هي الصداقة .. تلك الدرة النادرة الصداقة.. كلمة أصبحنا نصنفها بسهولة ضمن المصطلحات الوهمية.. أي التي لا تتعدى حدود النطق بحروفها.. أصبحنا ننزع لوصفها بالكلمة غير القابلة للتنفيذ... الكلمة الحلم.. الكلمة الوهم.. لا يمكنها إلا تكون كذلك في وقت انحطت فيه القيم وفقدت فيه أخلاقيات التعامل والتعايش بين البشر.. الصداقة.. أصبحت تتضمن ذاك المعنى المفقود.. وتلك الرغبة المشتهاة التي نمضي العمر في تمنيها.. وكم نعجب عندما نصادف من ساقه الحظ وحط به في أراضي هذه الكلمة العزيزة.. .. كلنا يحلم بوجود ذاك الصديق الذي نحبه أن يكون كما نريد أن يكون.. كلنا يشتهي ويحلم بالقبض على ذاك المعنى الغائب في علاقة بين اثنين وأكثر.. إلا أن المستحيل غالبا ما يفصل في المسألة.. الزمن والتحديات والمتغيرات البشرية والحياتية وفساد الفطرة الإنسانية أمعنت في تثبيت مفهوم الصداقة ضمن خانة اللامتحقق . ورغم كل المعيقات المالية والمعنوية التي أفرغت هذه الكلمة وهذه العلاقة من محتواها تظل متشبثة بالذاكرة الجماعية وراسخة في المتخيل والمحكي والتراثي في مجتمعاتنا العربية.. كثير من المفكرين وفطاحل الشعراء تركوا أقوالا مأثورة حاولوا من خلالها التأسيس لمفهوم الصداقة.. ومن منا لا يتذكر ما قاله بشار بن برد مدافعا عن الصداقة والصديق: إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحدا أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه ما قيل من أشعار وحكم وأمثال عن أهمية الصداقة وقيمة الصديق كثير.. لكن الطبيعة الإنسانية منذ القدم تأبى الانصياع لما يستلزمه مفهوم الصداقة من سمو معاملة ونقاء سريرة وعفة نفس وتعالي عن الطمع والجشع والأنانية، معظم العلاقات الإنسانية اليوم وحتى فيما مضى مبنية على المنفعة والمصالح الضيقة والنفاق وأساليب الخداع.. صديق اليوم بات يبدع في التشبه بالصديق وملء مكانه مكرا وقلة مروءة، والصداقة على حاجة الناس إليها ورغبتهم في العثور عليها مهما علت أو تدنت مراتبهم ومناصبهم في الحياة ظلت متأبية مستحيلة التوفر... غالبية التواقين الراغبين في كسب صديق أو خل نجد قلة فيهم من لم يلدغ بخديعة صديق ولم ينج من غدره واذائه. يقول جميل بن مرة في هذا الشأن: صحبت الناس أربعين سنة فما رأيتهم غفروا لي ذنبا ولا ستروا لي عيبا، ولا حفظوا لي غيبا ولا أقالوا لي عثرة، ولا رحموا لي عبرة، ولا قبلوا مني معذرة، ولا فكوني من أسرة، ولا جبروني من كسره، ولا بذلوا لي نصرة، ورأيت الشغل بهم تضييعا للحياة، وتباعدا من الله تعالى، وتجرعا للغيظ مع الساعات وتسليطا للهوى في الهنات بعد الهنات. كل ما قاله بن مرة عن الصديق وما وصفه به ينطبق تماما على ما نعيشه اليوم ..ما عادت للصداقة وما عاد لمفهوم الصديق تلك المصداقية وذاك النبل الذي ننشده.. الصداقة أصبحت مسخرة ومسخّرة لقضاء حاجة في النفس لنيل منفعة مبيتة، لتحقيق مأرب مادي ربحي.. وقتها يرتبط بمدى الاستفادة من الآخر الذي يحال في غالبية الأحيان إلى ملحق بما تبتغيه النفس وما تأمر به. الصديق في ذهن الأكثرية أصبح صديق الصفقات والخدمة المادية، صديق الفرص والغنائم.. أكثر العلاقات الإنسانية قرفا وتشوها هي علاقة الصداقة.. الصداقة هذا المعنى الهارب، هذه الرغبة المفقودة هذا الحلم المستحيل.. غريزة الأنا الطاغية قضت على هكذا علاقة، فالصديق هو ذاك الذي لا نجده لا نقابله، لا نعثر عليه.. قد نحب إنسانا ونصادقه فكريا ،نقرأ له مثلا أو نسمع عنه مثلما حدث للمفكر محمد أركون التي تكلم في أحد مؤلفاته عن عشقه وصداقته الفكرية والإنسانية لأبي حيان التوحيدي: ''هو أخي الروحي، أخي في الفكر، إني أحبه أحب هذا الإنسان، أحبه كشخص لأني أجد فيه صفتين من صفاتي الشخصية الفكري''. الحمد لله أن مثل هذا النوع من الصداقة متوفر ومتاح لنا.. كثر هم من نبني وإياهم صرح صداقة عن بعد.. نتعلق بهم عن طريق كتاباتهم وما تحمله من أفكار ورؤى تستجيب لحاجات في ذهننا وقلوبنا وعقولنا.. قد نحب أشخاصا ونتخذهم توائم روحنا فقط لأننا اطلعنا عن إنتاجاتهم الفكرية وعرفنا مواقفهم الإنسانية. وتأكدنا من أخلاقياتهم ومبادئهم الحياتية... هي صداقة مجهولة ومعلومة الطرف في نفس الآن.. من يتعلق بصاحب فكر ما وفلسفة ما لا بد أن يكون الطرف الآخر على علم به بشكل ما.. من يكتب يفترض دائما من يتجاوب معه من يسير معه على نفس الدرب من يؤيده بكامل جوارحه.. من يقول له بلا أن يسمعه: أنا معك ، أنا مثلك . ولكن كل ذلك.. وكل مستحيلات الصداقة.. لا تمنع منض وجودها في بعض الأحايين وبين قلة من البشر.. ومن الأمثال الحية صادفنا علاقة صداقة نادرة ومثالية ربطت بين طالب جزائري سافر في بداية الستينات للدراسة في الكويت والدكتور رشيد الحمد، السفير الكويتي الحالي في القاهرة.. هذه الصداقة بلغت اليوم 50 عاما لم يتقابلا فيها أبدا بعد الدراسة الثانوية إلا بالمراسلات والصور والمكالمات الهاتفية ومع ذلك لم تفقد وهجها وظلت مشعة صافية إلى اليوم.. الصداقة الحقة لا تموت مبارك مصري طالما شكا الناس من الجحود ومن الجفاء والصدود، وكثيرا ما امتن وابتهج الناس من الوفاء ومن الود، وقد هتف الكثير وأعجبوا من شدة الإخلاص، لأن الناس معادن، وهم مختلفون ومتباينون في رؤيتهم وتصورهم وتقديرهم للأمور الإنسانية. إن الصداقة الحقة باقية وخالدة لا تموت، وإليكم الدليل: تبدأ الحكاية في شهر أكتوبر سنة 1961 حين قدمت إلى الكويت ضمن بعثة دراسية، حيث جئت إليها من تونس لأدرس في إحدى ثانوياتها في إطار منحة دراسية تكرمت بها دولة الكويت للثورة الجزائرية، (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية)، وكانت الكويت آنذاك حديثة العهد بالاستقلال، وهي تتقدم بخطى عملاقة لتتسنم قمة الرقي، وتتصدر ركب الحضارة والتقدم، وكانت الثورة الجزائرية قد بلغت أوجها وشبت عن الطوق، فانطلقت كالمارد غير مبالية ببطش وتنكيل الاستعمار، واشتد أوارها وعلا وانتشر في كل بقاع الدنيا، فأصبحت حديث القاصي والداني وإعجاب الشرفاء وتقديرهم لصمودها وتضحياتها، وبات النصر قاب قوسين أو أدنى، ولاحت تباشيره ولم يعد هناك شك في الاستقلال. وقد وجدت حين قدومي إلى الكويت الترحاب الكثير، أنا وزملائي، فكنا محل تقدير وإكبار، بل وإعجاب من الجميع، حيث مهدت الثورة لنا كل ذلك، قبل قدومنا، ووجدتني في بيئة مشرقية جديدة على أعرافها لأول مرة، غريبة عني في كل شيء، عاداتها وتقاليدها، وحتى في لهجتها، فهي مختلفة عما أعرفه في تونس في كل شيء، تقريبا، في تلك الأيام. وقد التحقت بثانوية الشويخ وانتظمت في الدراسة، وكانت هذه الثانوية عبارة عن مدينة متكاملة فيها كل ما تتطلبه الحياة الطلابية: من أقسام داخلية لسكن الطلاب وكذلك لهيئة التدريس، العزاب منهم والمتزوجون الذين يصطحبون عائلاتهم، وفيها كذلك كل ما تتطلبه النشاطات الرياضية لمن يرغب ويريد أن يمارس هذه الهوايات، وفعلا كانت متكاملة وشاملة، وكان فيها طلاب من جنسيات عربية غير الطلبة الكويتيين، أهل البلد المضيافين. وانهمكت في متابعة الدروس وتحصيل العلم الذي كان المبتغى الأساسي لي ولزملائي، وما هي إلا أيام قلائل حتى استطعت الاندماج في هذا الجو، وكونت بعض الأصدقاء كنت أتردد عليهم وأزورهم من حين لآخر، حين تسمح الظروف وتتاح الفرصة. وكان رشيد الحمد من بين الطلاب الكويتيين الذين ربطتني بهم صداقة، كانت منذ البدء تبدو أنها مميزة بفضل لطفه وحسن معاملته، واحترامه الشديد، فهو متميز بمرحه في غير ابتذال، ومزاحه في غير تهكم، وكان تقيا ورعا كريم النفس واليد، وطيلة السنوات الدراسية الثلاث التي قضيتها في الداخلي بثانوية الشويخ كان يحضر أيام الجمعة بسيارته إلى الداخلي، ويصحبني في نزهة خارج الثانوية، أحيانا لمشاهدة المعالم الأثرية الكويتية، مثل القصر الأحمر، وأحيانا نتجول في المدينة، لأنه يعلم بأن فرصة التنزه في المدينة أوخارجها غير متاحة، نظرا للانضباط الشديد والنظام المحكم في الدخلي، فهنا كل شيء بحساب، وفي وقته المحدد، والمخطط له. كذلك لانعدام الإمكانيات، بالنسبة لنا نحن المبعوثين، وهذا بالانضباط والنظام لم يكن يزعجنا أو يقلقنا، بل بالعكس كان مفيدا جدا لنا وكنا راضين به. ومرت السنوات الثلاث واجتزت امتحان الثانوية العامة بنجاح، وحصلت على البكالوريا وكان هذا في يونيو ,1964 وغادرت الكويت عائدا إلى بلدي الجزائر، وكانت حديثة العهد بالاستقلال تحاول جاهدة وبكل إمكانياتها التكيف مع العهد الجديد، لتلحق بركب التقدم مثل باقي الدول، وظننت أن الصداقة بيني وبين رشيد سوف تنتهي بعد مغادرتي الكويت وعودتي إلى الجزائر، وكانت عودتي إلى المشرق من جديد في إطار منحة دراسية إلى جامعة دمشق -كلية الزراعة- قد قربتني من صديقي الذي انتقل إلى جامعة الاسكندرية -كلية العلوم- فهنا وجدت نفسي في نفس الجو الشرقي وأنني لم أغادره. وبدأ الاتصال بيننا عن طريق الرسائل. ومن هذا الوقت أصبحت المراسلات هي وسيلة الاتصال والتواصل. وشيئا فشيئا تعمقت العلاقة وتوطدت الصداقة وصارت الرسائل بيننا كثيفة وسريعة ومتواصلة. وشيئا فشيئا تعمقت العلاقة وتوطدت الصداقة وصارت الرسائل بيننا كثيفة وسريعة ومتواصلة، وكان يطلبها ويلح عليها، نظرا لأن هذه الرسائل ليست بالرسائل العادية، كلمات في أسطر معدودة، بل كانت شبيهة بالتحقيقات الصحافية أو البرامج الاذاعية فيها أخبار ودردشة في شتى المواضيع والمجالات، فيها نكت وملح وأغان وأشعار، وكانت حواشيها موشاة برسوم الزهور والورود، ولهذا كان رشيد ينتظرها كثيرا ويلح في طلبها، ويصر على استعجالها، واقلع مركب الصداقة يمخر عباب محيط الحياة زاده الود والإخلاص، غير آبه بحوادث الزمان مهما ادلهمت وتكاتفت. وأكمل كل منا الدراسة فتخرج هو من جامعة الإسكندرية، وتخرجت أنا من جامعة دمشق وعاد كل منا إلى وطنه، ودخلنا الحياة العملية وانشغلنا بالعمل، فاشتغل هو بتدريس العلوم في إحدى المدارس الثانوية لفترة وجيزة، ثم انتقل ليعمل موظفا في وزارة التربية، وعملت أنا في وزارة الزراعة لفترة، ثم انتقلت للعمل بشركة وطنية تنشط في الصناعات الغذائية، واندمج كل منا في حياته العملية، وكرت السنون ومرت الأيام صافية أحيانا ومدلهمة تارة أخرى، بل ومكفهرة، وبقيت الرسائل الرسول الوحيد بيننا، تطمئننا أحيانا وتزعجنا أحيانا أخرى، حيث تبطئ وتتأخر في الوصول لأسباب عديدة، وجاء الغزو المشؤوم للكويت صيف 1990 وحدث ما حدث وتناقلت الأخبار للفظائع التي ارتكبت، فحزنت كثيرا واستبد بي القلق على صديقي من خوفي أن يكون قد أصابه مكروه، ومضت فترة لم أستطع الحصول على أخبار منه تطمئنني عنه ولا توجد وسيلة للاتصال، لأن الأمور كانت مغلقة وكل شيء هناك كان مجهولا. وبقيت انتظر وأتمنى الخير، وأخيرا جاءت رسالة مطمئنة منه تؤكد أنه معافى، وأرفقها بكتاب يتضمن بالصور المشاهد الفظيعة والتخريب الذي حدث في وطنه، جراء هذا الغزو المشؤوم، وسارت الحياة هادئة تارة ومضطربة أخرى، ولم ينقطع الاتصال بيننا بل ظل موصولا، وقد تقلب صديقي في عدة مناصب رفيعة، وعدة مراكز سامية، ومع ذلك لم ينقطع الاتصال بيننا، واستمر في المراسلة، وتستمر الصداقة ويتواصل الاتصال. وقد باتت الآن متجذرة وعصية على الانفصال، صامدة وثابتة في وجه كل الظروف، وها نحن قد طوح بنا البعدان، الزماني والمكاني ولم نلتق قط إلى الآن، وصداقتنا مستمرة، وقد شارفت على الخمسين من العمر ولم تشك قط طول غياب أو استمرار البعدين، وسوف تبقى بإذن الله ما دامت الحياة، وهذا بفضل أصالة وإخلاص وحسين تصرف هذا الصديق النادر، هذه الأيام التي أصبحت الصداقة فيها بل العلاقات الإنسانية عملة نادرة، بورك في الصداقة والأصدقاء وأكثر الله منهم، وفي الختام ألف تحية وألف تقدير إلى رشيد. وبعد: ألم أقل لكم إن الصداقة الحقة خالدة وباقية لا تموت مبارك مصري - الجزائر -