسبانيا القليلة المكانة بلا نكهة عربية، و قهوة عربية، و سيدة عربية· يقارب الثمانين هذا الذي ينتمي اللحظة إلى شموخ و إباء و رفعة و فنتازيا سرفانتس، و كارلوس فوينتوس و رفائيل ألبرتي و فريدريكو لوركا، و في ملحمة الطفل الوديع، طلع من عائلة ليبرالية، كسدت صناعة والده، والدته اعتنت أكثر بالأبناء، كان ضد الجبهة الشعبية مع اليمين لإيمانه بأن الأولى هي مجرد حفنة من الديماغوجيين، البدويين، الذين سيمسكون بزمام الحكم، طفولة قاسية و عنيدة فخوان لاقت والدته حتفها في العاصمة الكاطالانية أثناء قنبلة الطيران الموسوليني لها·· أمام كاتب ليبرالي، سليل بيت الطمأنينة التي هد أركانها المعتوه فرانكو، خيار باريسي مهم لا يشك فيه، هناك التقى بخيرة المشهد الثقافي الفرنسي، سارتر، سيمون دو بوفوار، و كامو، و بيكيت و جان جينيه، مدلل دللته دور النشر الفرنسية هناك عندما تعرف هناك على زوجته فيما بعد مونيك و هي عاملة بمصلحة الترجمة لدى الناشر غاليمار مع مونيك عرف الحب و تخلص من نوازع دفينة و التباسات داخلية لم يكن ليفهمها، هكذا نقل عنه من البيبيوغرافيات و هكذا أضاء و استمر مع مونيك /ابتسامتها خطوة خاصة و غير مألوفة، إنها ابتسامة دافئة، سخية، مشوبة بحزن خفيف، لا تنتمي حصرا إلا إليها، و حين تستوعب و تستبطن، يغدو نسيانها من سابع المستحيلات/ قال عنها في موتها· لا يرتدي غواتيسولو أي بدلة تقيه ريح العرب، فهو لورنس غير مبعوث من الديكتاتور فرانكو، ليس له دواة، و لا حبر سري، و لا كودات تعرفها فقط أجهزة الإرسال و من يرسلون، هذا نوع متوحد، طائر المثال، و ليس عروسا من عرائس القراقوز الذين يشتغلون على الساعة منتصف الليل لإفادة مؤسسات الإستشراق، خوان ليس من هؤلاء و لا هاو و غاو للممالك البزنطية أو من يقبل التداعي الحر على طاولة عشاء مشبوهة إلتزامي مئة بالمئة، حر مئة بالمئة، خالص العلامة لا يتزيا بزي ملك فالملك دائما عار كما يقول الأطفال·· أدب الرحلة الذي يكتبه تجريب في التجربة و نقل لاهت، و سرعة بارقة في الإلتقاطات، من يقرأ /قرافة القاهرة/ قد يمتنع عن زيارة مصر نهائيا أو هو سيزورها و قلبه في يده و رأسه تحت نعليه عن هذه اللامرئية التي تخلس النظر و تبتلع الحياة و يبكي فيها الأغنياء فقط في المسلسلات، إن القاهرة عند الإسباني هي القاهرة عند المعز لدين الله، لا تذهب فقد تنسى معطفك هناك، و أنت لابسه· نصوص حازت اهتمام كبار من المغرب و العراق ككاظم جهاد و ابراهيم الخطيب و عبد الفتاح كيليطو، هذا الكبير استحق التذكار و الشمعدانات و استحق التنويعات على مطوياته السياحية التي ألغت ما قبلها، الدليل السياحي بهرج خداع أبطل مفعول خداعه خوان غواتيسلو··