أتصوَر أن أي تحديث للشيء يجب أن يمر بعنصر المعرفة، وهي السبيل الوحيد المؤدي إلى السؤال. وأما القول بالتجاوز، دون مساءلة واعية للأنظمة الخطابية السابقة، فيدخل في باب اللغو وتبذير الجهد بلا روية، وبلا أفق، أي أنه لا يتعدى حدود الترف الذهني العابث، أو التجريب قبل تمثل الأشكال والرؤى والقاموس والدوال والأساليب والاستعارات، إلى غير ذلك من العناصر التي تشكل الإبداع، شعرا كان أم نثرا أم رسما أم نحتا أم صورة. هناك مصطلح مهم يخص الكتابة: الزاد المعرفي، أو الأثاث كما يسميه إيطالو كالفينو في مؤلفه الموسوم ست وصايا للجيل القادم. وإذا كان المبدع، من أي منطلق كان، غير مؤهل معرفيا لفهم المنجز السابق، بصرف النظر عن قيمته الفعلية، فلا يمكنه، منطقيا، إدراج كلمة التجاوز في خطابه، وهذا أمر بديهي في كل الممارسات الحضارية العارفة. ذلك لأننا نتجاوز المعلوم بعد معرفة، أما المجهول فيحتاج إلى معرفته قبل تحديثه، على أن يكون فعل التحديث مبنيا على إدراك وغائية، أو على أسباب ومقاصد بينة، حتى لا نهرب من الظلام بالجري في الظلام، بتعبير الأديب نجيب محفوظ. لم تنطلق الحداثة الغربية من عدم، وقد كان الجدل، في البدايات الأولى، واللاحقة كذلك، مؤثثا معرفيا، بعد الكشف عن الفجوات، وعن التكرار الذي لحق بالخطاب، وعن العلاقة الفصلية أو الصدامية بين الصيرورة الاجتماعية والأشكال الثابتة، أو الصيغ النموذجية التي لم تعد وظيفية، إن لم تصبح معرقلة للجهد وللممكنات الفكرية الملحة. وقد ارتبطت هذه الحداثة، كنتيجة منطقية للحركة، بمشاريع فكرية وفلسفية وسردية وشعرية بعد تمثلات دقيقة للموروث والممكنات الفكرية والتعبيرية، ولما ورد في الكتاب المقدس من تناقضات ونصوص لم تعد وظيفية، من منظور الحداثيين الأوائل الذين أعادوا النظر في مشكلة تبني الموروثين الأدبي والديني. للتذكير فإن كلمة حداثة كانت تعبر، في أوقات سابقة، عن التوجه الجديد في الفكر الكاثوليكي الذي كان يسعى إلى إعادة تأويل تعاليم الكنيسة، ويطلق على هذا التوجه مصطلح التجديدية، بصرف النظر عن الحمولة الجديدة التي قصدها. كما أن المصطلح ذاته، خارج المنطلق الديني، قد يحمل معنى أكثر شمولية مع قسطنطين كيزل، وأكثر خصوصية، إذ يتعلق الأمر، بالنسبة إليه، باستخراج من الصيغة ما هو شاعري في التاريخي، بالتمييز ما بين الخالد والطارئ. أما الإنجليز، كما أشرنا في كتابنا الترجمة والمصطلح، فقد ربطوا الحداثة بالأسلوب، منطلقين في مسعاهم من الفن القوطي الذي يتسم بمنحنيات طبيعية مؤسلبة، مستوحاة من نباتات البلد. وقد أشار الدكتور مجدي وهبة في قاموس المصطلحات العربية إلى هذا النزاع بين القدامى والمحدثين في كل من فرنسا وإنجلترا، والذي استغرق تسعا وعشرين سنة (1687 1716)، وأما فكرة التحديث فتكمن في ضرورة الإيمان بنشر وعي جديد يهتم بالآداب المحلية، بدلا من الاستمرار في تقليد الأدبين اليوناني والروماني اللذين هيمنا على الإبداع والنقد. ومن مقدمات هذا النزاع المبحث الذي كتبه ديماريه دي سان سورلان (1596 1686)، منتقدا الملاحم اليونانية والرومانية القديمة لما فيها من بعد وثني، ومادحا معاصريه الذين يتمتعون، كما يرى، بنور الحضارة والمسيحية. سنلاحظ، إن عدنا إلى جزء من الطروحات البدئية، أن التحديث، من المنطلق الغربي، مبني على معرفة سابقة بالخلل الافتراضي، في حين يكمن الهدف في التركيز على الأنا الفردي والجمعي (الكاتب، المجتمع)، أي على الخصوصية، لذا كان التركيز على الآداب المحلية. بمعنى أن المشروع النهضوي أخذ في الحسبان نقطة مهمة: التجاوز من أجل تحقيق الذات بسبب الانمحاء الذي عرفه الغرب جراء المحاكاة التي استغرقت قرونا، وتحديدا النقل الإملائي للمنتج المؤسس الذي أسهم في تقنين الإبداع، وفي فرز أثر سلبا على الخيال والموقف. كما يبدو المشروع الغربي أشد وعيا بحاضره وبحاجاته، لذا تم التركيز على الآداب المحلية. ويمثل هذا الطرح جوهر المسألة من حيث إنه كان يسعى إلى الانفصال عن الماضي، وعن الآخر، وعن هذا الإرث الذي لم يعد يمثله: الإرث الفكري والأدبي والديني والنقدي الذي انتقل حرفيا من عصر إلى آخر. لكن هذا الانفصال ظل مرتبطا بمشاريع واضحة، وأهمها ترقية الذات كمنطلق لأي حداثة ممكنة. هناك في هذا المنظور عدة خلفيات لها مبرراتها، وقد يرتبط التثوير، إن استعرنا مصطلح أدونيس، بعدة جوانب قاعدية، نذكر منها على سبيل التمثيل: الموضوعات والصيغ والرؤى، وكل ما من شأنه الإسهام في تشكيل الخطاب الجديد وتقويته لغايات فنية أو نفعية تحددها طبيعة المعرفة ومتطلبات المحيط الخارجي الذي يتعامل معه المنتج. وستصبح المعرفة، بجوانبها المركبة، أحد أهم العناصر التي تبني عليها الحداثة من أجل تحقيق ذاتها ومقوماتها: معرفة الماضي ومعرفة الحاضر في علاقته بالماضي والمستقبل. ما يعني أن القول بضرورة تجاوز هذا أو ذاك، يفرض، من الناحية الإجرائية، ضرورة تجاوزه على بينة، ولهدف يتم التخطيط له عن وعي: وعي بالمعرفة السابقة، ووعي بالمعرفة البديلة ومساراتها الافتراضية التي ستشكل الشخصية. وأما المحاكاة فلا تحل مشكلة التقليد وسلبياتها، إن لم تقع في الخانة التي نبذها الحداثيون أنفسهم قبل عشرات السنين. أي أنه لا يمكن، تأسيسا على الطرح الغربي لمفهوم الحداثة، أن نلغي طه حسين كقيمة مرجعية نقدية، لنستبدله، دون وعي، بالمنظور النقدي الجديد الذي تبنته اللسانيات البنيوية، كما هو، دون أي تعديل، ودون أي استبدال للتموقع. أو نبني على منظور أرتور رامبو بمحو ابن عربي أو السموأل أو أبي نواس أو الشنفرى. لأن ذلك يدخل في باب المحاكاة الإملائية التي لا تبني على الجهد، بقدر ما تبني على الاستيراد الجاهز لمنظومات قد لا تفي بالغرض إن انتقلت بشكل معياري من تقاليد نقدية إلى تقاليد نقدية أخرى مختلفة عنها، من حيث المنطلق والهدف. وما ينسحب على النقد ينسحب على الشعر والأجناس السردية، وعلى الصورة والعمارة والرقص والسينوغرافيا والإخراج والخطاب غير اللغوي بشكل عام. ذلك أن التحديث، خارج الذات، وخارج منظومة فكرية ومعرفية أصيلة، يبدو بمثابة استيلاء معلن على صيغ الآخر، سواء بتبنيه أو بالتهليل له في مقام متنافر، على حساب القدرات الشخصية. ما يقودنا إلى القول بأن الحداثة المستوردة بحذافيرها ستظل حداثة بحاجة إلى معرفة واستراتيجية، وإن لم تبن على ذلك، لسبب أو لآخر، فستأتي مشوهة، تابعة، كما السياسة والاقتصاد والفلسفة والصناعة بشكل عام. وإذا كانت المعرفة نواة، فمن المفترض أن يكون الكاتب عارفا بوضعه، مثله مثل الشاعر والناثر والبناء والمهندس المعماري. إذ يبدو من العبث محاولة غرس نخلة في بيئة لا تقبلها بسبب اختلاف الطقس والتراب والهواء، أو تشييد ناطحة سحاب فوق أرض متحركة، لأن ذلك لا يُفسر سوى بضعف الكفاءة، أو بنوع من الإفراط في العمى. كما أن نقل الرؤى الغيرية، دون أي توطين لها، لا ينم عن معرفة، ولا يعكس أي عبقرية في التعامل، في حالة السرد، مع الموضوعات المبأرة، ومع الرؤى الوافدة. والواقع أن هذا التعامل لا يدخل أصلا في باب الحداثة، إن نحن ركزنا على التعريف الغربي للكلمة. وقد تكون هذه الممارسة استنساخا، أي أنها ستتعارض جذريا مع التحديث الذي نطمح إلى تحقيقه، بعيدا عن تكريس المنوال، سواء كان داخليا أم خارجيا. نشير إلى أن عناصر المعرفة تكاد تكون مغيبة في بعض إبداعنا، بتلويناته وأجناسه المختلفة. فقد يقدم النص، في حالة الرواية أو القصة أو المسرحية أو الأقصوصة، حكاية جيدة، محبوكة بإتقان، حكاية قائمة على التعليق الهيتشكوكي مثلا. لكنه، بالمقابل، قد يقدمها بشكل باهت من حيث الزاد: المعجم والصيغة والصورة والفكرة والرؤيا والمسميات والأسلوب والفكرة والمعلومة، ومن حيث الحضور الشخصي. وإذا حدث أن فلت من الاستنساخ، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنه حداثي، بالمفهوم الحقيقي للكلمة، بل صورة مقلدة، أو سلعة مزورة. الموضوع وحده لا يصنع الحداثة، كما أن الرؤية المنقولة، المضادة للمعيار القائم، ليست مؤهلة لأن تحقق استقلاليتها وحداثتها الخاصة بها. هناك عناصر متشابكة أخرى تسهم مجتمعة في تشكيل الحداثي. وإذا كنا لا نعرف الدلالات ومسميات الأشياء وأبعاد التراكيب والبنى وأفق الرؤية، فإننا ملزمون بمعرفة مثل هذه القضايا الأولية قبل إقحام الحداثة في الخطاب المسوَق للقارئ. لقد وقع الخطاب القصصي العربي، في بداياته الأولى، في شيء من الاستلاب، معتقدا أنَه يساير حركية السرد. والواقع أنه قام بترجمة جهد الآخر، وحداثة الآخر، ومعرفة الآخر ورؤيته وأساليب تفكيره. قبل أن يستدرك الأمر ويعيد النظر في تجربته ويشحذها. من المهم، عندما نريد تيسير النحو والصرف وتحديثهما لغايات عملية، أن نبني على معرفة بالمسببات، وبالنتائج في الوقت ذاته. المشكلة ليست في رفع المفعول به أو المجرور، أو في نصب الفاعل، أو في إلغاء العلاقة بين الصفة والموصوف، أو في التقليل من الحركات، أو في التقديم والتأخير، بل في هذه الشبكة من العلاقات المنطقية المتشعبة التي أقامتها القواعد للتدليل على المبنى والمعنى، وبعد اجتهادات دامت قرونا. ومع ذلك فقد دخل التأويل رغم الضبط الدقيق الذي عرفه النحو والصرف والتراكيب، وصار المعنى بحاجة إلى المقام. أتصور أن القارئ في أمريكا اللاتينية أو في اليابان ليس بحاجة إلى أن تسوق له معرفته بعد تشويهها وتزويرها، بقدر ما هو بحاجة إلى معرفتك، حتى لو كانت مشوهة، أو مجرد خرافات وأساطير. من هنا تماما تبدأ حداثتنا، من الكانون والبرنس والناي والخيمة والقمامات والفوضى العارمة، من هذا المحيط العيني الذي أشار إليه الشاعر الهندي طاغور: معرفة الذات وجزئياتها، ثم تحديث ما أمكن تحديثه في نسق يشبه شلالا. إن الحداثة التي نذهب إليها كالعميان لا تحل إشكالية الخطاب.