لا يزال أمام ولد خليفة استدراكا طوله حوالي أربع سنوات لترميم ما خُدش من صورته إلى حد الآن منذ استلامه العهدة. لكن إلى اليوم، بدءا من إثبات عضوية نواب المجلس بعد التشريعيات الفائتة، فقد توارت عن الأنظار كل مضامين تلك الشهادات التي تجعل من الرئيس الحالي للغرفة البرلمانية السفلى، نبراسا بين الشخصيات السياسية. بالعودة إلى الظرف السياسي الذي رمى بولد خليفة في البرلمان، يمكن تسجيل معطيات بالغة الأهمية. فهذا الرجل كان خيار عبد العزيز بوتفليقة شخصيا لكي يترأس الغرفة السفلى، في وقت كانت الألسن تلوك الحراك داخل جبهة التحرير الوطني، فتارة تضع رشيد حراوبية في المقدمة وتارة أخرى تقدّم الطيب لوح، وفي أحيان مغايرة رست الأخبار على أن الرئيس سيُجدد الثقة لعبد العزيز زياري. قبل الانتخابات البرلمانية لم يكن محمد العربي ولد خليفة يتخيّل يوما أنه سيكون الرجل الثالث في الدولة، بل لم يكن أحدا يضعه في حساباته أصلا، بأنه رجل يليق برئاسة المجلس الشعبي الوطني. ليس هذا انتقاصا من قيمة الرجل، بل العكس. فولد خليفة من كثرة ما كان يُرى في أعين الساسة من الناس، على أنه رجل ورع ودمث الأخلاق، ورجل ذا قيمة علمية كبيرة، لم يكن مطروحا في أذهان المتتبعين أن "يتدنس" لطفه وشكله الأخلاقي، بدسائس السياسة ومكائد السياسيين التي تتطلبها "الحرفة" خاصة في البرلمان. فولد خليفة لم يضعه عبد العزيز بلخادم في أيامه الخوالي على رأس الأفلان، حتى ضمن كوطة الأمين العام، للعضوية في اللجنة المركزية، وهو دليل كافٍ على أن الأفلانيين لم يكونوا يروا في أمثال ولد خليفة رجالا يليقون بمناصب يكثر حولها المكر السياسي، ليس لأنهم لا يستحقونها ولكن لأنهم لا يقدرون عليها لقلة خبرتهم وكثرة نقاوتهم الدفينة. وبالتالي من أشار على الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بولد خليفة، كان في غاية الذكاء والدهاء، خاصة وأن الرئيس كان في قلب معركة تغييرات وإصلاحات سياسية، "نفضت" الساحة خلالها كافة الأسماء التي أرّقت المشهد السياسي بحضورها "غير الناجع"، ف«طار" الثلاثي السياسي المفضّل، بلخادم، أويحي وسلطاني، ورحل سعيد سعدي ولاحقا ومؤخرا آيت أحمد. فكان لابد للرئيس أن يربح معركته بطرح أسماء جديدة تتمتع بالمصداقية والإجماع، خاصة حول نظافتها، من أجل أن تُسند لها مهام قيادة مؤسسات الدولة، بدءا بالبرلمان الذي يُعتبر مركز الجدل السياسي. لكن الحرص على تغيير الشخصيات السياسية لم يكن مرافقا لتغيير قواعد اللعبة السياسية، التي تستلم فيها مثل هذه الأسماء الورعة، مهامها الجديدة. ولأن حتى النخبة الجزائرية معدة نفسيا لكي لا تقول "لا" للرئيس عبد العزيز بوتفليقة ولو كان ذلك على حساب سمعتها النيّرة، اختار ولد خليفة في أرذل عمره وبشخصيته الحسناء أخلاقيا ونضاليا، دخول لعبة لم يكن يُجيد قواعدها كثيرا، وهذا مفهوم لأنه جاء من هيئة علمية بعيدة بعد السماء عن الأرض، مع السياسة. فاستعمال ولد خليفة كورقة رابحة في خضم "الإصلاح السياسي" شكّلت أهم الانتصارات الأخيرة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، التي تُسجل له على مستوى اختيار شخصية نظيفة تقود مؤسسة "المكائد السياسية" بكل الوسائل بما فيها الابتعاد عن النظافة. فخيار الرئيس أيضا ذا قيمة سياسية ورمزية ثقيلة، لأنه جاء في زمن يعرف ندرة كبيرة في سوق السياسة لعملة من قيمة ولد خليفة، نظافة ووطنية. لكن هل نجاح الرئيس بوتفليقة في هذا الخيار يضمن بالضرورة نجاح ولد خليفة في المهمة السياسية التي أسندت له؟ المعطيات تفيد أن الأفلانيين كانوا مُصيبين للغاية عندما حيّدوا ولد خليفة عن المناصب الحساسة، طوال عضويته الأفلانية، بدليل الفوضى التاريخية العارمة التي يغرق فيها المجلس الشعبي الوطني. فنواب هذه الغرفة ممن يقضون ضعف العهدة يحنون لبرلمان زياري رغم أنه كان يوصف ببرلمان "الشكارة". والأسوأ أن "ولد خليفة ورث برلمان الشكارة والفساد والحفافات والجهلة والفوضى والانفلات" على حد قول بعض زملائه "المنتخبين"، مما يجعله يقود أسوأ برلمان مثلما نعته النائب لخضر بن خلاف، موضحا بأنها "أسوأ عهدة منذ برلمان 76". فبرلمان ولد خليفة رفض مناقشة الفساد المستشري في أركان الدولة، باعتراف الرئيس بوتفليقة نفسه، ولو أن ولد خليفة يرفض "التعميم". كما عجز رئيس الغرفة السفلى عن حل مشكلة الهياكل التي لم يسبق وسقطت فيها السلطة التشريعية، بل ويؤكد زملاء ولد خليفة أنه ضليع حتى ناصيته في الفوضى الحاصلة، بل حتى اتهمه البعض أنه أصبح أداة لتصفية حسابات وتنفيذ مخطط خلافة على رأس الأفلان لوضع سيعداني المطعون في سيرته طولا وعرضا. ومن الطبيعي ألا تشفع لولد خليفة كتبا من التكذيبات والتفنيدات ولا حتى حوارات تحت الطلب مع أشهر العناوين ولا علاقات معاونيه مع الإعلاميين، فهو قبل بمحض إرادته الدخول لمستنقع السياسة بلباسه الأبيض، بينما للمجلس الشعبي الوطني رئيسا يتطلب أن يكون له روح المبادرة وقوة المقترح والإقناع والكاريزما التي تتزلزل أمامها الفوضى ومن شأنها أن تكون بديلا لأي طارئ سياسي كما هو الحال مع أفلان برئيس عليل وأمانة عامة شاغرة، وعلى الأقل أن يقوم بذلك كما يرى البعض من دون إثارة ما من شأنه شق الصفوف، وزرع الشك والجدل فليس مطلوبا أن يتخذ إجراءات ليست من صلاحياته. ضف إلى ذلك اختتام دورة بمكتب مجلس ممدد العهدة ومنح امتياز السيارة لنائب غير مفصول في منصبه نهائيا، وعدم السيطرة على كتلة متمردة بأخذ زمام المبادرة خارج البرلمان في إطار حزبي، والافتقار لشخصية قوية في مستوى رجل "ثالث" للدولة، أنهكت واستنزفت الصورة الجميلة لولد خليفة الذي يقود إلى حد الآن غرفة سيئة السمعة، في نظر الكثيرين، محاولا تجنيب بياض لباسه رذاذ مستنقع السياسة وهو في وسطه.