إذا كانت اليوتوبيا هي الحالة التي ينبغي أن يكون عليها الوضع سائدا، أو تجاوز الواقع الراهن لواقع مثالي خيالي، فإن فكرة التقدم نحو النموذج الأمثل والأفضل ظلت ترافق الإنسان خلال مسيرته التاريخية والحضارية، حيث كان دائما وأبدا ينشد الكمال والمثال، حيث أن تاريخ العالم قد بدأ يوتوبيا عندما نتكلم عن آدم وحواء داخل الجنة أي داخل المثال، الذي لا نزال إلى اليوم نحاول استحضاره في الأدبيات اليوتوبية للمجتمع السعيد الذي يشيّده الإنسان. هذا البحث عن المثال نلاحظه على سبيل المثال لا الحصر كيوتوبيا دينية حينما نشاهد أن أول كتاب ترجم من الحضارة اليونانية إلى اللغة العربية كان كتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو، إننا نحاول الإمساك بما وراء حدودنا أي ما لا نعيشه ولا نحياه، إننا نبحث عن اليقين. وإذا كانت السياسة من عالم الممكن النسبي، والأخلاق من عالم المبدأ فمالذي يحدث إن صارت السياسة من عالم المبدأ، والأخلاق من عالم الممكن؟ حينئذ تظهر الحاجة إلى اليوتوبيا إنه غياب القيم الأخلاقية والروحية التي تسموا بالإنسان، هنا فقط تظهر الضرورة لتصور مجتمع أكثر أخلاقا، أكثر تحليا بالقيم الفاضلة، إن البحث عن اليوتوبيات في مؤلفات تتخيلها وتصنعها الذات كان نتيجة لواقع لم ينل رضاها، فحاولت أن تتمرد عليه بصناعة تاريخ لا حقيقي، وإنما هو نظري متخيل يعكس الحقيقة التي يجب أن تعاش، كما نادى به أفلاطون في جمهوريته أو الفارابي في مدينته الفاضلة، إن اليوتوبيا تحاول صناعة التاريخ الأقل عنفا والأكثر سلما حين تكرس مفهوما لا زمنيا ولا مكانيا ليصبح هو المحدد لرؤية الإنسان نحو العالم، في شكل أفضل ومتكامل، وهو الطريقة التي تتمكن من خلالها من إنجاز "توافق لقناعات محدودة ورغبات إنسانية غير محدودة ضمن السياق الاجتماعي"، لذلك يقول أفلاطون: "يجب ألا يتعلموا أو يرغبوا أبدا في تعلم ما معنى العمل الفردي، وألا يتعودوا عليه، بل لندفعهم إلى التوق جميعا إلى الأشياء نفسها، وألا يعرفوا إلا شيئا واحدا: العيش دائما حسب نمط واحد". وعليه فالتاريخ من جهة هو الذي يصنع اليوتوبيا، فالواقع والمظهر التاريخي لأي مجتمع هو الذي يبعث في الإنسان تجاوز النقائص والتناقضات الموجودة فيه واستحضار واقع خيالي متكامل، لذلك فالخطاب اليوتوبي خطاب لم يخطر على بال بسبب نظرته الشاملة إلى ما هو مبعد من الخطابات الأخرى، فاليوتوبيا لا تقتنع بالواقع الموجود، ومن جهة أخرى نجد التاريخ محركا لليوتوبيا حيث كان دافعا للإنسان إلى تغيير الواقع نحو النموذج، لصنع تاريخ أحسن باعتبار المجتمع هو الذي ينقلنا من مرحلة تاريخية إلى أخرى من خلال ما تخطه وتصنعه أنامل الإنسان، فالمستقبل اليوتوبي هو ليس إلا الحاضر أو الراهن بعد تطهيره من صراعاته ومآزقه، وعلى المستوى الاجتماعي فاليوتوبيا هاهنا هي مرآة للمجتمع الراهن مبينة عيوبه ونواقصه، وفي سياق أكبر يتبدى لنا الدور النقدي الذي تلعبه اليوتوبيا بعرضها لمأزق الحاضر، ومقيدات خطابه، مقدمة نفسها بوضعها شكلا مختلفا، وهو ما يوحي بالخيالية، حيث لا يمكن أن تخفي أي يوتوبيا حنينها إلى الماضي البعيد، الذي تحاول اليوتوبيا استعادته، إنه بحث عن الفردوس المفقود، إنه بحث عن تجربة وعن ماضٍ من خلال التجارب الإنسانية أكثر منه ملاذا مفتوحا على الحاضر، فالتاريخ يسير دائما نحو التقدم لا التراجع على الصعيد الزمني، واليوتوبيا هي النهايات المختلفة والمتعددة التي تحاول أن ترسمها لمسيرة التاريخ. وعليه فاليوتوبيا هي انعكاس للواقع التاريخي في مرحلة ما، وعليه فإن الوعي اليوتوبي المتولد ليس له تاريخ، حيث لا يمكن إرجاعه إلى ظاهرة خارجية ولا يتبع اتجاها ثابتا نحو تمثيل دقيق ومتزايد للعالم. لقد حاولت اليوتوبيا منح معنى وتماسك للتاريخ، من خلال وجهة نظرها، ما يجعله ليس فقط مجموعة من الأحداث العشوائية وإنما هنالك وعي تاريخي بأحداثه ومظاهره الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية بإيجابياتها وسلبياتها وهو ما تطرحه اليوتوبيا حينما تحاول أن تقدم نماذج تستلهم فيها الإيجابيات وتزيل منها السلبيات، وإذا كان هيغل (1770م -1831م) يرى أن ما يميز البشر بحق هو الفكر أو العقل أو الوعي أو الروح ومن هنا ينبهنا إلى أن الفكر مدسوس في كل ما هو بشري وأن التاريخ الحقيقي لا يبدأ إلا مع ظهور الوعي وبالتالي فإن المجتمعات الأولى التي كانت تعتمد على الأساطير لا تكون جزءا من تاريخ الإنسان. فظهور الوعي اليوتوبي تزامن معه ظهور التاريخ الحقيقي الذي يسير نحو التقدم في شكله الأفضل، إن إحساس الإنسان بنقص إنجازاته في الحياة اليومية، يجعله يشعر بالنقص إزاء الوضع التاريخي الذي يرتبط به، وعليه فاليوتوبيا هي تلك الصياغة الأدبية والفلسفية للمنجزات الخيالية المتولدة عن هذا الشعور، مما يدفعها إلى محاولة هدم الواقع باسم رؤية معينة ما ضوية كانت أو مستقبلية. وهكذا يبقى الهدف الأساسي لليوتوبيا، هو رسم مجتمعات متخيلة يكون فيها الانسجام أمرا جذريا، وعليه فليس ثمة يوتوبيا يمكن أن تكون مقبولة عالميا بكونها أفضل نموذج للانسجام الاجتماعي، ما يجعل هناك مجموعة يوتوبيات، كما أقرها أرنست بلوخ (1885م-1977م) على سبيل المثال حين يشير إلى يوتوبيات طبية واجتماعية وتكنولوجية وعمرانية وجغرافية وفنية. وهنا يؤكد لنا بلوخ، أن اليوتوبيا الملموسة تقدم لنا نظرة استشرافية نحو المستقبل أو تاريخ المستقبل على نحو ممكن من الممكنات التي يمكن أن نعيشها داخل التاريخ، وعليه فالتاريخ يصنع من خلال أحداثه اليوتبيات التي تدفعه نحو النموذج المثالي والكامل.