يأخذ على البنا خصومه هو سقوطه في فخ إعادة إنتاج النمط الشمولي والاستبدادي، وذلك من خلال خطابه الفكري والسياسي المتمثل في عدد من الكتابات والتصريحات، ومنها رسالته "دعوتنا" حيث يقول: "لقد انعقد الإجماع على أن الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى، وهي أساس الفساد الاجتماعي الذي نصطلي بناره الآن.. وبما أن الأحزاب هي التي تقدم الشيوخ والنواب، وهي التي تسيّر دفة الحكم في الحياة النيابية، فإن من البديهي ألا يستقيم الحكم، وهذه حال من يسيرون فيه... وإذا كان الأمر كذلك فلا ندري ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريم، هذه الشيع والطوائف من الناس التي تسمي نفسها بالأحزاب السياسية أن الأمر جد خطير.. ولا مناص بعد الآن من أن تُحل هذه الأحزاب".. ويضيف مشددا على معاداة الحزبية قائلا "إن اليوم الذي يُستخدم فيه الإخوان المسلمون لغير فكرتهم الإسلامية البحتة لم يجئ بعد ولن يجيء أبدا.. وأن الإخوان لا يحفرون لحزب من الأحزاب أيا كان الخصوم، ولكنهم يعتقدون من قرارة نفوسهم أن مصر لا يصلحها ولا ينقذها إلا حل هذه الأحزاب كلها، وتتألف هيئة وطنية عاملة تقود هذه الأمة إلى الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم".. إن مثل هذا الجنوح نحو فكرة الشمولية ومعاداة التعددية الحزبية، والاعتماد على يوتوبيا ذات طابع ديني مطلق وغامض تقوم في ظله دولة القرآن، أثار انتقادات شتى ضد الجماعة وتوجهها، وخلق لها خصوما من الساسة والمفكرين.. وأصبح ينظر إلى أصحابها بنظرة مشوبة بالحذر والظنون، خاصة بعد أن أصبح للجماعة وزنها داخل المجتمع، وعلى مستوى عريض من الفئات الوسطى والطبقات الدنيا.. لقد أصبحت الجماعة مستهدفة من قبل خصومها السياسيين، سواء كانوا في المعارضة، أو في السلطة.. وهذا ما جعل المرشد العام للجماعة يفكر في وسائل وطرق أخرى قد يكون بعضها متسترا بطابع السرية والتخفي، وذلك من أجل حماية الجماعة من بطش أعدائها وتربصات خصومها.. وهذا ما قاد الزعيم الإخواني الساطع نجمه إلى التفكير في استحداث الذراع المسلح لجماعة الإخوان.. وهو ما عرف ب«النظام الخاص" والذي سيتحول إلى خطوة الإخوان الأولى باتجاه الجحيم العظيم الذي سيصطلون بلهيبه، وستتولد في لظاه محنهم وعذاباتهم.. يشير الدكتور رفعت السعيد، في دراسته المعنونة "الإخوان المسلمون في لعبة السياسة"، أن النظام الخاص الذي كان عبارة عن جهاز مطلق السرية تشكل من ثلاثة فروع أساسية، وهي التشكيل المدني والتشكيل العسكري، والتشكيل البوليسي. وتتفرع عن هذا الجهاز السري كذلك بعض الأجهزة، مثل جهاز التسليح وجهاز الاستعلامات. ويكون البنا قد عين على رأس هذا الحهاز عبد الرحمن السندي، حسب المعلومات الأمنية الرسمية. وقد تكون هذه المعلومات تعاني من الصحة الكاملة والموثوقة، وقد اعتمد عليها صاحب دراسة "الإخوان في لعبة السياسة" إلى جانب محللين غالبا ما يحملون مشاعر وأحكاما غير ودية تجاه جماعة الإخوان. فلقد كان النظام الخاص ينقسم إلى جماعات، الجماعة مكونة من خمسة أشخاص، والشعبة المهمة بها عدة جماعات، وكل جماعة يرأسها واحد وتتدرج على نظام هرمي يرأسه عبد الرحمن السندي.. ومعظم هذا النظام في القاهرة، وقد توجد مراكز أو مناطق إدارية تخلو من هذا النظام، مثل أسوان، لأنها بعيدة ولا يتيسر لها فهم أغراضه. وحسب نفس المصادر والمعلومات الأمنية الرسمية، فإن النظام الخاص كان يسعى إلى تدريب أعضائه الذين سبق أن تشبعوا بعقيدة الإخوان وفق منهج تدريب عسكري شديد القساوة والعنف، يقوم على مبدأ الطاعة الكاملة والبذل التام للنفس، وكان كل ذلك يتوج بالقسم الذي يسمى البيعة، الذي يؤديه العضو "أقسم بالله العظيم أن أكون حارسا أمينا لمبادىء الإخوان، مجاهدا في سبيل الله على السمع والطاعة في المعروف، وأنا أجاهد نفسي ما استطعت". ولقد أثير حول المراحل الأولى في أداء القسم بعض الروايات ذات الطابع المثير، مثل أن القسم كان يؤدي في قلب حجرة مظلمة مفروشة بالحصير، ويتم القسم على مصحف ومسدس، وغالبا ما كان يتم بين أيدي البنا نفسه. وحسب لبيب البوهي، في كتابه (شهداء الإسلام) الصادر عام 1952 بالقاهرة، فقد كان النظام الخاص يتكون من حوالي 1000 عضو لهم الاستعداد التام للتضحية بالنفس في سبيل الدعوة الإسلامية وما يأمرهم به المرشد العام للجماعة، وأصبح هذا النظام الخاص بمثابة الملهم لأعضاء الجماعة بالزهو بالنفس وبالشعور التام في الحصول على القوة التي ستجعل منهم الرقم الأساسي في لعبة السياسة، ليست المصرية فحسب بل والعربية والإسلامية. وما زادهم إحساسا بذلك هو ذلك التشجيع الذي لقوه من الحكام العرب في المنطقة العربية وهم يخوضون معركتهم المقدسة ضد اليهود في فلسطين.. ولقد انتهت تلك المعركة بأول هزيمة تاريخية نكراء للفلسطينيين وجيوش العروش العربية، وسرعان ما كانت آثار هذه الحرب بالغة السوء على الجماعة نفسها بعد انتشار تلك الأنباء في 17 فبراير 1948 حول عملية الانقلاب في صنعاء ضد حكم الإمامة، بحيث يقتل الإمام الحاكم وثلاثة من أبنائه. وكانت مثل هذه العملية العنيفة والرامية إلى الانقضاض على نظام الحكم، تشير إلى تورط الإخوان فيها بشكل خفي، وهذا ما أثار الشكوك حول أهداف التنظيم في مصر، حيث أعلنت مصالح الأمن أنها اكتشفت، في جانفي عام 1948، مجموعة من الشبان عن طريق الصدفة يتدربون سرا على السلاح في منطقة جبل المقطم، وضبطت بحوزة هؤلاء الشباب 165 قنبلة وكميات من الأسلحة. وبتاريخ 22 مارس 1948 لما قام عضوان من جماعة الإخوان بإطلاق الرصاص على المستشار أحمد بك الخازندار "بسبب إصداره حكما قاسيا على عضو بالجماعة سبق أن اتهم بالهجوم على مجموعة من الجنود الانجليز في أحد الملاهي الليلية"، ادعت مصالح الأمن اكتشافها الصلة التي تربط بين الشابين ومجموعة شباب جبل المقطم، وهذا أدى بدوره إلى فتح الباب على مصراعيه لاغتيالات مست شخصيات معروفة وذات صلة بالانجليز والحكومة، وتمتد بعد ذلك إلى منازل حارة اليهود في القاهرة، وذلك ما بدأ يخلق متاعب للمرشد الذي وجد نفسه أمام تحديات ومخاطر جديدة انجرت من صناعته لهذا النظام الخاص، الذي راح يتحول بسرعة متعاظمة إلى مارد يصعب التحكم فيه حتى من المرشد نفسه. ويكون المرشد العام، الشيخ حسن البنا، قد أدرك، لكن بعد فوات الأوان، أن تلك القوة التي سهر على تنميتها ورعايتها تحولت إلى قوة مضادة ومدمرة لتنظيم الجماعة نفسها، بعد أن جرها إلى لحظة الخطر والنهاية الحرجة من طرف قوى النظام القائم التي استشعرت خطرها القادم، بحيث تم الاستفادة من الأحكام العرفية التي كانت معلنة بسبب حرب فلسطين ليصدر قرار من الحاكم العسكري بإيقاف صحيفة الاخوان، ثم يصدر قرار آخر من مجلس الوزراء بحل جماعة الإخوان ويحظر نشاطها السياسي والخيري والثقافي، تحت حجة أن تنظيم الشيخ كان يعد للتآمر على النظام القائم عن طريق الإرهاب، وأن يتحمل مسؤولية اغتيال أحد خصومه في بور سعيد، وأن الجماعة تم العثور بحوزتها على كمية من الأسلحة والمتفجرات، وأنها كانت تخطط لنسف بعض الفنادق والمنشآت التجارية ليهود مصريين.. وما هو إلا وقت قصير حتى انقلب كل شيء ضد الاخوان، وتحركت ضدهم آلة القمع والاضطهاد بكل جنونها وقسوتها وعنفها، بحيث تم فصل المئات من الموظفين في الإدارات والجامعات والمدارس الثانوية الذين كانت لهم انتماءات للجماعة، وبدا الأمر غير معقول ولا يطاق، وذلك ما دفع بأحد الأعضاء المنتمين للنظام الخاص، وهو الطالب عبد المجيد أحمد حسن، أن يصوب رصاصتين قاتلتين إلى رأس رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي. وهذا ما جعل أتباع النقراشي ومناصري الحكومة يهتفون بالقصاص خلال تشييع رئيس الوزراء، ولم يكن هذا القصاص سوى المطالبة بالثأر، وهو قتل المرشد العام للجماعة.. وكانت الطريقة إلى تنفيذ الثأر هو انطلاق آلة إرهاب الدولة لتشمل 4000 معتقل، يتعرض معظمهم إلى تعذيب القساوة والوحشية. وفي أتون هذه المحنة التي تعرض لها جند الشيخ حسن البنا، ازدادت عليه الضغوط وتعاظمت تحت سطوة الدعاية الرسمية ذات الطابع الديني التي قامت بتجريم الجماعة، بحيث صدرت فتوى كانت عظيمة الوطء على نفسية الشيخ حسن البنا على لسان مفتي الديار، يدين فيها أفراد الجماعة ويقذفهم بالكفر البواح، وبيانات أخرى من هيئة كبار العلماء وشيخ الأزهر.. كلها تتبرأ من أعمال الجماعة وتصف نشاطها بالإرهاب الإخواني. ولقد امتدت هذه الحملة ضد جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها العام، إلى رموز كبيرة من النخبة المصرية، حيث كتب عميد الأدب العربي طه حسين يقول:«ما هذه الأسلحة.. وما هذه الذخيرة التي تدخر في بيوت الأحياء وفي قبور الموتى؟ وما هذا المكر الذي يكمن وما هذه الخطط التي تدبر، وما هذا الكيد الذي يكاد لمّ كل هذا الشر، ولم كل هذا الكفر، ولم رخصت حياة المصريين على المصريين.. قال إنها رخصت رخصت بأمر الإسلام الذي لم يحرم شيئا كما حرم القتل، ولم ينه عن شيء كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان". وكذلك قال كمال الشناوي وهو يدين أعمال جماعة الإخوان:«إنني حزين أن يوجد إنسان واحد جماعة منظمة، يصنع الموت للناس، ويحترف التخريب والتدمير، وإن قلبي ليقطر حزنا إذا كانت هذه الجماعة ترتكب جرائمها باسم الإسلام، وتجد من يصدقون دعواها.. إن الإسلام الذي يقول كتابه الكريم {وجادلهم بالتي هي أحسن} لا يقر جدوى المسدسات والمدافع والمتفجرات.. لقد شعر الإخوان أنهم يعيشون لحظتهم السوداء والقاتمة والقاسية أشد القساوة؟! إلى درجة الإيلام الغائر بعيدا في إيلامه لوحدهم.. وشعروا وكأن العالم كله ضدهم ومتآمر عليهم، من حكام وساسة، وكوادو ورجال أمن وقضاء ورجال أعمال ومتعاملون أجانب، بل ورجال دين من علماء وأئمة، وكذلك مثقفون ومفكرون.. ما الذي يحدث؟! ما الذي حدث؟! وفي خضم هذه المشاعر المتضاربة والكراهيات المتنامية ضدهم، والمخاوف المنتشرة والمسيطرة على القلوب، حدث ما كان يصعب حدوثه، وإن كان منتظرا بشكل من الأشكال.. لقد تحقق الثأر ونفذت جريمة الاغتيال ضد المرشد العام نفسه.. لقد قتل حسن البناء ذات مساء من شهر فبراير عام 1949، وذلك بعد قدمت له وعود من قبل السلطات القائمة على إصلاح ما تم إفساده من طرف عناصره، عناصر النظام الخاص الذين أدانهم الشيخ بعد ضغوطات وإغراءات.. ونشرت هذه الإدانة تحت عنوان كان بمثابة الصدمة لأتباعه وجنده "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين". يتبع