بعد انتظار تجاوز العشر سنوات منذ صدور عمله "حروف الضباب"، أصدر، أخيرا، الروائي والكاتب الصحفي، الخير شوار، ثاني رواياته "ثقوب زرقاء" عن دار العين المصرية، في أزيد من 90 صفحة تعتصر فيها ذاكرة فردية لمتشرد تلفظه المدينة الكبيرة الفاقدة للذاكرة إلى حافتها، ومن هناك يحاول ترميم ذاته داخل قصر مسكون بالأشباح، فيختلط الخيال بالواقع وترفع الحدود الفاصلة بين الجسد والروح.. في هذا الحوار الذي جمع "الأثر" بالكاتب تفاصيل عن عالم مليء ب "الثقوب الزرقاء". نعم، هناك خيط من الواقع، لأن الفكرة جاءت مع أول عمل ميداني قمت به بعد التحاقي ب«الجزائر نيوز"، تحديدا في ديسمبر 2005، حيث كلفت بالمشاركة في إعداد ملف حول البيوت التي يعتقد أنها "مسكونة بالأشباح"، وكان من اقتراح الزميلة نائلة برحال، على ما أذكر، وبالفعل كانت عدة بيوت بالجزائر العاصمة من نصيبي، منها بيت ب«سيدي فرج" وبيت "الطاحونتين"(بمنطقة ميرامار) قرب الرايس حميدو، وفي الحقيقة لم تكن لدي أي فكرة حولهما من قبل. ذهبنا أنا والمصور الصحفي "بلال زهاني" رفقة السائق، وكانت الأمطار تهطل والجو باردا جدا عند وصولنا، وكان البيت عبارة عن قصر مهجور مطل على البحر، يبعث رهبة في النفس. وجدنا مجموعة من الشبان جالسين، وشخصيا تملكني نوع من الخوف، وقلت إنهم مجموعة من الصعاليك أو الحشاشين الذين قد يثيرون بعض المشاكل وعندما اقتربنا منهم، سبقنا السائق لأنه كان قوي البنية عريض المنكبين، فوجدناهم في الحقيقة شبانا لطفاء حدثونا عن القصر والحكايات التي تسرد حوله، مؤكدين أنه، مؤخرا، تم العثور على جثة رجل مجهول يبدو متشردا بالمكان، وكانت هذه هي اللحظة الواقعية للانطلاق في هذا العمل الخيالي الذي امتزج بسيرتي في ذلك الوقت، أين كنت أعتبر نفسي مشردا في العاصمة لظروف معينة، وارتبط العام بالخاص وتكثف فكانت "ثقوب زرقاء". هذا العمل بالذات، كما أشرت، هو تجربة شخصية، لماذا البطل متشرد فاقد للذاكرة؟ أنا أتيت من بلدتي "بير حدادة" سنة 2002، في تلك اللحظة كتبت "حروف الضباب"، وكانت غارقة في الثقافة المحلية والأساطير الشعبية، في لحظة ما وجدت نفسي في الجزائر العاصمة ولا معنى لذاكرتي القوية بمدينة فاقدة للذاكرة، من هنا جاءت فكرة البطل المشرد الفاقد للذاكرة. الكثير من الأصدقاء يعيبون على أعمالي أنها غارقة في الأساطير، لذلك في عقلي الباطن قررت "أنا المشرد" الذي أصبح لا معنى لذاكرته في مدينة لا تأويه ولا تطعمه، أن تكون الرواية لشخص بلا ذاكرة. فعلا، في لحظة كتابة النص أعتقد أنني قمت بقطيعة راديكالية مع "حروف الضباب"، لكن في النهاية بعض الزملاء، من بينهم الصديقة القاصة فاطمة بريهوم، قالت لي: "إن لهما البنية نفسها والعالم الغرائبي نفسه، لقد خرجت من الأساطير الخرافية، لكن استحدثت أساطير جديدة". نعم، يبدو أن الكاتب لا يستطيع الخروج من جلده، نكتب ذواتنا، وإن كنت فاقدا للذاكرة فإن الذاكرة المؤقتة أوالمخزنة تصنع معالما مشابهة. الحقيقة لم أنتبه إلى مسألة الألوان هذه من قبل، جاءت عفوية، لكن ربما لأن الذاكرة عندما تغيب تحل محلها الذاكرة البصرية. وعن ذكر "زوسكيند" وروايته "العطر" التي سمعت عنها كثيرا من قبل، لكنني لم أقرأها إلا بعدما انطلقت في كتابة الرواية وطبعا قبل انتهائها، لأن هذه الرواية على صغر حجمها اشتغلت عليها 6 سنوات، حيث كتبت سنة 2006 جزءا منها ثم تركتها، وهنا أعود إلى السؤال الأول - مسألة الجزء الواقعي من الرواية - تجربة عملي في "الجزائر نيوز" كانت حاضرة بقوة في هذا النص الروائي، فكما سبق وأشرت كيف كانت البداية، النهاية أيضا جاءت سنة 2011 وكنت أعمل في قسم المحاكم آنذاك، حيث التقيت بمحام بمحكمة العناصر روى لي عن جريمة قتل وقعت ب«الرايس حميدو" في موقع مهجور محاذ لسكنات عدل كان يسكنه رجل مع عائلته، وفي إحدى الليالي هجم الرجل على مجموعة من الشبان المنحرفين الذين كانوا يزعجونه فقتله أحدهم بقضيب حديدي فيما أكلت كلابه وجه القتيل، هنا تحرك عقلي الباطن وتذكرت الجزء الذي كتبته من الرواية -بالنظر إلى قرب منطقة الطاحونتين والرايس حميدو - وكانت هذه الحادثة إحدى اللوحات التي ختمت بها الرواية. التلميح هو خياري بشكل عام، لأن شخصيتي هكذا، الرواية نفسها صغيرة الحجم، فيما كان من الممكن أن أسترسل في سرد التفاصيل وتكون ضخمة الحجم، واشتغلت على لغة مختزلة ومكثفة. موقفي الفلسفي والفكري واضح وهو أن تكون هناك ضرورة فنية للتوظيف الجنسي، أما إذا كان مجانيا فأنا ضده، وهذا في كل شيء.. جنس أو غيره، كما أنني فكرت في مشروع رواية تكون مبنية أساسا على الجنس، لكن كموضوع قائم بذاته. أنا لا أحاكم نوايا الناس، ولكن ما حدث هو أنني في لحظة ما فتحت الفايسبوك ولم أصدق أنني أرى صورة القصر التي لا يمكن أن أنساها أو أتوه عنها، لأنها منقوشة في خيالي وعشتها واقعيا إلى جانب أنها كانت دائما حاضرة في لحظات الكتابة، وقلت في نفسي "هذا قصري ماذا يفعل في صفحة واسيني؟"، وبعدها قرأت تعليقا يقول فيه الأستاذ واسيني "أشباح قصر ميرامار"، فقلت هذا عنوان رواية، وتكلم عن القصر والأشباح.. لكن لم يقل إنه سيكتب رواية. في التعليقات كان هناك تعليق لأحد الزملاء، وهو من أوائل من قرؤوا روايتي، يقول فيه "إن هذا القصر موضوع رواية الخير شوار الجديدة"، لكن الأستاذ واسيني لم يعلق، فيما كتب تعليقا رد فيه على صاحب الصورة يقول فيه إنه سينجز كتابا عن القصر وسيكون هو المصور. لا، لقد بعثت بنص الرواية لواسيني في جوان 2013، بعدما التقينا في مهرجان المسرح وسألني عن جديدي، فقلت أنني بعثت برواية "ثقوب زرقاء" لدار العين المصرية لكنهم تأخروا في نشرها، فقال لي "ابعث لي النص وسأساعدك في نشره عند لجنة دبي الثقافية وناشر آخر، واقترح دار الآداب، فبعثت له النص، وفي شهر جويلية اتصلت به، فقال لي إن هناك عدة اقتراحات وسيجيبني قريبا، ومنذ ذلك الحين انقطع الاتصال إلى غاية نشر خبر صدور روايتي عن دار العين، وجاءت حكاية الفايسبوك. الله أعلم. نعم، القصر منذ قديم الزمان موجود، وأنا بالفعل اشتغلت على موضوع الأشباح، ولكن إذا أراد إعادة العمل على الموضوع فهذا شأنه. ما قيل لي هو أن القصر بالفعل كان ديرا في العهد الاستعماري، ودمرته منظمة الجيش السري، وبقي مهجورا ومخربا منذ الاستقلال إلى يومنا، لذلك فالراهبات لسن غريبات عنه. ليس ذاكرة مكان، لأن البطل لا يملك ذاكرة، وهو يشبهني ويشبه هذه المدينة الكبيرة التي لا تعترف بالذاكرة. وهذا المكان الذي لم تنصفه الذاكرة يقترح تعويضها انطلاقا من تلك الهواجس والخيالات، لتروي مأساة فردية لشخص يقاوم مدينة، إنها معركة وجود ومعرفة ذات. أعتقد أنها ليست مدنية تماما، لأنها تجري على هامش مدينة، يراها الغريب من بعيد ولا يستطيع دخولها، يرى أضواءها ويتخيل أجسادها كيف تنسجم، يشتم رائحة تلك الأجساد، لكن دائما من مقر عزلته على أطرافها. لا يمكن أن ننسى أن البطل صحفي، ومعه مصور صحفي، إلى جانب أن حبكة الرواية تبنى على حادثتين هما من صميم العمل الصحفي. هناك تكثيف وتركيز متعمد، لأن الأحداث تتسلسل انطلاقا من شخص واحد، ولم أدخل في النص إلا الشخصيات الضرورية سرديا، وتعمدت أن يقترب أسلوب الكتابة إلى حد ما من التكثيف الموجود في القصة القصيرة. هو نوع من الاقتصاد السردي، لأنني دائما كنت معجبا بتعبير لحبيب السائح في هذه المسألة "نفايات السرد"، لذلك أحاول اجتنابه بقدر الإمكان. طبعا، في العمل الروائي أؤمن بعدم التوظيف المجاني، فلنكتب رواية خاصة بما حدث في التسعينيات لابد من البحث جيدا في الأمر، لكن في هذا العمل اكتفيت بالتلميح للأمر لأنني تناولته من جانب فردي (المتشرد) وانطلاقا من تجربته الخاصة وليس من الذاكرة الجماعية، لأنه لم يكن أمير جماعة أو ضحية إرهاب.. هم كانوا شبانا أغلبهم من الصحفيين، والموضة في ذلك الوقت كانت الكتابة عن الإرهاب. الأمر سهل، لنرجع إلى ما كتب في التسعينيات، الأعمال الباقية اليوم يمكن أن نقول إنها فعلا أعمال أدبية، لكن ما تبخر منها يمكن تسميته بشيء آخر. أعتقد، يجب أن يكتب عن الثورة بعدها، وهنا لا أصادر حق أي كان في الكتابة أثناء الحدث. مبدئيا عندي ثلاثة مشاريع، هناك رواية بدأتها قبل "ثقوب زرقاء" لكنني توقفت لأنها تحتاج إلى تفرغ وقد تكون ضخمة الحجم، هناك احتمال للعودة للاشتغال عليها وموضوعها أيضا "الذاكرة الجماعية البعيدة"، عنوانها شبه النهائي "ألواح الريح". وهناك قصة قصيرة الكثير من الزملاء الذين اطلعوا عليها قالوا لي إنها مشروع رواية، أفكر في الموضوع. أما الثالث فهو مجرد فكرة "هلامية" عنوانها "الكتاب الأبيض". نعم، الغيطاني قدم ملفا طريفا في "أخبار الأدب" مضمونه أن "الرواية أصبحت الفن المستباح"، يكتبها الصحفيون، العسكريون، البسطاء.. ولكن شخصيا أعتقد أنه لابد من التعامل مع النص وننسى من كتبه، كما يقول رولان بارت "موت المؤلف". والرواية كما أفهمها هي ملحمة الإنسان العادي التي ولدت مع جدنا ميغيل دي ثيربانتيسن ودونكيشوت، فمن يستطيع التعبير عن انكساراته وخيباته وانتصاراته الوهمية هو روائي حقيقي، مهما كان اسمه أو مستواه الثقافي أو الفكري. حاوراه: زهور شنوف / محمود أبو بكر