في الساعة السادسة والنصف من صباح المنتصف الأخير من جوان 1979 استيقظت على بقايا حلم، وقد كنت فرحا بذلك، رأيتني أسير على قارعة الطريق قرب سينما فوكس... وإذا بأستاذ اللغة العربية، يقترب مني وهو يرتدي قبعة صفراء، ولباسا مزخرفا، قائلا لي "لقد نجحت يا حميد، لقد نجحت"، ولحظتها راحت الفراشات تتطاير من حولي، حتى ملأت المكان الذي غص بالألوان المزركشة، ثم رحت أركض بسرعة، كدت خلالها أطير وأتحول إلى فراشة من تلك الفراشات المرفرفة.. وبدأ قلبي يدق، ولم يكن أحد في تلك اللحظة يقظا ليفسر لي ذلك الحلم الجميل الذي أيقظني، وعندما بان الصبح، وغادرت البيت واتجهت إلى ثانوية الحواس، دون أن أكلم أحدا، مررت بسينما فوكس، بينما كان الجو حارا رغم جنح الشمس نحو المغيب، تذكرت الحلم، لكنني لم أر الفراشات، اتجهت نحو الثانوية التي لم تكن تبعد عن سينما فوكس إلا ببضعة عشرات من الأمتار.. كان قلبي يخفق بقوة، وكان التلاميذ وأولياؤهم يزدحمون أمام الباب الخلفي للثانوية، ولم يمر وقت طويل حتى راحوا يعلقون النتائج على الجدار الزجاجي للباب الخلفي.. لم أتمكن من الاقتراب، ثم تجرأت واقتربت، وكدت لا أصدق عيني، كان اسمي على القائمة، وعندئذ تخيلت فعلا أنني أصبحت فراشة ترفرف.. بل كانت الفراشات التي رأيتها في الحلم تطير بزحمة شديدة من أعماقي، من عيوني، من رأسي، من كل جسدي، ومن كل منافذ خيالي... رحت أركض كالمجنون، أسابق الريح، وأنا أصرخ ملء فمي.. نجحت، نجحت.. ضربت باب منزلنا بحي ڤومبيطا بقوة، وتناهى صراخي إلى أمي، فانطلقت الزغاريد من كل مكان، من كل الأفواه.. وامتلأ منزلنا بالجيران والجارات، وتعالى صوت الموسيقى، وازدحمت أصوات المهنئات والمهنئين.. هل هذه هي السعادة؟! أن تجد نفسك تتحول في لحظة كالنسيم الحر الطليق.. مرت تلك اللحظة كالطيف الذي يراقصك، ويندلق من أعماق قلبك.. ثم يتسرب كالرمل من بين أصابعك... ثم يتلاشى في يعبوب الزمن المتدفق كالنهر الهادر، المنطلق في جريانه وسيلانه... أظن، وأنا في أوج تلك السعادة لفتني غشاوة من كآبة مجهولة المصدر.. لم أفهم من أين نبعت، وكيف نبعت والتفت علي للحظات مديدة... شعرت أثناءها بالرغبة في أن أكون وحدي... خرجت من البيت الغاص بالوافدين، واتجهت نحو الخلاء الممتد وراء حيّنا العتيق، ورحت استذكر اللحظات التي مضت.. هل كنت حزينا على رواحها وسيرها باتجاه وادي الذاكرة ومساحة الزمن الذي أصبح ماضيا؟! كنت مرتبكا، طائرا، فرحا وكئيبا في الوقت نفسه... تحصلت على شهادة البكالوريا بدرجة فوق المتوسط.. وهذا ما جعلني من بين الذين اختيروا من الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية أن يكونوا ضمن وفد مدينة سيدي بلعباس من طلبة الجامعة والطلبة الفائزين بشهادة البكالوريا، بدرجة ما فوق المتوسط للمشاركة في فعاليات أول جامعة صيفية تقام بضواحي الجزائر العاصمة، بمدينة بومرداس... فرحت كثيرا.. لم أكن زرت العاصمة من قبل إلا مرة واحدة، يوم كنت في فريق لوناكو للعدائين.. كان ذلك، عام 1977.. جئنا على متن القطار المتوجه من وهران إلى العاصمة.. كنت يومها أعدو في صف les cadets، كنا سبعة من العدائين، ومعنا ثلاث عداءات أصاغر.. وكان مدربنا المدعو بوترفاس يراهن علينا ليجعل منا أبطالا للجزائر في صنف 1500 متر و3000 متر حواجز... كانت العاصمة بالنسبة إلي بمثابة اكتشاف جميل.. تعرفت فيها رفقة مدربي على مكتباتها الكبيرة، وعلى مقاهيها، وعلى مطاعمها... تناولنا أول غدائنا في مطعم لابراس المواجه للجامعة المركزية.. ورأيت لأول مرة في حياتي النساء يتناولن الخمر ويدخن السجائر... واقتنى لي بوترفاس يومها، كتابا، لطه حسين، عنوانه "من بعيد"، كانت تلك الفترة لحظة اكتشافي لكتاب الأيام لطه حسين الذي عرّفنا بنصوص من أعماله أستاذ اللغة العربية القاضي لحمر... قادني والدي محمد على متن سيارته الدوفين إلى محطة القطار.. وأعطاني بضعة نقود.. وكنت سعيدا بذلك... وجدت مرافقنا ينتظرني أمام باب المحطة.. كنت وحدي من الثانويين المتحصلين على شهادة البكالوريا الذي سيتجه إلى الجامعة الصيفية، أما الطلبة الآخرون، وكان عددهم سبعة، كلهم كانوا من كلية الطب، وأعمارهم كانت تتجاوز الخامسة والعشرين، بل بعضهم كان يتجاوز الثلاثين... أحسست بالغربة بينهم... كنت أحمل حقيبة سوداء ومنزويا في إحدى زوايا المحطة.. كانت الساعة تشير إلى الرابعة بعد الظهر، رأيت شخصين كهلين رفقتهما فتاة في العشرينات من عمرها، نحيلة، ذات بشرة سمراء، ترتدي بنطلونا، وقميصا ناصع البياض، أما شعرها الأسود فلم يكن طويلا.. راحا يتحدثان إليها وهما يتجهان نحو كشك التذاكر.. ثم عادا من جديد، واقتربا من المكان الذي كنت منزويا به.. نظر إلي أحد الرجلين لكن دون تركيز.. ثم تناهى إلي حديثهم.. وعلمت أن الرجلين من الشرطة.. وعندما ارتفع الصوت المشير باقتراب موعد وصول القطار القادم من تلمسان والمتوجه إلى وهران.. تبادلا معها كلاما لم أستمع إلى بعضه.. ثم ربت أحدهما على كتفها.. فابتسمت ثم قالت لهما كلاما طيبا فيه الكثير من الامتنان...