ما رأيت اثنين يترافقان في السفر ووعثائه إلا وخمنت وراء ذلك الشيء العزيز على القلب ومهواه، السفر مع، الترافق والاصطحاب وتجسير المحبة وجبر الخاطر وترويض الأنانيات ذاك الدين الخالص والمذهب السويّ والتمثل الرائق للصداقة والتّحاب واللقاء، لقاء الأصدقاء المفيد في مجتمعهم الصغير، الثقافي، الفلسفي، الإنساني، هو لقاء الجسور والمعابر، خيوط القلب وخطوط الوجدانات، فضل الصديق مضايفته، حمله على الأنس وتأنيسه، اقتناص شفافيته والترهب في حضرته، إذ العلاقة تكون حضارية، روحية أو لا تكون، ثقافية مدنية معصرنة أو لا تكون... الصداقات بين الأدباء العرب، والكتاب فيما بينهم هي صداقات أعدقائية، عوراء، فيها جرح الأقران، وطعن الحبيب وخدش النديم من بعد مديح وكأس وشغل رأس،، وما يهمنا ليس فقط هذا الهباء والتناثر واللاّثقة في عالم الرأسمال الرمزي. ينفرد نص محمد بنيس كل هذا الإنفراد عن الجو، عن الوباء والغيبة والقذع والعقل الكلبي، لا يزج نص الأصدقاء نفسه في المعاركة والتلاسن أو النقد الشهي الذي ينتهي بأكل لحم الأخ لأخيه الشاعر، الكاتب، الفيلسوف، الإعلامي، الناشط أكله نيئا في مجالس الأدباء والشلة من الكتبة المفرغين من الروح المتخصصين في بيع الكلام وقطف وردة الوقت وتسويق العجل الذهبي لأي مارّ، عابث، يماري ويلعب... إن نص محمد بنيس يخلو، يجانب، يهرب من إلى فن الصداقة، فن القراءة، فن الإلتصاق، فن التناصص، إنه يعطي مفهومية جسورة، حميمية، وحيوية لاثنين يتلاقيان في الكلام والشعر والنثر والتفكير، لجوهرية المصاحبة وفن العيش مع الآخر، الآخر كصديق، كغيرية، كحضارة، كحوار، كقرين، كانتماء ومجايلة وعمق إنساني. / مع الأصدقاء/ هو هذا النص البنّيسي المزين بالكلام الهانئ، بالوجد، التوحد، واللمسة الحانية، هو هذه الكتابة النزقية في تمجيد الضوء والرغبة والداخل، في تمجيد الزرقة والبياض وسواد ليل المعنى في معناه، إنه ككتابة يكتبها نيتشه لأصحابه ويكتبها استيفان اتسفايج لأصحابه ويكتبها ريلكه إلى شاعر ناشئ، كتابة كونية منخطفة، سارقة، تسطو من الأعماق إلى اللاّمتناهيات.. مقدمة/ مع أصدقاء/ مثيرة، عواطفية، تكشف بنّيسا كتب اللغة ونحت الشعر وتداخل مع السؤال الفلسفي عبر هذا الإمتشاق لسيف الصداقة المسلول، فيه يترك الأعداء إلى حال عداوتهم وبه تصدق نفس مع نفسها، تتعلم مجادلة ذاتها بطيب البلاغة وحسنى المنثور.. من نفسي إلى نفسي، نص في مبتدأ الصداقات هرع الشاعر الآتي من ظهر المهراز، من المغارة الفاسية المطيبة يكتب عن هذا الجمع الغفير من عواطف الدواخل، لما لا ينهك ولا يبتلى ولا تذروه عاصفة الجنوب، إنها الجملة البنّسية الإستثنائية، الممتدة إلى الجذر المغاربي الثري، المتعدد، عثرت على نفسي وجها لوجه مع شغف بالأصدقاء لازمني، ثم وأنا على طريق القصيدة، مسافرا نحو غيرها. - يترابط ذلك التكوين عند محمد بنيس مع المكان والسفر، التربية والآخر، الإنصات والمصاحبة، يلحق ذلك بهؤلاء الذين كان لهم الإبيضاض والرجاء والتوسم، كثيرون كانوا في حياته، هذا المغربي الفاسي، ابن ظهر المهراز، الزليج والرخام وحياء الفاسيات المفطورات على الخفر والحشمة الخبيثة. على قيد حياة تامة، أو على قيد موت فجائي يخلع الفؤاء والنعل وقميص القرآن، أو على قيد كلمة مسافرة، كتب لهم هذا البنيس، الوسيم في شيبة رأسه وأشيب حكمته، ليس ثمة فراغ، كفن أو جناز أو ترنيمة موت، أو جثة قادمة، وحيث إنه بنصه التذكاري هذا الخارج من تخوم النوستالجيات وثورة الحنين إلى شيء لم نره بعد، لم نكتشفه بعد، لم نتحسّس ملمسه بعد، يكتب هكذا بنيس مواصلا التجربة والمغامرة والكشف والتعلم، جودة التعلم. -نصوص لأجل أصدقاء، كلمات عنهم ونداء مفتوح عليهم، من العزلة والصمت، تثرى بذلك المسافة وتتباعد اللحظية الزائلة، وتنسى وتزدهر حبال الطمأنينة، كي تغدو الصداقة على ما يقوله الشاعر فعلا خلاقا، فيه الوثب نحو العالي، القفز في مجاهيل النفس المصاحبة والمتصاحبة، ابتكار متجدد للنص، للموضوع، للعبارة. وهي في /مع أصدقاء/ انتقائية لا تسترخص أبدا الجمل والرؤى والتنبؤات، فالأصدقاء لهم الإلهام المفترض، تهييج الذاكرة، تخليق المكان والتحليق به وفيه، /استمرار العلاقة/ قيمة نادرة في هذا التحليل البنّيسي الخارق، فيجب أن تظل العلاقة في صحو واتّقاد واشتعال، ولتكن بالغة تلك اللفتة في ذكائها إذ يقارن الفاسي بين صداقة الشرق وصداقة الغرب... لقد تأذّيت كثيرا مع أصدقاء يصيرون أعداء على النحو الممجوج العدواني، وهؤلاء يقدمون الخيبة عنوانا للصلاحية والبقاء في الرفقة، ليسوا هم من أفضل الأعمال، فأفضل الأعمال أدومها وإن قلت مثلما جاء في الأثر، آثار أبي حيان التوحيدي وأبي الطيب المتنبي، أو لسان الدين الخطيب، عن هذه الصداقات الوجيعة التي تحفز مجاريها في ثقافة تبطأ في الفرح، تلين للعداوة وتسرف في الطّلكية والبكاء، إلى كل هؤلاء الذين كتبهم بنيس في حيواتهم المغتلمة بالإنساني والثقافي والإحترافي والآخرين في فجعة فقدانهم أحيا معهم حكمة المجنون ولطائف الأرسطية، إنه مجد الزرادشتي نيتشه، الصداقة فرح وغبطة ومسرة، ليست مصلحة شخصية ذرائعية ميتة، رشوة، غزل سمج ذاك ما يفرق صداقة الشرق عن صداقة الغرب. يمنح النص البنيسي لأصدقائه المذكورين أدناه حمولات شعرية وشاعرية، ستكون لزاما هي مثارة غيرة ونكد للآخرين لم يذكروا إلا على سبيل السهو أو الخطأ أو التجاهل أو الكره الميت أو اللاّصداقة واللاّمحبة، هولاء، هؤلاء المختارون، سهيل ادريس، أدونيس، لوكينات باتاشاريا، عقيل علي، سركون بولص، محمود درويش، جاك دريدا، اميل حبيبي، عبد الكبير الخطيبي، محمد الخمار الكنوني، عبد الله راجع، محمد زفزاف، ادوارد سعيد، محمد شكري، جمال الدين بن شيخ، رشيد الصباغي، سيليفيان صمبور، أمجد الطرابلسي، أحمد المجاطي، حسين مروة، هنري ميشونيك، برنار نويل، يستنهض الأفق الأصدقائي هذا الشاعر، مع هؤلاء يحلو النص، بترقّق، يترفق، يتأنق ويختار حوار الكتابة والكتابة المتبادلة المعيوشة، المنقولة عن الحياة وتفاصيلها والحقيقة الجديدة فيهم، كأصدقاء تشرب معهم عصائر العنب ويحتسى من أفواههم النبيذ، ذاك هو نبيذ بنيس الذي رافق هؤلاء في سفرهم الدنيوي والبرزخي متعلما منهم سجع الكهان، لغو الحياة، أسطورة الغيب. هنا تتبرج الكتابة المغربية بنسقها التقليدي غير القديم فلا يمت بصلة إلى القدامة من خلال المواصلة في النحت والطرق والدقدقة وإحداثات الصوت للأمكنة ونسيجها، للنص وطياته، للناس وطويتهم، ما يكنونه وما يظهرون. أنظر هذه الكتابة عن الكتابة، في صديق محمد بنيس رشيد الصباغي، المغربي الغريب الذي، لا يؤلف، لا ينصص، يعاشر أهل الكتاب والفلسفة، ملاّل من المسودّات وانعام البصر في الحبر، رشيد الصباغي صديقه الباريسي، المليء المفعم بالمعرفة، العطش العنيد للسؤال، وهو يحدث بنيسا في مقهى تروكاديرو، عن الدار البيضاء، الحبوس، درب غلّف، عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي، لاكان، الهذيان والنساء والحلم بثقافة مغايرة للكائن العربي، حديقة لوكسمبورغ، وعشق الجاز والبلوز. عن كثيرين أمثال رشيد، أصدقاء المثقفين لا تغادر صورهم الجرائد والراديوهات التيليفزيونية يجب أن نكتب، إنهم بيننا في الوسط، غير منتمين إليه، ثقافتهم أمتن، متابعاتهم أدق وأسرارهم اللاّمكتوبة محرضة على البحث والتنقيب والتضياف، هو كنز الصداقة المفقود أن يصادق الفنان فنانا ليس له اللوحة والفرشاة وسلطان الماء....