في غمرة الأفراح التي أغرقت إسبانيا بعد فوز «لاروخا» بالتاج الكروي العالمي، لم يتوان أحد الإسبان «الكُتَّاب» عن المقارنة بين صور الابتهاج يومها ، وتلك الصور التي كان الإسبان قد عاشوا أحداثها غداة سقوط غرناطة منذ أكثر من خمسة قرون، وعودة آخر المعاقل الإسلامية في الغرب إلى حِمَى الصليب الكاثوليكي..! قد يكون موقف "كاتبنا" هذا مجرد تعبير ساذج لم يلبث أن جرفه طوفان صور البهجة والأفراح العارمة، إلا أن الأكيد المؤكد أن الملايين من الإسبان قد استحضروا، بكل فخر، صور الملكة «إيزابيلا الثانية» وهي تحمل الصليب بيد وباليد الأخرى لواء النصر المؤزر وسط جيوش قائدها «فرديناندو» - العام 1492م- متجولة عبر شوارع عاصمة بني الأحمر وأزقتها. من قصر الحمراء إلى دفيد فيا .. العالم يتنفس كرة إسبانية استحضر الإسبان كل ذلك التاريخ، لا لشيء إلا لأن التاريخ أعاد نفسه مع الملكة «صوفيا» التي عادت بنفس الروح من جنوب إفريقيا تحمل كأس العالم بيد وباليد الأخرى وراية النصر المؤزر لكتيبة «لاروخا» بقيادة «دال بوسكي» وحارس عرينه الأمين «كاسياس»..! فما أشبه اليوم بالبارحة، وقد أعاد أحفاد «كريستوف كولومبس» عصر المجد الذي ولى حيث لا «الريال» ولا «البارصا» ولا «إيتا» ولا «كاتالونيا» ولا «قشتالة» ولا «أراقون».. ولا شيء إلا "إسبانيا الصليب" واحدة موحدة من البريني إلى البليار والكناري.. إسبانيا الماتادور و«التروبادور» و «الفلامينكو».. ومن ظن غير ذلك فهو مرتد عن الصليب خائن لصاحب المُلك وصاحبة الجلالة. بالأراضي المنخفضة كانت الفرحة بالبرتقالي الهولندي أقل شعبية وأكثر ملكية احتفاء بعودة من أعادوا "الروح" للأسطورة "الهولندي الطائر" وبحارته بعدما استطاعوا عبور رأس الرجاء الصالح حيث تاهت بهم المراكب منذ أمد بعيد..! عادت الروح على أيدي زملاء المكافح العنيد «روبن»، وعاد معها القلب لأحفاد «وليام فان أورانج»، كما عاد المجد الضائع لورثة الزمن الجميل من أيام الساحر الفنان "يوهان كرويف"..وعلى وقع أنغام الفرحة والابتهاج رقص تمثال "آنسة أمستردام" واستعادت الطواحين الصامتة دورانها الأزلي.. فمن قال أن الرياضة بعيدة عن السياسة والعقيدة، وفي منأى عن التاريخ والحضارة فقد أخطأ ولم يصب. وتفاوتت صور البهجة والاحتفاء بأبرز حدث رياضي شهده عام 2010 من بلد لآخر.. كما تفاوتت مشاهد الإحباط والخيبة من شعب لآخر..كل ذلك بتفاوت درجات الطموح ومستويات التحدي. فإذا كان قد خاب أمل البرازيليين وأصيب بالإحباط جل الفرنسيين وبكى وأبكى على رقصة التونغو "مارادونا".. فإن بلدا مثل الأروغواي يكون قد كتب التاريخ بأحرف فاخرات، وذلك بعدما حقق مروره البطولي إلى مربع الأبطال بعد دهر طويل من الهزائم والنكسات. البداية من ملعب تشاكر بالبليدة ..بدأت مسيرة أسطورة ذلك شأنهم هناك..أما شأننا هنا مع "الخضر" أو فريق "محاربي الصحراء" كما يحلو للكثير منا دعوتهم، فقد عادوا كما ذهبوا يحملون الوهم ويجرون أذيال الخيبة مرة أخرى، ونحن الذين كنا ننتظر منهم المعجزة الكبرى بإعادة "الفوز على الألمان" -تلك العقدة الأبدية التي لا تزال تلازم حلنا وترحالنا الكروي-. لكننا في الوقت نفسه لم نسأل أنفسنا ماذا قدمنا لهم كي نطالبهم بتحقيق المعجزات..؟ بداية الملحمة كانت من ملعب القاهرة الدولي، ثم ملعب المريخ أين كانت المعركة من أجل الفوز والمرور إلى كأس العالم.. انتصر الخضر بطريقة بطولية رهيبة أعادت الكثير من «الكرامة» للشعب الذي تعرض لأقسى هجمة إعلامية تجاوزت كل الحدود والأعراف..المهم أن النصر كان تاريخيا والعودة إلى الديار كانت حدثا لا ينسى..من قلب العاصمة إلى مطار هواري بومدين فاضت شوارع المدينة العائمة بأمواج بشرية لم تشهد الدنيا مثيلها إلا قليل. بردت أعصاب الجماهير وعادت الروح وتنفس العامة الصعداء..وعاد الأمل كبيرا عظيما وفتية الشيخ على أهبة الاستعداد لخوض غمار المنافسة القارية بأنغولا. الكل مطمئن البال وشموخ الخضر قد عاد بعد غياب مرير دام سنين عددا. وجاء موعد الامتحان مرة أخرى ضد فريق مغمور يسمى مالاوي وكانت الهزيمة فالصدمة فعودة الشك وإعادة النظر..؟ كان ذلك قبل ملحمة ساحل العاج وفوز الأبطال الذي تلته رباعية على أيدي «كوفي كوجيا» أمم الفراعنة، ليخرج «ثعالب الصحراء» منهكين مرهقين معنويا وبدنيا. الأنظار كلها تتجه إلى بلد مانديلا هذه المرة..بلد البافانا بافانا والألف عرق وعرق..بلد السحر ومزيج الطوائف والأجناس.. العالم كله يتهيأ لشد الرحال إلى جنوب إفريقيا والأفارقة يستعدون لاستقبال ضيوف الكرة من شتى أنحاء الدنيا، إنه موسم الهجرة نحو الجنوب. الشيخ سعدان ..رجل الأوقات الصعبة يطمئن الشيخ أنصار فتيته من حين إلى حين من خلال خرجاته الإعلامية المقتضبة..وكلما أطل زادت الشكوك وحامت الريب وتضاربت المعلومات..جاء «المهدي» ذهب «لحسن» عاد «شاوشي» شفي «مغني» جرح «زياني»... ولا جواب من طرف المعنيين يشفي غليل السؤال لهؤلاء «المساكين» القابعين على أبواب المقاهي وأرصفة الشوارع يلتهمون أخبار الصحف والقنوات التي لم تكن في أغلبها صادقة أمينة. دخل "فتية الشيخ" ملعب 5 جويلية وقد امتلأ عن آخره.. انبهروا لذلك الفيض البشري الرهيب وهم لاعبون، لم يعهدوا أبدا اللعب في هكذا أجواء جماهيرية صاخبة. بعد الإحماء حان موعد مواجهة الصرب تحضيرا للموعد العالمي الكبير. وبدأ الالتحام ومرت الدقائق ثم الدقائق ولا شيء يريح الأعصاب أو يزيل الشكوك، وكلما مر الوقت تعقدت المهمة وصعبت..لتنتهي المباراة بهزيمة مخزية؛ ثلاثية دون رد. وبدأت التعليلات؛ الملعب شؤم على الفريق..أرضية الميدان لم تكن صالحة..الأضواء لم تكن كافية..الفتية لم يكونوا في يومهم المثالي..بعض العناصر لابد من التخلي عنها..ثم جاءت الحلول الترقيعية التي لم تكن إلا بمثابة ردة فعل عابرة لامتصاص غضب الجماهير التي زادت شكوكها في قدرة عناصر الفريق على تحدي فريق بحجم الفريق الإنجليزي، خاصة وأن هذا الأخير قد صفع «الغريم التقليدي» فريق الفراعنة بثلاثية مذلة. أمام هذا الوضع غير المريح، يزداد مستقبل بعض العناصر المعول عليها غموضا مريبا، فلا هم يلعبون لنواديهم ولا مسرحون للعب في نوادي أخرى.. وكلما ازداد الموعد الكبير قربا ازداد معه ضغط الجماهير التي لا تريد إلا فريقا بحجم الفريق الذي هزم الألمان وصنع ملحمة أم درمان. لكن ليس بغريب الصدف ولا ببيض الأحلام يصنع المجد أو تتحقق الأماني.. وإنما بالجهد والمثابرة يكون الفوز والانتصار. ذلك هو المنطق الذي بدأت على أساسه الفرق المتأهلة لكأس العالم تحضيراتها واستعداداتها لمواجهة بعضها البعض في دورة استثنائية مميزة تعد بكثير من المتعة والفرجة والانتشاء. في الجزائر، ولما كان كل شيء بلون الصحراء جفافا وجفاء ، لم يجد الجزائريون سوى الخضر أو "فتية الشيخ" لمواجهة هذا الكم الرهيب من الهزائم المتراكمة والإخفاقات المتلاحقة؛ في الشغل والثقافة، في التربية والتعليم، في البحث والعلوم.. وحتى العلاقات اليومية المتردية كان لابد أن تعلق آمالها على الفريق الوطني ليأتيها بالنصر المؤزر والفتح المبين فيعيد لها البسمة والانشراح. في بلد البافانا بافانا .. انتهت مسيرة و حلم انطلقت المنافسة العالمية الأكثر مشاهدة في العالم.. وانبعث في العروق ذلك الشعور بالفخر والانتماء لهذا البلد لما كان علم الشهداء يرفرف بين أعلام الفرق الأقوى في العالم. وزاد الفخر وتضاعف الأمل مع اقتراب أول مواجهة ضد سلوفينيا. وجاء اليوم الموعود، انقبضت القلوب خيفة وريبة، وتبدأ المواجهة بأمل كبير وتنتهي بخيبة أكبر، بانهزام "خفيف" جاء عن طريق الخطأ، لكن للأسف ما أكثر أخطاءنا. ضد الانكليز كانت العزيمة أقوى عندما التقت ثعالب الصحراء بالأسود السكسونية.. وكانت فرصة تاريخية ليستعيد الجزائريون كل آمالهم ليس في المرور إلى الدور الثاني فحسب، ولكن في اكتساب فريق قوي الشكيمة شديد المراس. وانتهت المباراة بالتعادل السلبي –بتعبير أصحاب الرياضة-، لكن في مصطلح الجزائريين كان فوزا عظيما من دون أهداف..؟ وللأمانة التاريخية، لم نسمع بمصطلحات كلاعب كرة دون كرة.. وانهزام بطعم الفوز.. وفوز دون أهداف.. إلا عن طريق بعض الصحف الصفراء التي احترفت بيع الوهم وتسويق الكذب ونشر المغالطات. صحف صورت للجزائريين بعض اللاعبين على أنهم أبطال الدنيا، وأن العالم كله يلهث وراء الفوز بخدماتهم الميدانية، وذلك على الرغم من تواضع مستوياتهم بالمقارنة مع ما هو متوفر هنا وهناك عبر العالم. المهم أن آخر المواجهات ستكون ضد فريق العم سام أو بلد الحلم الأبدي "أمريكا"، ببلد المناضل الأبدي "مانديلا". كل القلوب معلقة بموعد الفرصة الأخير، وكل الأنظار شاخصة أمام شاشة الجزيرة –هذه الإمبراطورية الجديدة لبيع وشراء الصوت والصورة-. ودخل الفريقان وبدأ السجال ووقف أبناء الشيخ ندا غير سائغ لهذا العملاق الأمريكي الذي كان قد مرغ أنف الفراعنة بثلاثية هنا بجنوب إفريقيا. لكن وبكل أسف –وما أكثر مواقف الأسف- أن اللقاء انتهى بهزيمة "بطولية" لفتية الخضر -وهذا مصطلح آخر لا يفقهه إلا الجزائريون- هزيمة بطولية لم تكن متوقعة بالنظر لحجم الآمال المعلقة على كاهل هذا الفريق الذي ولد وتشكل وتكون وتمرس من وراء البحر، ثم هاجر كالطيور الموسمية إلى بلد الأجداد والأصول التاريخية. روح أم درمان أكبر من مجرد صرعة عابرة وعاد أبطال "أم درمان"، أبناء أبطال "خيخون"، أحفاد فريق جبهة التحرير.. لتستمر البطولة على هذا النحو المتقطع المتباعد من خلال هذه المحطات والمنعطفات التاريخية، التي ستظل متنفسا لهذه الجماهير المنكسرة حتى تنسى أو تتناسى بعضا من هموهها وهزائمها اليومية. وبتناقض الفريق الأكثر جدلية في العالم، سننتظر موعدا آخر من المواعيد الكبرى لنثبت للعالم أننا من طينة الكبار، وأن فريقنا كالخيزرانة الباسقة الخضراء يتمايل للعواصف ولا ينكسر.