خاضت الزمرة القبائلية أولى محاولاتها لأن تتحول إلى عصبة غالبة في نهاية الأربعينيات داخل الحزب الوطني الكبير، الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، إلا أنها اختفت وانعكس ذلك على وزنها داخل الحزب ذاته، وهذا رغم أن هذه الزمرة لعبت دورا طلائعيا في الإنشاء الجنيني للحركة الوطنية في بداية العشرينيات إلى جانب ممثلي زمرة محلية كانوا متواجدين في المهجر ضمن صفوف الطبقة الشغيلة في المهجر.. كما لعبت هذه الزمرة دورا مميزا في عملية الدفع بالمقاومة السياسية إلى الكفاح المسلح، وذلك منذ نهاية الأربعينيات ووصولا إلى لحظة الكفاح المسلح في نوفمبر 1954. وكان لهذه الزمرة وجوهها التاريخيون الذين وضعوا بصمتهم في مسار التجربة التحررية في الجزائز، وهذا ما يخلق بدوره مفارقة أساسية في التشكيل الغامض من جهة للعصب، ومن جهة ثانية للنخب السياسية ذات التوق العميق إلى الحداثة والعلمنة والدولنة بدل العصبنة. ومن بين الوجوه البارزة والتاريخية التي أرادت الإنتقال من لحظة العصبية والجماعة إلى / النخبة / الطبقة، يمكن ذكر عبان رمضان الذي التحق بحرب التحرير منذ اللحظات المبكرة إثر خروجه من السجن ولعب دورا في تطويق الآليات المهيمنة للعصبة، ليحل محلها البناء السياسي أو الممارسة السياسية بمعناها الحداثي، ومن هنا يمكن فهم تشديده على أولوية السياسي على العسكري، لكن رمضان فشل في محاولته وكانت حالة الفشل مأساوية بعد تعرضه لاغتيال سياسي على أيدي رفاقه في جبهة وجيش التحرير الوطني.. وعشية الإستقلال حاولت الزمرة القبائلية أن تجمع من حولها زمرا أخرى لتقف أمام تصاعد قوة العصبة الناشئة التي تحلقت حول هيئة الأركان العامة لجيش التجرير الوطني على الحدود المغربية، حيث كانت تستهدف شيئا واحدا ووحيدا وهو الإستيلاء على السلطة.. وبالفعل استطاعت الزمرة القبائلية أن تستقطب إليها زمرا أخرى كانت غير راضية على تلك الهيمنة لعصبة وجدة، وخاضت مقاومة مسلحة انتهت بالفشل الذريع، وسجن أحد زعماء هذه الزمرة الرجل التاريخي آيت أحمد، وظلت هذه الزمرة طيلة فترة بومدين تشعر بالقهر والإقصاء، وكانت ترى في بسط حكم بومدين المستند إلى عصبة وجدة لكن دون إهمال العصب الأخرى الذي فتح بومدين الباب أمامها إلى دوائر الإرتقاء، حيث كان شغل هواري بومدين الشاغل أن لا يقتاد إلى إغراءات الحكم والسيطرة العصبويين، وكان لتحالفه مع اليسار واعتماده على نشاطئه كحلفاء هدفا رئيسيا يتمثل في تفكيك البنى التقليدية المنتجة للذهنية والثقافة العصوبيين القائمة على تقديس الإنتماء إلى القبيلة والجهة. وخصص بومدين مجمل خطاباته السياسية في السعبينيات لنقد العصبوية، وذلك كمقدمة للإنخراط في الحداثة السياسية، والتي كانت تعني عند بومدين بناء دولة قوية قائمة على طبقات اجتماعية عريضة تتكون من طبقات العمال والفلاحين والمثقفين، لكن رغبة بومدين في محاولة تجاوز منطق العصبوية اعترضته مقاومات شتى في الظاهر والباطن وبشكل معقد، وكانت هذه المقاومة في جزء منها منطلقة من داخل الزمرة المكونة للعصبة نفسها، وهذا ما ترك بومدين يستغني عن عدد من المقربين إليه، مثل ڤايد أحمد الذي أبدى اعتراضه على سياسة بومدين في مجال الإصلاح الزراعي، وشريف بلقاسم، وهو من قدماء مفكري العصبة المعروفين بذكائهم ومناوراتهم، وأصبح مجلس الثورة الذي تخندقت داخله النواة الصلبة للزمرة / العصبة بلا روح، بعد أن أقبل بومدين على تنوير الريف والمدينة من خلال الثورات التي أعلنها كعمليات للتغيير الإرادوي لبنية الدولة والمجتمع على حد سواء، وبالتالي لإعطاء طبيعة لجوهر السلطة مختلفة بشكل واضح عن النظرة والتصور السابقين لممارسة السلطة. ولقد كان بومدين الذي تبنى الإشتراكية الشعبوية خطا سياسيا ونهجا إيديولوجيا يبدو في الفترة الأخيرة، قبل أن يصاب بمرض غريب ومفاجئ، متضايقا من زمرته الغاضبة والمتذمرة، وقلقا على مستقبل "الثورة الإشتراكية" التي كان يبشر بها. لكن ما إن اختفى هواري بومدين من الساحة حتى راحت زمرة جديدة من داخل العصبة تعمل على إعادة صياغة النظام وتحديد قواعد اللعبة السياسية الجديدة، لكن تزامن ذلك مع انبعاث جديد لمقاومات، منها مقاومة الزمرة القبائلية التي جلعت أحداث الربيع البربري لحظة التأسيس الميتاسياسي لأسطورتها الجديدة، والمتمثلة في المسألة الأمازيغية، وأطلق على أحداث 20 أفريل، الربيع البربري. وتحول المعنى التاريخي الأسطوري إلى لحظة ميلاد جديدة، ليس فقط للهوية الأمازيغية واللغة الأمازيغية والإنسان الأمازيغي، بل للوجود الأمازيغي، معبرا عنه من خلال ميلاد العصبة القبائلية، حيث أصبح لها تاريخها وأسطورتها ويوتوبيتها، وتحول مغنون ملتزمون بالقضية الأمازيغية مثل آيت منڤلات وفرحات مهني إيمولا، ومعطوب الوناس المغني الشهير الذي اغتيل في نهاية التسعينيات، من بين الرموز الكبرى الثقافية لهذه العصبة القبائلية. ومنذ 20 أفريل 1980 تحول هذا التاريخ إلى تاريخ تدشين للحظة نوعية وتاريخية فاصلة في حياة العصبة القبائلية. ودخلت هذه العصبة في نزاع داخلي بعد أحداث أكتوبر 1988 وظهور التعددية من جهة، بين الزعيم التاريخي للعصبة آيت أحمد ومنافسون من نفس الجيل.. ومن جهة ثانية بين حزب الزعيم آيت أحمد، (الأفافاس) الواجهة السياسية للعصبة، وبين تيار منشق قادته زمرة من جيل آخر تم إغراؤه ومحاولة إرشائه من قبل الزمرة الفاسدة داخل العصبة الحاكمة، وعلقت هذه الزمرة حول شخصية الدكتورسعيد سعدي ورفاقه له كانوا نشطاء في الربيع الأمازيغي وقضوا سنوات في السجون، شكلوا بالتعاون وبدعم من الزمرة العتيدة للعصبة الحاكمة انشقاقا رسميا على صعيد سياسي، واتخذ شكلا شرعيا سياسيا تحت عنوان "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية". وهكذا وجدت هذه الزمرة القبائلية المنشقة تقوم بدورين مزدوجين في الوقت نفسه.. الأول إعلان الحرب على الزمرة الأم المشكلة للعصبة القبائلية، وذلك من أجل تجريدها من شرعيتها التاريخية ومن سلطتها في الوسط القبائلي ومن قوة رمزيتها على صعيد خطاب المعارضة النقدي، والثاني أن تتحول الذراع التمثيلي للعصبة الحاكمة في المنطقة، لكن أيضا كواجهة للتعددية التي تبنتها العصبة الحاكمة منذ تداعي نظام الحزب الواحد. وما قوى من عضد هذه الزمرة القبائلية الصاعدة هو اندماجها في لعبة سرايا العصبة الحاكمة وتحولها في الوقت نفسه من ضمن الزبائن الجدد من خلال الإمتيازات التي راحت تتحصل عليها، من حيث الإستفادة من الريع ومن المواقع التي أصبح ممثلوها يحتلونها في دواليب الإدارة وفي عالم الإقتصاد والسياسة. كما أن الظهور اللافت لقوة جديدة وافدة إلى الساحة، وهي العصبة الإسلاموية، أثار ذعرا ومخاوف في نفس العصبة الحاكمة، لكن أيضا في أوساط العصبة القبائلية التي وجدت درءا للمخاوف والمخاطر المحتملة أن تندمج داخل العصبة الحاكمة إلى حين، وذلك باسم شعارات رنانة وطنانة وصاخبة، مثل التكاتف من أجل إنقاذ الجمهورية، والجزائر قبل كل شيء.. ووجدت هذه العصبة القبائلية نفسها تخوض من جديد جنبا إلى جنب مع جند العصبة الظافرة، حربا شرسة ومريعة ضد العصبة الإسلاموية، وهكذا راح عناصر عديدون من داخل العصبة القبائلية يحملون السلاح من أجل مقاومة الأعداء من العصبة الإسلاموية، لكن في الوقت ذاته كانت العصبة القبائلية تريد من عملية التسليح لأتباعها وأنصارها أن تعمل على عسكرة جزء من مجموعاتها.. ربما يزيدها ذلك في قادم الأيام قوة تمكنها من زحزحة الزمر والعصب الأخرى المتنافسة على السلطة، لكن ما حدث بعد رحيل زروال كان بمثابة الضربة المؤلمة لأحلامها في التوسع والسيطرة..