وُلد النشيد الإسلامي في المسجد مع بداية الستينيات، و ترعرع هناك بين جماعات أخذت على عاتقها لواء الدعوة إلى الله و من أهمها جماعة الإخوان المسلمين المصرية التي تحوّلت فيما بعد إلى تنظيم عالمي. و قد اتخذت هذه الجماعة على وجه الخصوص من الأنشودة أسلوبا للدعوة إلى الله لشدّ أزر الأساليب الدعوية الأخرى، و لم تخرج الأنشودة في تلك السنوات من محضنها الأول، المسجد، إلا بمجيء العام1968 حيث صدر أول شريط للمنشد السوري أبي مازن، و فُتح الباب بعدها ليتوالى المنشدون العرب من فلسطين و الأردن و سوريا و المغرب العربي و في الجزائر التي ارتبط النشيد فيها بالحركة الإسلامية كما في المشرق. لكن ماذا حدث بعد قرابة أربعين عاما من بزوغ فجر الأنشودة؟ هل تطوّرت، و كيف؟ و هل بقي العرب وحدهم بارعين فيها؟ ألا تزال مواضيعها هي هي أم أنها تغيرت و تعددت؟ الحقيقة أنّ القصة الجديدة للأناشيد بدأت مع انْبِجاس عصر الفضائيات و ظهور الفضائيات المتخصصة في الشأن الإسلامي، فهذا الفضاء الجديد هو الذي أخرج الأنشودة من زوايا المساجد و رُكناتها و أدخلها إلى كل البيوت، و هو الذي حرّرها من التبعية و الارتباط بالحركات و الأحزاب الإسلامية و حوّلها إلى ذوق جماعي، يحقّ للجميع- و ليس لأبناء الحركة و الحزب وحدهم- الاستماع إليه، كما ساهم هذا الفضاء أيضا في التعريف بمهرجانات الأنشودة الإسلامية، حتى باتت أشهر من نار على علم، بل خرجت تلك المهرجانات من المحلية و القطرية إلى القارية و العالمية. لقد "انتشلت" الفضائيات الأنشودة الإسلامية من عالم الأشرطة السمعية و من أشرطة الفيديو - التي لم تستطع أن توصل الأنشودة إلى كل الآذان- و رمت بها إلى الناس جميعا من كل المستويات العلمية و الاتجاهات الفكرية، لكن الأهم من ذلك كلّه، هو أن الأنشودة ما كانت لتعرف ذاك الرواج لولا أنها شهدت إنتاجا غزيرا و متنوّعا جعلا منها مادة فاضت على كل الفضائيات الإسلامية منها و غير الإسلامية و اكتسحتها. الذي جرى، يتلخّص في تنوّع المواضيع التي طرقتها الأنشودة، فهي لم تبق حبيسة قضايا الجهاد و أمجاد الأمة الماضية و راهِن الإسلام و ما يكيده له الأعداء و الجهاد في أفغانستان، فاختارت أن تخرج إلى المواضيع العامة و إلى الحياة اليومية و إلى قضايا الشباب بخاصة، كالزواج و الصداقة و الأولاد و البيت و السلام و الحب و حتى الغزل و المخدرات و الصحبة السيئة و المرض و الموت، و لا بد من التشديد على أن المنشدين لجأوا إلى هذه المواضيع الجديدة مضطرين لا مُخيّرين، فالمواضيع التي دأبوا على أدائها باتت مهضومة بل و مُجترّة سئم الناس من الاستماع إليها، كما أن الدعوة لله لم تعد ترتكز على الخطب أو على ذلك النوع "القديم" من الأناشيد، و إنما هي بحاجة إلى روح جديدة تساعدها على التسلل إلى كل الآذان و من ثمّ التغلغل في كل القلوب. لقد كان لأقطاب الأنشودة في العالم العربي باع عظيم في إيصال صوت الأنشودة و رسالتها إلى أكبر عدد ممكن من الناس في العالم العربي الإسلامي، فأصوات أبي راتب و أبو المجد و أبو دجانة لا تزال تهزّ آذان و قلوب الملايين ممن عاصروا الأنشودة الإسلامية في عصرها العربي الذهبي في الثمانينيات، و قد أشعلت الانتفاضة الأولى في العام1987 الأنشودة و ساهمت في انطلاقها بقوّة أكبر، ثم جاءت أصوات أخرى من أمثال موسى مصطفى و يحي حوى، و من الممكن القول بأن هذه الأصوات الشابة و غيرها حاولت أن تحمل لواء العمالقة الأوائل، أبو راتب و أبو المجد و أبو دجانة الذين تقدّم بهم السن شيئا ما. ما فعله الجيل الجديد من المنشدين العرب هو العمل على إخراج الأنشودة من دائرة الدف و إدخال الموسيقى بكل آلاتها تقريبا، و هذا من أجل الوصول إلى الأذواق جميعا و منها تلك التي تحب الاستماع إلى آلات موسيقية متعددة، و لا تستسيغ بالمقابل صوت الدف وحده. لقد باتت المواضيع الجديدة و الموسيقى الجديدة بحاجة إلى نوع جديد من الكلمات التي تمس الوجدان و تتناسق مع الطابع الجديد موضوعا و موسيقى، لذلك لجأ المنشدون الجدد إلى انتقاء الكلمات بدقة للنفاذ إلى الهدف و إيصال الرسالة، ففي أنشودة "أمّي" للمنشد الإماراتي أحمد بوخاطر، بدت الكلمات بارعة جدا تسيل لسماعها العيون، حيث يقول مثلا "لسوف أعود يا أمي أقبّل رأسك الزاكي، أبثك كل أحزاني و أرشف عطر يُمناك....و قلتِ مقالة لا زلتُ مُدّكرا بها دهري، محال أن ترى صدرا أحن عليك من صدري"، أما اللحن فلقد كان رائعا من دون مبالغة، و المنشد نفسه أبدع في أنشودة "فرشي التراب" لحنا و كلمات، و استطاع أن يُخرج موضوع الموت من صورته القاتمة التي علقت و لا تزال بأذهان الناس، واستطاع بوخاطر أن يبرع مرة أخرى في انتقاء الكلمات. حتى طريقة اللباس أفضت على الأنشودة روحا"مرحة"، فتخلى المنشدون عن القميص و اللحية الكثيفة و منهم من تخلّى عنها نهائيا، و هو طابع جديد اصطبغت به الأنشودة و لن نتحفظ عن القول بأنّه زادها جمالا. لكن الجديد الكبير في عالم الأنشودة في السنوات الخمس الأخيرة تحديدا هو دخول المنشدين المسلمين غير العرب ساحة هذا الفن، و رغم أن البداية كانت بمطرب "البوب" الشهير، الإنجليزي "كات ستيفنس" الذي أسلم قبل عشر سنوات و أصبح يُدعى "يوسف إسلام" حيث أنشد بعض الأناشيد بالإنجليزية، إلا أن الانطلاقة الحقيقية للإنشاد الإسلامي على يد المسلمين غير العرب، كان على يد الأذربيجاني المسلم "سامي يوسف"، الذي يتربع اليوم على عرش الإنشاد، و سامي يوسف يغني بعدّة لغات هي الإنجليزية و العربية و الهندية و الباكستانية فضلا عن لغته، و قد طرق هذا المنشد مواضيع الأم و حب الرسول صلى الله عليه و سلّم و نهضة الأمة و الأمل في عودة الحضارة الإسلامية و انبعاث فجرها، و كان لمنظر سامي يوسف الأنيق جدّا أيّما أثر في أن تبلغ الأنشودة الآفاق، فأصبح الناس يوصون بعضهم بالاستماع إلى أنشودة فلان و أنشودة فلان. المنشد التركي "مسعود كورتس" دخل بصوته الشجي ساحة الأنشودة، فأحيى قصيدة "البردة" للبوصيري، بلحن أخّاذ جدّا و بموسيقى هادئة غلب عليها الدف، و يبدو أن كورتس يحظى هو الآخر بالكثير من الاحترام في عالم الأنشودة. في ختام الحديث عن الأنشودة، يجب التنويه بالتقدم الكبير الذي أحرزته بفضل عوامل كثير تهافتت لتشكل روافد أغنت نهر الفن الإسلامي على اختلاف طبوعه و أثرته، و عليه فإن مستقبل الأنشودة يبدو واعدا جدا، في انتظار ما قد يطرأ من جديد. حمزة هدنه/الأنترنت