يحضر مصطلح "اليوتوبيا" عنوانا لجزيرة توماس مور (1516)، ليلقي بظلاله على فلسفات استشرافية، وأدبيات خيالية، فبين جمهورية أفلاطون (347 ق.م)، ودولة أرسطو (322 ق.م)، ومدينة الإله لأوغسطين(430)، والمدينة الفاضلة للفارابي (950)، وجزيرة حي بن يقظان لابن طفيل (1185)، ومدينة الشمس لكامبانيلا (1623)، وأتلنتيس الجديدة لفرانسيس بيكون (1627)، ويوتوبيا حديثة لويلز (1946)، تتوالى براديغمات مدن مغايرة، بعض هذه التصاميم تقوم على ريطوريقا القول الإنساني الذي يسعى لتحقيق الأحلام وبلوغ الآمال، وبعضها الآخر يستند إلى بوطيقا الفضاء، حين يتجرد من المكان المعتاد الذي لا أفق فيه ولا اتفاق، ففي اليوتوبيا تكون صناعة الجنان بجرة قلم، ويرتقى الإنسان من كائن عادي إلى حاكم أو أمير أو ملك أو فيلسوف أو حكيم حسب طبيعة الطلب، لا بمقتضى الحال، إنّها لعبة على الورق، و استراتيجيات في عالم من الافتراض. يتخذ التصميم حضورًا ابستيميا، فيمتد النموذج من المثال إلى الصيغة في أنساق التمثلات التي تحيلنا إلى إمكانية وجود ".. مفارقة تتمثل في كون النموذج التقني يقلب وضعية النموذج الأفلاطوني بما يمثل تحقّقًا عيانيا بدلاً من أن يكون فكرة قابلة للتحقق، ومع ذلك، يبيح تركيب الابستمولوجيا انزلاقات المعنى"، فالقراءة الابستمولوجية لليوتوبيا تجعلها ممكنة داخل مخابر العلماء ومعامل الباحثين، قصد تطويع المخطوط إلى عمران أو تحويل البنية إلى عمارة، فالعلمي لا يقف عند واقع الشيء، بل يتعداه إلى نهايات ممكنة، لأنّ تقدم العلم مرهون بالمغامرة وملامسة الفراغ. يخصص توماس مور الكائن اليوتوبي في جزيرته بست ساعات من العمل، قد ينقص ذلك من مدخوله المادي، لكن ما فائدة أن يعمل كل الساعات، ثمّ لا يجد وقتا لصرف ذلك المال الذي جمعه "..أما الأوقات التي تتخلل ساعات العمل، والنوم، و الطعام، فيقضيها الشخص كما يشاء لا يضيعها في اللهو والبطالة، ولكنه يشغل وقت الفراغ بنوع آخر من النشاط، كل تبعًا لميله الخاص، وتخصص هذه الأوقات عادة للنشاطات العقلية، فمن العادات المتبعة لديهم أن تلقى المحاضرات يوميا قبل بزوغ الشمس .. عدد كبير من جميع الفئات، ذكور وإناث، يحتشدون لسماع المحاضرات، يسمع بعضهم هذه، والبعض الآخر تلك، كل وما يتفق وطبيعته وميوله"، واقترح توماس مور أن يغط الرجال في النوم عندما تعمل النساء، وأن يقوم العمل على المتعة الصادقة والطبيعية لا على الكسب وتحصيل الرزق، وعلى العامل أن يتابع دراسته ليرتقى في عمله، أو يغير من مراتبه، وقد سبقه الفارابي إلى ذلك في مدينته حين يخبرنا أنّ «..المداومة على الأفعال الجيّدة من أفعال الكتابة تكسب الإنسان جودة صناعة الكتابة، وكلما داوم على تلك الأفعال أكثر صارت الصناعة التي بها تكون تلك الأفعال أقوى و أفضل، وتزيد قوتها وفضيلتها بتكرير أفعالها، ويكون الالتذاذ التابع لتلك الهيئة النفسانية أكثر، واغتباط الإنسان عليها نفسه أكثر، ومحبتّه لها أزيد. وتلك حال الأفعال التي يُنال بها السعادة"، فدعوة الفلاسفة والأدباء إلى القراءة والكتابة والتعلم في اللامكان، هي فسحة لترشيد الوعي، وبناء الإنسان، وتعمير الحضارة، قد تكون اليوتوبيا وهما يطارد الفلاسفة، لكنها في الوقت نفسه أجمل مكان يحلم به الإنسان، ويسعى لإيجاده عقلا وخُلقا، حتى وإن عجز عن تحقيقه عملا ومالا، ".. وليست الحضارة مادة التاريخ ثمرة جهود فرد أو شعب أو مجموعة أمم، بل هي صنع الإنسان في مختلف عصوره القديمة و الحديثة والمستقبلية، يتضافر ويتكافل لخلقها مع أخيه الإنسان المسير مرحلة مرحلة والانتقال من حسن إلى أحسن"، كما أنّ الحضارة صناعة فردية وسياق ماهوي قبل أن تكون تدافعا بين الجماعات وغلبة في أعراف الناس. تحلينا الجينيالوجيا إلى أنّ الفلاسفة في كتاباتهم، والعلماء في تجاربهم يمارسون أشكالا متفاوتة من اليوتوبيا، فحين يختلط النص بالخطاب تحضر اليوتوبيا بين دال ومعنى، وكذا حين تمتزج الميتافيزيقا باللوطيقا يستيقظ الفرض قانونا يصيغ الحق حقيقة، فاليوتوبيا حرية مشروعة لكل دوغمائية معلنة، واستراحة ممكنة لكل سلطة موغلة في الإنحناء، لا أحد ينجو من اللامكان، فهو الإمكان الذي يسحرك من حيث لا تدري، ويوقظ فيك الأمل والحلم ويزيل الكثير من الألم والجراحات التي تملأ الإنسان ذات قراءة وذات كتابة، وعند كل ملاحظة أو استنتاج. تحرك اليوتوبيا فينا تلك الإرادة التي تدعونا إلى الكشف والتنقيب، إلى الجري وراء السراب، والبحث في الأغوار عن الدهشة، وفي المجهول ".. لقد كان الحديث اليوتوبي الهائل -الذي لا يزال يتم في العالم- أن يبقى بلا ضوء يسلط عليه. وها هو ذا الرحالة الحالم يندفع بكل ما لديه من طاقة وما ادخر من زاد المعرفة ليجوب أرجاء الأرض المجهولة من أقصاها إلى أقصاها .. ليتحسس أبرز المعالم ويرسم لها لوحات غنية بالألوان والدلالات التي تدخل في إطار النسق المرن المفتوح، وتسري فيها الأفكار المحورية التي تلخصها كلمات مثل التوقع، والأمل، والقصد والإمكان الذي لم يتحقق بعد"، يستخدم الاقتصاد ألعاب الكلمات، يهز بصوره وأصواته إرادة المتلقي، يعبث بجيوبه، يسلب منه المال والمكان، ويدعو السياسي المواطن إلى دولة من الاحتمالات، يجرده من العمر، ويدخله غرف الانتظار العامرة بالخطابات والشعارات. يربط بول ريكور بين اليوتوبيا والأيديولوجيا في تأويلية لأفعال الإنسان، فبين يوتوبيا القول الرمزي، وبين يوتوبيا الفعل السلطوي تنساق أنظمة من الأفكار القمعية، العنيفة، والعقيمة ف "على الإيديولوجيا واليوتوبيا في نهاية التعامل مع طبيعة الفعل الإنساني على أساس أنّه متوسط ومبني مندمج عبر أنظمة رمزية"، يسهم الكائن اليوتوبي في المشهد الأنطولوجي من خلال مقاطع الفيديو التي يحملها من مواقع اليوتيب، ليقضي رفقتها نهاره وليله يحاكي الرغبة، ويتملص من الأزمة، يبحث عن مدينة بلا جدران، بلا حراس، ولا بطاقات ولا تأشيرات، موعد مع الميتامورفوز، حيث يتجذر فيها القمح فاكهة، والعنب خبزا، والجسد فكرة، والرغبة عطشا ترويه القصص الجميلة، بلا معيقات ولا معوقات. تنقلنا رواية أحمد خالد توفيق إلى فضاء خال من الملل "في (يوتوبيا) .. حيت يتوارى الموت خلف الأسلاك الشائكة، فلا يصير إلا لعبة يحلم بها المراهقون.. (يوتوبيا) .. ستة عشر عاما من عمرك وأنت لا تنتمي إلا إلى يوتوبيا .. أنت مواطن (يوتوباوي) ذوبتك الحياة المترفة وذوبك الملل .. فصرت لا تعرف نفسك من الآخرين .. لولا بقايا الشهوة في عروقك لما عرفت الذكر من الأنثى"، تصبح القراءة ملاذا عن كل رداءة ومرارة وغبن، وظلم، "إنّ القراءة بالنسبة لي نوع رخيص من المخدرات. لا أفعل شيئًا سوى الغياب عن الوعي. في الماضي"، فحين يغيب المكان يولد براديغم المعنى المفعم بالمخيال، عندها يحق للفكر أن يسبح في المستحيل، هذا الإمكان الجميل، [أكون أو لا أكون] مقولة ملغاة، هناك اقتراح لميثولوجيا أخرى، لأنطولوجيا عبقة تنثر العطر عبر أزقة موغلة في السديم، يستحم الوقت بكؤوس الصمت، يستيقظ أفلاطون من عنق الجمهورية، يلهم الفارابي بمدينة تسافر بأهلها على أوتار النص إلى شواطئ الانعتاق. تعد اليوتوبيا علاجا لكل بطالة، وشفاء من كل عاهة، وخلطة سحرية لتحقيق السعادة الأبدية على ترانيم القديس أوغسطين في كتابه مدينة الله ".. يا لها من سعادة تتحقّق عندما يبطل كل شرّ ويخرج كلّ خير إلى النور، ولن يستسلم الإنسان إلاّ إلى مديح الله الذي يكون كلاًّ في الكل! وهل يعمل الإنسان شيئًا آخر، إذ يكون في مأمن من سقم البطالة وهموم الفاقة؟"، ترتبط اليوتوبيا بتصميم نموذجي سابق، يحتاج إلى أمة توقظ في الطحين عرق الوميض، وقد تكون مشروعا وهميا يكتحل بخيوط الكسل وأقراط الاتكال، أو أنّها محاولة للبحث عن عالم أفضل، تسكنه الفضيلة خارج أبواق الاحتيال .. مدينة اعتادت الاحتفال بلا مناسبات ولا خطابات، جنة تطّل من رحم النص. يوازن بول ريكور بين منظومتين تحضران معا لتصميم الواقع المعيش، بين أخلاق تؤصل لها عقائد محكمة، وبين براغمالتيات تؤسس لها اعتقادات ممكنة، فيعتبر"..الأيديولوجيات في نهاية المطاف منظومة أفكار تصير عتيقة حين تعجز عن التعامل مع الواقع الراهن، بينما اليوتوبيات لا تكون صحيحة إلا بمقدار مساهمتها في إضفاء بُعد باطني على التغيرات. الاحتكام إلى الملاءمة هو الطريقة لحل مشكلة اللاتطابق هذه". وإلى هذا يدعو د.عبد الله موسى قصد إيجاد هذا البراديغم الإيتيقي، باعتباره المكون الأساسي لكل حضارة متجددة، ".. ولكن الهدف كان دائمًا هو الارتقاء بالإنسان من المستوى الحيواني إلى أعلى درجات الرقي الفكري والروحي بمقدار ما تسمح قدراته وملكاته. والإحساس الصادق بالواقع هو تلك النظرة النافذة التي تقول إنّه بالمثل الأخلاقية المتعلقة وحدها يمكن الوصول إلى علاقة سوية بالواقع"، فليست اليوتوبيا نزوة فلسفية، بقدر ما هي تصميم لعوالم ممكنة، أو أنّها استراتيجية إنسانية في انتظار ميلاد الذات التي تعي وتفكر قبل أن تكون. جامعة سعيدة