ارتبطت العصبوية في الجزائر بثلاث سمات رئيسية على صعيد جينيالوجي، وهي الشعبوية والعفوية والعنف. وتكاد هذه السمات ذات الأشكال المتنوعة والتمظهرات المختلفة تبدو وكأنها قواينن ثابتة متحكمة في آليات النزاع والصراع بين الزمر داخل العصب المتنافسة من جهة وبين العصب فيها بينها من جهة ثانية. وكان البروز السافر للعصبوية بشكلها الحديث في الجزائر منذ اللحظات الأولى في عهد الحركة الوطنية، كما أشرت من قبل، وقد تجلت بشكل سياسي وإيديولوجي على المظاهر الحديثة والعقلانية من حيث الشكل وعلى أكثر من صعيد، سياسي وثقافي واجتماعي.. ويمكن الإشارة إلى أن في العشرين السنة الأولى من القرن العشرين، حركية جديدة انطلقت عقب نهاية حقبة المقاومات التقليدية للإستعمار الذي كان طابعها مرتبطا بالدفاع عن الحوض أوالحمى بمعناه القبلي والعائلي، خاصة بعد أن نازعت القبائل سلطة الأمير عبد القادر الذي أراد توحيد المقاومة ضد الإحتلال الفرنسي، لتكون فوق المصالح القبلية. وتميزت هذه الفترة بانفجار الحرب الكونية الأولى التي سرعت من توطيد البنية التحتية لكن الفوقية كذلك للنظام ذي الطراز الكولونيالي، وهذا ما فتح الطريق لميلاد أشكال جنينية للنخبة الأهالية التي شارك عناصر منها في الحرب، حيث اعتقدت هذه العناصر أن النظام الكولونيالي سيسمح لها بالإستفادة من مزايا عبر إصلاحه بالإعتماد على تبني شعارات الثورة الفرنسية حول العدالة والحرية والمساواة كمرجعية لها، ومقدمة خارطة طريق لنخبة محلية أهالية ترضى بلعب دور الوسيط بين السيد والتابع. وعلى هذا الأساس كان انبثاق حركة الفتيان الجزائريين كمشروع لميلاد مثل هذه اليوتوبيا الجديدة التي تم التبشير بها، وبالتالي يساعد ذلك على إنشاء نخبة تكون بديلة عن التاريخ العصبوي للمقاومة المسلحة التي وصلت في نهاية القرن التاسع عشر إلى طريق مسدود وإلى نهاية موضوعية. لكن هذا الحلم بميلاد نخبة سرعان ما تبخر ما إن حطت الحرب العالمية أوزارها وعاد المتطوعون من عناصر النخبة من الحرب مثلما راحوا، أوأشد خيبة وأكثر يأسا.. لكن ميلاد نجم شمال إفريقيا سرعان ما أعاد مثل هذه في ميلاد نخبة جديدة، ولقد جاء ميلاد النجم في ظروف وسياقات تميزت بعدة متغيرات على الساحة العالمية، منها ثورة أكتوبر 1917، وخطاب ولسن المعلن عن الحق في تقرير المصير للشعوب المغلوبة على أمرها، وصعود الحركة العمالية، وبروز قطب جديد يتعلق بحركة التحرر الوطني.. وفي ظل مثل هذا الحراك كانت مبادرة إنشاء أول تنظيم تبنى الفكرة الوطنية الثورية، والفكرة الإستقلالية وفكرة الإنتماء إلى فضاء هوياتي، سواء ما تعلق بالإنتماء إلى الشمال الإفريقي كوحدة ثقافية وسياسية وتاريخية، أوما تعلق بذلك الوعي للثقافة العربية الإسلامية.. وكان لدور المفكر الناشط المشرقي شكيب أرسلان، صاحب "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم"، أثر خاص في توجهات الوطنية الجزائرية على الصعيد الثقافي والإيديولوجي، وعلى تفكير رجل ملهم مثل مصالي الحاج.. إن مؤسس النجم، مصالي الحاج، لم يكن ينتمي إلى تلك النواة الجينية التي آمنت بشعار الثورة الفرنسية ويوتوبيا قرون الأنوار، وكذلك كان الشأن لرفاقه الجزائريين الذين أسسوا جنبا لجنب نجم شمال إفريقيا، كلهم كانوا قادمين من أوساط متواضعة وفقيرة، ومناطق بائسة في منطقة القبائل أوفي مناطق الغرب الجزائري. ورغم أن معظم هؤلاء المؤسسين كانوا عمالا أقرب إلى رتبة البروليتاري في المصانع الفرنسية، إلا أنهم كانوا بعيدين من حيث المنبت الإجتماعي والتكوين الثقافي عن النخبة الجنينية التي كانت تحلم أن تكون المفاوض للإدارة الكولونيالية من أجل إجراء إصلاحات جزئية تنعكس إيجابا على فئة من فئات مجتمع الأهالي.. كان مصالي الحاج ابن زاوية، وعاملا بروليتاريا في المهجر، وجامعا بين ذهنيتين.. ذهنية المناضل النقابي وذهنية ابن وشيخ الزاوية، أي الإبن لوضعين وثقافتين وتصورين متناقضين، ومع ذلك كان في وحدة هذا التناقض كل سر حياة الوطنية الثورية وقوتها وحيويتها، حيث كان يتعايش الأسطوري بالحقيقي، والغيبي بالعقلاني والعفوي بالتنظيمي، والسري بالعلني والسلمي بالعنفي والطبيعي بالميتافزيقي والعشائري بالوطني.. إن هذه الخلطة الكيميائية ما كانت لتتحقق وتكون لولا ذلك الإرث الثقافي الذي جلبه معه إلى مجال السياسي والمطالبة النقابية للعصبوية بوجوهها المختلفة المعبرة عن سلطة العشيرة والطريقة والقبيلة إلى المجال السياسي الحديث وإطاره العقلاني، وهو الحزب الواجب أن يعبر اجتماعيا ودلاليا عن قوة اجتماعية، وبالتالي عن طبقة وعن نخبة وعن رؤية للعمل السياسي وللمشروع السياسي الذي تبناه الحزب.. ومنذ اللحظات الأولى لنشأة الحزب الوطني، سرعان ما اختفى مشروع التنظيم ليكون مغاربيا وحل محله مشروع التنظيم الوطني، ليصبح هذا الأخير مجالا للصراعات والنزاعات بين الأشخاص والزمر التي تحلقت حولها على السلطة داخل الحزب، ليكون إطارا حديثا لنشأة عصبة تبنت خطابا جامعا، جديدا ومثيرا هو الخطاب الوطني الإستقلالي.. وهكذا حدث تمازج غريب بين الحداثة السياسية وبين العصبوية كذهنية وأسلوب عمل وإدارة صراع على الصعيد الداخلي، ومن هنا أصبحت العشبوية تشكل السمة الأولى الرئيسية للعصبوية الخفية التي تنكرت في زي حزب حديث، حتى وإن كانت على رأسه شخصية هي أشبه بشخصية رجل دين خرافي، أوشخصية راسبوتين.. لماذا الشعبوية؟! لأنها خطاب له قدرة خارقة على إثارة الإستنهاض، استنهاض الحس والوجدان وتحريك الوعي بشكل بسيط، حيوي، مباشر، أسطوري وغير معقد.. وهي إلى جانب أنها خطاب مغري ومثير للنشوة الداخلية الخلاقة لحياة جديدة، ولإنسان ناهض وجديد من تحت رماد الإنسان المكبل، المنزوع ليس الحرية وحسب، بل الآدمية بكل ما يمكن أن تعنيه في أبسط تعابيرها.. ثم إن الشعبوية تحمي العصبوية من كل تعرية عن طريق المساجلة والنقد الذي يعد ممارسة اجتماعية من ممارسات النخبة، وتوحد الجموع في شخصية الزعيم، الشخصية ذات القداسة والقوة وسلطة السحر، والمتماهية مع سلطة الزعيم الكامل، والإنسان الكامل، والمطلق كامل المطلقية بحيث يصبح في مجال المرئي سوى أمرين وحيدين، الزعيم والجموع. ومن خلال المخيال القائم عبر الوحدة الوجدانية والميتاسياسية والثقافية بين الزعيم وجموعه تأخذ العصبوية كل قوتها السرية وسلطتها الخفية، بحيث تصبح هي الروح الحقيقي الذي يجعل من الشعبوية دينا جديدا يعاقب كل من يتحداها أو يريد الوقوف في وجهها أو الكشف عن مغامراتها، وهذا ما سنراه بشكل جلي في تراجع الأصوات النقدية تجاه الممثل المقدس للعصبوية، الزعيم الكبير.. المؤسس التاريخي للوطنية وبالتالي الأب الذي يحرم الخروج على طاعته، بحيث يصبح كل خروج خيانة يستحق صاحبها الموت واللعنة في الدنيا والآخرة.. لكن هذه الشعبوية سوف تتخذ وجوها شتى ومتعددة في كل حقبة من حقبات حرب العصب أوصراعها من أجل السلطة أوفيما بينهما.. ومن هنا ندرك كيف وبأي طريقة سادت الشعبوية الوطنية في ظل نشوء العصبة التي اتخذت لنفسها حصانها، الوطنية والإستقلال ثم بناء الدولة الوطنية وحماية الشعب من كل مؤامرة خارجية، ثم الشعبوية النقيضة في ظل صعود هيمنة العصبة الإسلاموية، بحيث عدلت من معادلة الإستقلال قبل، أوهل الحل بالإسلام أوالدولة الإسلامية.. ثم الشعبوية الثقافوية البربرية التي جعلت من الهوية الوطنية حصان معركتها لفترات طويلة. كما أن الشعبوية التي بدونها يصعب للعصبوية أن يكون لها كل ذلك السحرعلى الجموع، ظلت تلازمها العفوية أوالحركات العفوية في لحظة النهوض للعصبويات الخامدة، وفي لحظة التأزم يظهر العنف كحالة تاريخية بدل التفاوض المستعصي بين الزمر أوالعصب، أو طريق محرر للعصبة الناهضة والحيوية في لحظة صراعها المقدس ضد العصب الآفلة والغاربة، أوضد العصب المناوئة والمنافسة، والتي قد تصبح عند نقطة فاصلة عصبا عدوة.. إن هذه السمات الثلاثة، وهي الشعبوية والعفوية والعنف، لم تختف من المجال، بل ظلت تشكل دلالات وحالات دورية كلما دخلت العصب في صراع مكشوف أوفي حرب حاسمة..