هل هو كابوس مفزع جاء من جديد ليقضّ مضجع إخوان مصر، بعد أن صدقوا أن زمن المحائن والابتلاءات الأليمة أصبح خلفهم، وولّى إلى غير رجعة؟! لقد وجه العسكر رسالة تهديد واضحة ومبيّنة إلى الطبقة السياسية المتنازعة حول الحكم.. هذا في الظاهر.. لكن في الأساس، كان التهديد موجها بشكل بائن ومباشر ولا غبار عليه إلى الرئيس محمد مرسي، الحاكم الذي لم يتخلص من ثوب الجماعة كما يتهمه خصومه.. الرسالة اختصر زمنها في 48 ساعة، جاءت على لسان وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، المسؤول السابق في المخابرات العسكرية، وخليفة الطنطاوي، المعين من محمد مرسي نفسه على رأس وزارة الدفاع.. واعتقد الكثير حينها أن مرسي تمكّن من حسم صراعه ضد العسكر بتعيين أحد المحسوبين عليه، باعتبار هذا الأخير لا ينتمي إلى الحرس القديم، ومعروف عليه نزعته الدينية المحافظة وتقواه اللذان غالبا ما جعلا الألسنة المشكاكة تنعته برجل جماعة الإخوان.. هل من المعقول أن يتكرر في حياة الجماعة ذلك السيناريو المزعج زمن الضباط الأحرار، والذي مازالت آثاره المدمرة كامنة في تلافيف الذاكرة الجماعية لأجيال متعاقبة من جماعة الإخوان؟! هل يعقل أن يجرؤ العسكر على اللعب بالنار، ويتجرأوا على إقالة الرئيس المنتخب، متحدين في ذلك الشرعية التي كان العالم بأسره شاهدا على ميلادها...؟! تلك الهواجس والمخاوف سرعان ما تحققت عندما حدث ما لم يكن في حسبان الإخوان.. لقد عزل محمد مرسي، وراحت الملاحقات تطال الوجوه البارزة في مكتب الإرشاد، وفي المراكز القيادية لحزب التنمية والعدالة.. وظهرت في ساحة رابعة العدوية غريمة ساحة التحرير، وأيضا في مدن مصرية أخرى، مقاومات لما أقبل عليه العسكر المدعّم من جبهة الإنقاذ المصرية ومن قبل المؤسسة الدينية، الأزهر والكنيسة. ولقد ترتب على ذلك في اليوم الأول سقوط عشرات الضحايا. وهذا في حد ذاته مؤشر سيئ على ما يمكن أن تتخذه الأحداث من وجهات، وما ستنتجه من إفرازات.. ومنذ الأيام الأولى التي تلت عزل الرئيس محمد مرسي عاد الإخوان بعد القوس الصغير الذي قضوه في الحكم، إلى خطابهم التقليدي.. وهو ذات الخطاب الديني، العاطفي، المتوتر، المعبأ بالشحنة الوجدانية المتوسلة طريق التضحية والشهادة.. ولقد عبر مرسي عن ذلك، في أول رد فعل على ما أقبل عليه العسكر، بتوظيفه آخر قطرة دم في حياته.. ورغم أن قيادات الإخوان وتنظيمهم الحزبي شدد على استمرارية الاعتصامات السلمية ورفضهم الانقلاب العسكري، وذلك حتى العودة إلى الشرعية، إلا أن الأجواء التي أصبحت تتنامى وتسود في أوساط الأنصار والمتعاطفين، هي أجواء بداية التحضير لحرب لا نقول اسمها بصراحة، وهي القتال في سبيل عودة الشرعية، والتي لا تعني فيما بعد على مستوى الخطاب إلا الدفاع عن تطبيق "شرع الله" على الأرض، الذي عارضه وحاربه أعداء الإسلام "من العلمانيين والقوميين ورجال الدين الموالين للعسكر، والمسيحيين"... وهذا ما يجعلنا نلاحظ العودة المتصاعدة لكل ذلك الإرث الوجداني والشعائري والإيديولوجي للمتخيل الإخواني، المتكون من تلك العقد التي لا تزال تشكل الخزان البسيكوديني والسياسي لجماعة الإخوان، وذلك خلال تاريخها المديد الذي يشارف على مائة سنة بكاملها.. وهذه العقد هي ثلاث: عقدة المحنة، أو الابتلاء المؤلم، عقدة الاضطهاد وعقدة المؤامرة... ومن أجل فهم هذه المكونات للمحنة الكبرى، أو العقد الثلاث، وكيفية تشكلها إلى آلية معقدة وشغالة، ونسيج متشابك ومولّد لعوالم داخلية منتجة للغات مشفرة وخاصة، تتحصن بها سلوكات وذاكرة الجماعة، علينا الاقتراب مجددا، ومن خلال مسافة مرسومة، من المسارات الطويلة والملتوية، والظاهرة والباطنة التي تشكلت عبر تفاعلاتها وتحولاتها هوية جماعة الإخوان التي أصبحت عليه اليوم. فليست الأهداف التي عاشت الجماعة من أجلها هي التي تهمنا بل التحولات التي صنعتها كإنية وجماعة، كخطاب وإيديولوجيا وكرؤية فلسفية وخطة سياسية واستراتيجية.. ومثلما يقول رالف والدو أميرسون أن "البشر عظيمون لا بسبب أهدافهم، بل بسبب تحولاتهم".. شكل غزو المغول مركز الخلافة العباسية في بغداد، عام 1258م، لحظة فارقة وحاسمة في حياة الجماعة الإسلامية، وتمثلت هذه اللحظة في نهاية الحضارة الإسلامية التي امتدت أنوارها لقرون، ودخول شعوبها زمنا عصيبا ومظلما، مليئا بالإهانة والإذلال والعبودية الجديدة... وكان الاكتشاف المروّع لنهاية التاريخ، تاريخ العرب والمسلمين، بمثابة الصدمة التي زلزلت الأسس الإيمانية الإسلامية والضمير الإسلامي، الذي حاول التعبير عن وضعه الجديد وحاله المقلق لنخبة فتحت عيونها في ظل الانهيار المزلزل للحضارة العربية الإسلامية. وكانت هذه النخبة التي اكتوت بنيران الاضطهاد والملاحقات وكذلك بالموت، فسرت لحظة الانهيار بابتذال الشعور الديني والابتعاد عن الروح الحقيقية للإسلام.. ومن هنا، راحت تتشكل إيديولوجيا العودة إلى المنابع الصافية والأصلية للإسلام الحقيقي.. ولم يكن يعني ذلك إلا استعادة اللحظة النبوية الأولى المعبرة عن زمن الإسلام المبكر الخالي من كل شوائب التفسيرات والتأويلات الدخيلة بسبب تلك الروافد الغربية التي تسللت إلى روح الإسلام.. وكان هذا التشديد على الاختلاف المثالي والحرفي للإسلام الأول، هو الأرضية التاريخية الأولى التي راحت تتشكل على أساسها ما وصف فيما بعد بالأصولية الإسلامية أو "السلفية". وكان أحمد بن حنبل هو الملهم الأول لمثل هذه الإيديولوجيا.. ليواصل الطريق بعده الفقيه السجالي، أحمد بن تيمية، مستلهما أفكاره ومنهجه بشكل مباشر... وكانت حياة هذا الأخير، كما يقول عنه محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب" (موزعة بين دمشقوالقاهرة، وفي نفس الوقت بين رضا الحكام عنه وغضبهم عليه). وكان ابن تيمية مصدر إلهام لعدد من المجددين للفكر والممارسة الإسلاميين على صعيد التأويل والبراكسيس في زمننا العربي المعاصر، وهم: محمد بن عبد الوهاب (مؤسس ما أطلق عليه مذهب الموحدين أو الوهابية) وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده مبتكرا التيار الإصلاحي، وتلميذهما ذو النزعة الأشد محافظة وحرفية محمد رشيد رضا الذي جعل من مجلة المنار منبرا لأفكاره المدافعة عن فكرة الخلافة الإسلامية، ثم حسن البنا (1906-1949) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928 بمدينة الإسماعيلية، التي كانت بحق تشكل دولة داخل دولة، باعتبارها المركز الرئيسي لشركة قناة السويس، وقلب "منطقة الاحتلال البريطاني"، وعلامة صاخبة من علامات الحداثة الغربية من حيث الثقافة الغربية السادة والمنتشرة والروافد الأجنبية وتأثيراتها العميقة على مستوى الحياة العامة والاجتماعية.. كما أن العام الذي أنشأ فيه البنا جمعيته ذات الطابع الخيري والديني، هو على الصعيد العالمي عام الأزمة الاقتصادية الكبرى التي كادت تقوّض أسس المجتمع الرأسمالي العالمي، وعام لحظة الانهيار الدستوري الكبير في مصر.. وإذا ما صدقنا أحد المفكرين المناوئين لجماعة الإخوان، وهو رفعت السعيد، فإن الجمعية قد استفادت، وهي لا تزال في مرحلتها الجنينية، من مبلغ مالي تبرعت به لها شركة قناة السويس، وذلك ما مكنها من تأسيس أول شعبة لها في مدينة الإسماعيلية. كما حظيت ببعض العطف والدعم من قبل بعض من كان لهم شيء من النفوذ السياسي. لكن مثل هذه التشكيكات حول البدايات الأولى للجماعة لا تسقط على مؤسسها وموهبته وذكائه في القيادة والزعامة والتنظيم؛ ففي وقت وجيز بزغ نجم الشاب حسن البنا كقائد وخطيب وداهية جمع بين فن التكتيت والمراوغة والتخطيط على المدى البعيد.. منذ البداية، لم يكن أسلوب حسن البنا بالتقليدي، فلقد تمكن من استثمار التجربة السياسية الحزبية في مصر، والتي كانت متمثلة في المنافسة الحزبية والصراع مع الاحتلال البريطاني ومع القصر.. لذا غلب على سيره السياسي، ورغم دعوته الماضوية على الصعيد الإيديولوجي، جانب حداثي تمثل في قوة التنظيم وإدارة فن الصراع.. فبعد أن شعر أن ساعد الجماعة بدأ يشتد، خطط للانتقال إلى مرحلة أكثر تقدما على مستوى الخطاب، بحيث خاطب جنده قائلا "إلى الآن أيها الإخوان لم تخاصموا حزبا ولا هيئة، كما أنكم لم تنضموا إليهم. ولقد تقوّل الناس عليكم، فمن قائل إنكم وفديون نحّاسيون، ومن قائل إنكم سعديون ماهريون، ومن قال إنكم أحرار دستوريون، وإنكم بالحزب الوطني متصلون، أو لمصر الفتاة منتسبون، إلى غير ذلك... وإنكم لبريئون.. فما اتبعتم غير رسوله زعيما، وما ارتضيتم غير كتابه منهاجا، وما اتخذتم سوى الإسلام غاية.. فدعوا كلام الناس جانبا، وخذوا في الجد، والزمن كفيلا بكشف الحقائق".. ويضيف في مناسبة أخرى ".. يقولون نحن في حيرة من أمر الإخوان المسلمين، أهي طريقة صوفية أم جمعية خيرية، أم حزب سياسي.. وأي شيء يقصدون، وفي أي طريق يسيرون. أما نحن الإخوان فقد تجاهلنا هذه المسميات، وأخذنا في الطريق الأول الذي لا يصلح أمر الناس إلا عليه.. الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسول الله، ونهجنا منهج الإسلام، ووسيلتنا إيمان ومحبة وعمل". ثم لم تلبث هذه الجماعة خاصة بعد انتقال مؤسسها من الإسماعيلية إلى القاهرة، أن تكاثر سعيها وامتدت رقعة تأثيرها، واتسعت دوائر ومناطق نفوذها، بحيث أصبحت بسلطتها المتعددة الأوجه تتعاظم بشكل لافت للنظر، ما أصبح يثير مشاعر وسلوكات مختلفة ومتناقضة تراوحت ما بين محاولات الاستقطاب تارة، ومحاولات التقويض والتطويق تارة أخرى.. ولقد انتقلت الجماعة من أربع شُعب عام 1929 إلى ألفي شعبة سنة 1948.. وبلغ عدد أعضائها في منتصف الأربعينيات، حسب تصريحات حسن البنا، نصف مليون عضو.. وفي ظرف قصير، انتقل مؤسس الجماعة من الحديث باسم تنظيمه الحزبي والسياسي، إلى الحديث باسم الجماعة العربية والمسلمة، أي باسم - حينها- 70 مليون عربي، و300 مليون مسلم.. ولقد توسعت أحلام زعيم جماعة الإخوان عندما استشعر كل ذلك الاهتمام الذي راح يبديه بعض الرموز الكبيرة من السياسيين والعسكريين تجاه جماعته، ومنهم شخصيات لها صيتها مثل: عبد الرحمان عزام، وعلي ماهر واللوائين: صلاح حرب وعزيز علي المصري.. وفي 1948، شارك الإخوان إلى جانب من سيصبحون الضباط الأحرار في حرب فلسطين. وتوثقت العلاقة بينهم، إلى الدرجة التي يصفها محمد حسنين هيكل على أساس أنه "كان ثمة إعجاب عدد من الضباط الأحرار، وبينهم جمال عبد الناصر، بتنظيم الإخوان المسلمين، واقتربوا منه، وربما راودتهم الأفكار في لحظة من اللحظات أن يصبحوا جزءا منه، لكن عدلوا عن هذه الفكرة عن اقتناع بأن مجمل فكر الإخوان ونشاطهم وارتباطاتهم السياسية غير قادر على تلبية احتياجات مصر".. ولقد بدا لحسن البنا، أن ساعة أن يتحول الإخوان إلى قوة ذات صدى وحزم قد حانت.. وبدا ذلك من خلال النبرات الجديدة لخطاباته التي تشير أن الحل لقلق الأمة وانحطاطها بتسلم الإخوان مقاليد المصريين. "الأمة في قلق واضطراب وحيرة وارتباك، وقد يئست من صلاحية هذه المناهج والنظم (...) لذا، فإن واجبنا أن نقود هذه النفوس الحائرة ونرشد هذه المشاعر الثائرة". ويضيف في العدد الأول من مجلة "النذير"، حال لسان الجماعة، من خلال الافتتاحية الممضاة باسمة "من دعوة الكلام وحده إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال".. والقصد بالنضال والأعمال، هو الإعلان الظاهر لنزول الجماعة ساحة المعركة السياسية، بما يميز هذه الساحة من مناورات ونزاعات واصطدامات وتوجيهات الضربات للخصم من الخلف ومن تحت الطاولة، ومن كل الجهات.. "ستخاصمون هؤلاء جميعا في الحكم وخارجه خصومة شديدة لدودة إن لم يستجيبوا لكم". لأن "الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه.. ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد. وقد جعل النبي الحُكم عروة من عرى الإسلام، والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع. فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء". و"الإسلام" أيضا في نظر مؤسس جماعة إخوان مصر "عبادة وقيادة ودين وروحانية وعمل، وصلاة وجهاد، ومصحف وسيف، لا ينفك من هذين عن الآخر". إن هذا الفصل الجديد من حياة الجماعة كان بمثابة المنعطف الكبير لحسن البنا ومساره السياسي. لقد تخلص من كل تلك التحفظات التي كان يبديها وهو في بداية مشواره تجاه التعاطي مع السياسة، ومع مسائل الحكم.. فلم تعد دعوة البنا مجرد دعوة إلى تقويم أخلاق الناس، وإنقاذ الأمة من الزيغ ومقاومة التبشير وتصحيح العقيدة، بل تحولت الدعوة إلى عمل سياسي. وعندما نقول عملا سياسيا نعني في الأساس الصراع على السلطة والتنازع على الحكم، وتوظيف ما هو من صلب العمل الديني والعمل غير الديني.. إذ يقول في أحد تصريحاته "أستطيع أن أجهر بصراحة بأن المسلم لا يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيا بعيد النظر في شؤون أمته، مهتما بها غيورا عليها.. وإن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية، وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام". وتبلورت أفكار حسن البنا في بديل، أطلق عليه فيما بعد "البديل الإسلامي". ويمكن تلخيصها في العبارات التالية التي أطلقها حسن البنا على أنصاره وأتباعه وعبر مختلف المراحل والأجيال: 1- القرآن دستورنا، 2-الرسول زعيمنا، 3-الخلافة الإسلامية هدفنا، 4-قيادة الأمم وسيادة الشعوب دورنا. يتبع...