البناية مثقوبة من كل جانب كانت بيتا للراهبات قبل أن تهجر وتتعرض جوانبها للتخريب، ينتف شعره ويشعر برائحة تزكم أنفه، خليط من السمك المتعفن وفضلات البشر والفئران الميتة، يكاد يصاب بالصرع وقد انفتحت خياشيمه فجأة وكاد ينسى حاسة الشم التي تعطلت لوقت لا يذكر مدته، وبيد مرتجفة يمسك بنتف شعر الرأس ثم يحدق فيها ليتركها في مهب الريح يأخذها إلى حيث الشاطئ أو حيث المدينة التي لا تشعر بوجوده وتغرق في ممارسة الطقوس الخفية التي اعتادت عليها منذ قرون، وسرعان ما يقلب كفيه، ولم يكن يدري كيف تنقل من ذلك المكان حيث تباع الجرائد اليومية والأسبوعية مطروحة على الأرض إذ يذهب صباح كل يوم متمتعا بممارسة هوايته اليومية حينما يقرأ العناوين الرئيسية للجرائد ويقارن فيما بينها دون أن يشتري واحدة منها وكثيرا ما كان يطرده بائع الجرائد عندما يجده مبالغا في الوقوف بملابسه الرثة المتسخة وشعره الأشعث، ويحار البعض كيف لذلك الشخص الغريب الأقرب في شكله إلى المجانين يستطيع قراءة تلك الجمل الطويلة ويسأله بعضهم أين تعلم القراءة فيفكر في ذلك لكنه لا يجد جوابا وهو لا يعرف شيئا عن تلك الذات الغريبة التي يكاد يصدق بأنها ولدت في ذلك اليوم كأنه لا يمتلك ماضيا ولا يذهب تفكيره إلى المستقبل الذي يبقى متذبذبا بين صور لا يدري إن كانت تنبعث من ذاكرته المشوشة أو من مخيلته المضطربة، وشعر بحالة برد شديدة وهو يرى بين ثقوب تلك البناية التي تشبه بناية دمرتها دبابات الحرب، أضواء المدينة التي تكاد لا تنتهي، ومع الأضواء كان يفكر في البيوت التي تقع وراءها، ويتصور مئات الآلاف من العلاقات الإنسانية، في تلك اللحظة تلتقي الكثير من الأجساد الإنسانية وتلتحم حبا أو غصبا، وتتلذذ أجساد بتلك اللقاءات وتتألم أخرى، وتتشكل أجنة عند لقاء نطفة ببويضة وتتحدد الخريطة الوراثية للجنين بين آلاف الآلاف من الاحتمالات، وتبيت أجساد ملتحمة بعضها ببعض غير شاعرة بحالة الطقس الباردة جدا خارج تلك البنايات التي تقع تحت أضواء الشوارع التي يراها من بعيد نقاطا صفراء يحدق فيها وهو يغالب البرد، ومن شدة تحديقه فيها تتحول إلى ما يشبه الثقوب الزرقاء التي سكنت خياله في ذلك الوقت وسيطرت على تفكيره، وسرعان ما تستعيد تلك البنايات في خياله شكلها الأول، وتستحيل بعدها إلى لون شفاف يرى من ورائه أسرارها، ويرى آلاف الأجساد الملتهبة في حالة التحام في مشهد يشعره باللذة أحيانا وبالقرف والاشمئزاز مرة أخرى، وسرعان ما يشعر بتيار البرد يلدغه من الداخل ويحاول نسيان ذلك المشهد الذي أصبح يسيطر عليه كثيرا ويختصر من خلاله وجود المباني تلك التي حلم بأن يمتلك واحدة منها كأي مخلوق من تلك المخلوقات. تعود الأجساد الملتهبة في ذلك الجو البارد تسيطر عليه وهي تلتحم مرة وتنفصل مرة أخرى ويشعر من خلالها بروائح إفرازات الأجساد من أماكن مختلفة وهي تعيده إلى تقززه الأول، فيحاول أن ينسى الأمر ليلتفت إلى الناحية الأخرى حيث الأمواج المتلاطمة التي لا تمل من الاصطدام بالصخور الضخمة دون أن تجرؤ على زعزعتها، ولئن كان المشهد الأول يشعره أحيانا بالدفء فإن المشهد الجديد يزيده برودة حد التجمد. يذهب ببصره بعيدا في تلك الجهة، ويحدق في الأضواء البعيدة التي تبدو خافتة، هي أضواء البواخر البحرية الكبيرة وقوارب الصادين الصغيرة، ويستطيع أن يفرق بينها بسهولة، ويفكر في المشهد وتناقضاته، والبرد يكاد يجمد تفكيره. هنا متعة ولهو ودفئ وانطلاق مجنون وأجساد ملتهبة متلاحمة، وهناك أجسام تكاد تتجمد تحمل شبكة متداعية تريد الإلقاء بها في اللحظة المناسبة، لعلها تمتلئ سردينا يملأ السوق الصباحي ليوم مقبل، ويكاد يسمع البائع المقبل لذلك السردين الموزع في الماء قبل أن يجمعه قدره في تلك الشبكة الصغيرة وينقل على متن ذلك القارب الذي تكاد الأمواج تبتلعه: "سردين.. سردين"، ويغرق مرة أخرى في تفاصيل السوق اليومي، ويلتفت مرة أخرى إلى الاتجاه المعاكس ويستحضر روائح الافرازات العفنة التي تكاد تخنقه، ويتخيل تلك الإفرازات في شكل موج أصفر كبير يكاد يغمر تلك المباني بأضوائها، ويكاد يهرب إلى الاتجاه المعاكس ليغرق في البحر والحال يكاد يتجمد، لكن تلك الإفرازات تتحد مع ماء البحر الذي يواجهه، ويشعر نفسه غارقا والسيول تعبث به وتكاد تقذفه في القاع وهي تجرف معها تلك الاجساد التي لا يشملها عد بين ذكور وإناث كانت قبل قليل ملتحمة تعيش سكرة الالتحام قبل أن يحدث لها ما حدث وتصبح في مهب الإفرازات التي كانت ناتجة عن ذلك الالتحام. يكاد يهرب من السائل الأصفر اللزج إلى الماء الأسود الذي يكاد يتجمد، وهو يصرخ لكن الصوت يختنق في داخله، ويستعيد صوت وصورة ذلك البائس في السوق وهو يصيح "سردين.. سردين" ويكاد يقلده دون أن يستطيع إطلاق صوته وهو يرى سردينا يتعملق أمامه حتى أصبح في حجم الدلفين، ثم يستعير شكل القرش بأسنانه المنشارية الشرسة يراه يقهقه وهو يطارده ويصرح مثل البائع في السوق "سردين.. سردين"، ويزداد صراخ تلك الأشكال التي تتحول من القرش إلى الدلفين إلى السردين إلى أشكال أخرى وتحاول أن تحيط بجسده الذي يصارع الغرق. رغبة الصراخ تتضاعف في داخله، فيشعر مرة أخرى بأن الصوت يختنق في داخله، ويشعر بالماء البارد يبلل جسده المنهك ولا يجد ما يستر به نفسه إلا ثيابه الرثة، وعندها ينتبه إلى أن المطر يسيل بغزارة في ليلة شتوية وهو يبتعد بعض الشيء عن البناية المخربة التي كان عندها، والظلام الدامس يصنع المشهد إضافة إلى الأضواء البعيدة التي تشير إلى المدينة النائمة أو الساهرة تحت أضوائها، والأمواج التي تشعر بأن البحر يريد الهروب كلية إلى اليابسة. فيكاد يسقط أرضا وجسده المنهك أصلا أثقلته السيول وأثوابه الرثة التي لا يذكر متى وكيف لبسها أول مرة تكاد تسقط كلية من على الجسد المنهك، ويجد خطواته تخونه فيجرها بتثاقل حتى يكاد يزحف على بطنه وهو يعود إلى تلك البناية الغريبة التي وجد نفسه عندها منذ لا يدري من الزمان، ويشعر أحيانا أنه وجد على تلك الحال منذ الأزل وسيبقى كذلك إلى الأبد، ويشعر بأنه قطع الأمتار القليلة بين العراء الذي كان فيه عندما هطل شلال المطر عند شاطئ البحر الهائج والهيكل الخراب ذاك في مدة قد تجاوزت السنين الطويلة، وفي كل خطوة ثقيلة أو انسحاب على البرك المائية الباردة يطارده هاجس حتى ينسى حاله ذاك ويمسك رأسه الذي يخشى من أن ينفجر في أية لحظة. وتتعاقب الصور إلى درجة التزاحم في رأسه ثم تغيب وتترك الفضاء للسواد، وكأن تلك الأضواء التي كانت تؤثث الليل البارد قد انطفأت فجأة واستسلمت الأجساد الملتهبة التي كانت تختبئ تحتها إلى النوم العميق ولا يجرؤ أحد على التحرك أو مغادرة المكان خوفا من البرد الذي في الخارج، ووحده على ما يبدو ذلك الجسد يعاني البرد والعتمة والتيه دون الانتباه إلى معالم بين بناية خربة وشاطئ يحيل إلى بحر عميق تتعاقب الأمواج التي تشكل طبقاته وتضرب الصخور في حركة سيزيفية، فلا ينتبه لذلك الأمر إذ لم يعد له أي مجال للتفكير في أي شيء. لا يدري كم من الوقت مر عندما بدأت مخيلته تعود إلى التشكل من جديد دون أن يفلح في تنشيط ذاكرته البعيدة، واجدا نفسه وسط تلك العتمة التي تكسرها إلا بعض الأضواء الخافتة من جهة البحر، والكثير من الأضواء البعيدة التي تصنع ملامح مدينة شاطئية تمارس طقوس ليلها الشتوي الطويل مثلما تفعل دوما، وعندما يستعيد شيئا من قوته يحاول العودة إلى تلك البناية المخربة من كل جانب كأنها أطلال قصر ذي طوابق متعددة، كوشم في يد عجوزل تسعينية يحكي قصة جسد غض كانت له مغامراته الكثيرة قبل أن يحال إلى ذلك المآل. وعندما استعاد بعضا من ذاكرته القريبة، استحضر ذلك الوجه الذي تفاجأ برؤيته والذي أحاله إلى شعور غريب، مزيج من الحيرة والدهشة والغضب والحقد، دون أن يحدد سر ذلك ولا من هو صاحب ذلك الوجه الذي يتراوح بين وداعة الأطفال ووحشية آكلي لحوم البشر، وفي دجى الظلام الدامس، استعاد تفاصيل ذلك الوجه بكل تفاصيله ككاميرا رقمية عالية الجودة ترصد حتى تفاصيل بثور الوجه المتناهية في الصغر التي تفضح صاحبها مهما كانت أناقته واهتمامه بنعومة بشرته، وأخذ يحدق في تلك التفاصيل وباطنه كالقدر يغلي وتكاد تلك المشاعر المتناقضة تقضي على البقية الباقية من عقله، وكأنه في واحدة نهار يوم قائظ مشبع بضوء وقوة الشمس، وانعكست تلك الأحاسيس على حرارة جسده المنهك، وتراوح بين الإحساس بحرارة غير عادية لا تعكس محيطه وبرودة شديدة قد تفوق درجة البرودة التي كان عليها الجو ساعتها، ومن شدة إحساسه باقترابه من ملامح ذلك الوجه يكاد يلمسه ولسبب غريب يسرع تفكيره في أمور شتى ولا يشعر إلا بالذاكرة القريبة تشتغل وهي أقرب إلى الهواجس والتصورات منها إلى خبرات سابقة في هذه الحياة التي لا يكاد يعرف عنها إلا تلك الصور والأحاسيس الآنية، وتضطرب الصور في أعماقه ولا يعيده إلى تلك الحالة إلا الشعور بالبرد القاتل الذي يسكن نخاع عظامه ويكاد يفجرها من الداخل. تزداد حدة البرد الذي يسكن العظام ويكاد يأكلها من الداخل إلى درجة يحس به يتحول إلى ما يشبه سم الأفعى الذي استولى على كل كيانه ليقتله ببطء شديد، وينتقل ذلك السم إلى مؤخرة دماغه إلى درجة يكاد يجمده، لكن المخ يأبى التجمد في هذه اللحظة وهو يشبه آلة التحكم عن بعد في جهاز الكتروني أصيب نظامه بعطب، أو تحكم في شاشة تلفزيون تبحث عن أية صورة لأية محطة دون جدوى، ويأبى دماغه الاستسلام لليأس مكتفيا باستحضار الذاكرة القريبة التي تعيد له ذلك الوجه الذي رآه فجأة ثم اختفى وسرعان ما تحول إلى كابوس يطارده في نومه ويقظته. وفي لحظة سمع أصواتا وأنينا هي إلى الحلم أو الكابوس أقرب منها إلى الحقيقة، وشعر بأنه يستمع لذلك لأول مرة منذ مدة لا يعلمها.. كان صوت المطر الغزير وصفير الرياح يشوش على مصدر الأصوات والأنين حتى لا يكاد يتبينه وظن أن ذلك من أوهام يقظته المضطربة، وفي اللحظة التي كاد ينسى ذلك الذي ظنه وهما، هدأت الريح قليلا وزاد من انتباهه..