من كان يقول لي أنه بإمكاني أن أعرج على الجبل، البحر والصحراء في يومين كنت سأقول له أن ذلك من سابع المستحلات.. ولكن في الجزائر باستطاعتك أن تفعل ذلك حيث يمكن أن تسوقك خطواتك وباستعمال وسيلتي نقل أو سيارة واحدة إلى دروب، تجمع بين البساتين والمروج وجبال تعلوها الخضرة أحيانا، وأحيانا أخرى ثلوجا بيضاء ناصعة، وشاطئ ساحر، تمتد على ضفته آثار ومواقع تاريخية تؤرخ لحضارات متعاقبة. وصحراء يتغير لونها بتغير ساعات النهار فتبدو صفراء ذهبية، وأحيانا وردية، تمتد على شكل بساط حينا، وترتفع أحيانا في شكل تلال مشكلة أمواجا في محيط جامد... فمن تكجدة بأعالي جبال جرجرة الشامخة إلى شواطئ ولاية تيبازة إلى منطقة الساورة بولاية بشار كانت رحلتنا ذات يوم بين الجبل، الشاطئ والصحراء في لوحة تعتقد لوهلة أنها صورة هاربة من جنة الخلد، وهذا ليس غريبا على بلد يختصر القارة الإفريقية، بغاباتها وصحاريها وكثبانها وجبالها وأوديتها وبحارها وشلالاتها ونقوشاتها الصخرية. $جولة واحدة، في الجزائر تجعلك أسير سحرها الخاص... سحر مزيج من تفاعل العديد من العوامل، برد قادم من قمم الجبال المغطاة بالثلوج، ونسيم منعش يأتي على ظهر موجات بحر، سرعان ما تتكسر على شاطئ الأمان، ودفء ينبعث من عمق الصحراء ورمالها الذهبية... وبين هذا وذاك مدن أثرية، وشواهد حضارية أنجزها مزيج من البشر استوطنوا هذا الوطن، حبا في جماله وطبيعته الساحرة... تنوع قد لا تشعر به وأنت تتلمس مواقعه على خريطة صماء، ألوان من البشر البيضاء، والسوداء والحمراء قد لا تكتشف تلاحمهم وسعي كل واحد منهم لتعريف الأخر بعاداته وثقافته إلا إذا حزمت حقائبك ونزلت ضيفا بينهم في جزائر المعجزات. تيكجدة... عروس الأطلس التلي تنتظر المزيد من الاهتمام وجهتنا الأولى كانت الحظيرة الوطنية لجرجرة، الواقعة في كبد الجبل الصخري العالي بسلسلة جبال الأطلس التلي، فالديوان الوطني للسياحة حدد لنا مسار رحلة، أوله جبل، أوسطه شاطئ وآخره صحراء ساحرة حيث الواحات، والرمال الذهبية وحكايات الألف قصر وزاوية. في الطريق إلى تيكجدة، هذه المنطقة الجبلية الساحرة، بتنوعها الطبيعي وتضاريسها الصعبة، تسبقك العديد من الأفكار إلى مخيلتك خاصة، إذا كانت المرة الأولى التي تذهب إليها زائرا، أو مستكشفا... فتتدفق إلى رأسك صور الثلج الكثيف وهو يظهر كأكوام ملح، أو سكر ناعم، وبرد قارص يهب عليك، تعتقد أنه سيجمد فيك كل الأحاسيس والشعور بالنشوة... وغيرها من الأفكار التي يسبقها الشوق لاكتشاف المنطقة مهما كان درجة جمالها، وجذبها للسياح. والذهاب إلى تيكجدة، لا يصعب عن المقيم بولاية العاصمة أو الولايات المجاورة إذ يكفي أن ينهض صباحا لشد حافلة نقل، أو سيارة خاصة مثلما فعلنا رفقة الديوان الوطني للسياحة ومسؤولين من وزارة السياحة، في ذلك اليوم. ينتباك شعور بالرهبة والعظمة، وأنت تقف أسفل تلك الجبال المنتصبة في شكل سلاسل غير منتهية... تبدو لك جبال قريبة عملاقة من الأسفل لكن سرعان ما تتحول إلى هضاب وأنت تواصل شق الطريق العابر وسطها إلى الأعلى حيث تبدأ الجبال الأكثر ارتفاعا بالظهور، تشعر أنها ستلفظك في أي لحظة من على منعرجاتها الضيقة، لكن حلتها البيضاء الناصعة التي ترتديها كل شتاء بفعل التساقط الكثيف للثلوج، ستنسيك هذا الشعور، حيث تبدو لك بساط أبيضا ناعما كالقطن، تتخلله أحيانا زركشات خضراء باهتة اللون وأخرى قاتمة. لم يكن الوصول إلى المنطقة صعبا، رغم أن سمك الثلوج المتساقطة تجاوز المترين، إلا أن السلطات المحلية سارعت لشق الطرق حتى لا تغلق أمام الوافدين إلى المنطقة، لاسيما الرياضيين الذين اتخذوا منها مكانا للتدريب والتحضير للمنافسات الوطنية والدولية، حيث يقع داخل الحظيرة المركز الوطني للرياضة والتسلية بطاقة استيعاب تفوق 250 سرير، الذي يستقبل عشاق الرياضة الجبلية والتزحلق على الثلج، وكذا الباحثين عن لحظات متعة وسط الكتلة الجبلية والغابية. وتعتبر منطقة جرجرة حظيرة وطنية محمية منذ سنة 1997، حيث تم تصنيفها من طرف اليونسكو نظرا لاحتوائها على ثروة حيوانية ونباتية جعلتها بمثابة مخبر طبيعي وايكولوجي، فأول مشهد يرسخ في ذاكرتك وأنت تحط الرحال بالمنطقة منظر يعانق أشجار الأرز، الفلين، البلوط، الصنوبر الحلبي والصنوبر الأسود الشامخة... وتصاحب النسر الملكي، طير الجبيات، الزردي، الضبع وقردة الماغو... بانوراما إلهية مزجت بين زرقة السماء وبياض الثلج وخرير مياه جبلية عذبة أبت إلا أن تقتل صمت المنطقة الخلابة. قبل أن نغادر تيكجدة كان لنا لقاء بمدير السياحة والصناعة التقليدية لولاية البويرة، ولأنه جديد بالمنطقة حيث تم تنصيبه منذ شهرين فقط، ترك مجال لرئيس مصلحة الاستثمار للرد على أسئلتنا، سيما تلك المتعلقة بواقع الاستثمار في المنطقة، في ظل التحفيزات التي خصصتها الدولة لتشجيع المستثمرين، وقد أخبرنا أن ولاية البويرة استفادت من 9 مشاريع سياحية يعكف على انجازها خواص، فيما تجري دراسات على المناطق السياحية الأربع المتواجدة بالمنطقة لتحديد نوعية الاستثمارات التي تتلائم مع كل منطقة. ولازالت تعاني المنطقة من نقص الهياكل، أمام تزايد عدد السياح الوافدين إليها خاصة وقت العطل، حيث يتراوح عددهم في عطلة نهاية الأسبوع بين 20 ألف إلى 25 ألف زائر، ناهيك عن نقص وسائل النقل وهي النقطة السوداء التي تواجه سكان المنطقة والراغبين في الوصول إلى «لالة خديجة» أعلى قمة في سلسلة جبال الأطلس التلي، والمناطق المحيطة بها. المدينة الأثرية.. ولغز الكنز المدفنون غادرنا، تيكجدة بمرتفعاتها، وجبالها الصخرية العملاقة، وطبيعتها الساحرة باتجاه مدينة لا تقل جمالا عنها، تيبازة الساحلية حيث تطل بوداعة على البحر الأبيض المتوسط... دخلناها والليل كان قد أرخى سدوله على المنطقة، فلم نتمكن من تحديد وجهتنا، ولا معالم الطريق المؤدي إليها، كانت بعض الأضواء الآتية من التجمعات السكنية المنتشرة على طول الطريق السريع تنبئ بقرب وصولنا إلى محطتنا الثانية... لم نستفق إلا ودليلنا السياحي يصيح بالهبوط من الحافلة لأننا بلغنا فندق القرن الذهبي، حيث سنقضي ليلتنا الأولى من الرحلة. الظلام الدامس الذي يلف المكان، لم يحجب عنا سحره، حيث يقع الفندق على شاطئ جميل تسمع صوت موجات البحر وهي تتكسر على الصخور القريبة من مكان الاستقبال، ويتكون المنتجع الذي يقصده الكثير من السياح خلال موسم الاصطياف، من شاليهات صغيرة متناثرة فوق ربوة عالية تعد امتدادا للشاطئ الصخري، وقد تلونت جدرانها باللون الأبيض الحالم، وأبوابها بلون البحر والسماء، المهدئ للأعصاب، أما في الصباح إذا ما فتحت عيناك فأول ما يقابل بصرك منظر خلاب وسط الغابات حيث ترتفع أغصان الأشجار في عناق مع البحر والمياه الزرقاء، وبقايا آثار تركها الرومان ذات قرن. من غير الممكن أن تحط الرحال بمدينة تيبازة، دون أن تعرج على الآثار الرومانية، فهذه المدينة المعطرة برائحة الموج، سحرت الروم وقبلهم الفينيقيون حيث لم يبارحوا أرضها إلا بعد أن تركوا شواهد مازالت تروي حكايات تعلقهم، وحبهم اللامتناهي لها. يقول دليلنا السياحي نور الدين بوعناني، وهو يشق بنا طريق المدينة الرومانية القديمة، أن آثار تيبازة، تعود إلى العهد الروماني ولكن تأسيس الولاية يرجع إلى العهد الفنيقي حيث أسسها الفينيقيون كإحدى مستعمراتهم التجارية العديدة وقد احتلت مكانة مرموقة وقتها. يواصل مرشدنا الحديث وهو يشير إلى بقايا الدروب والأقواس التي كانت تزين واجهة المدينة التي تطل على البحر، فيقول أن المدينة الرومانية في تيبازة بنيت فوق ثلاثة تلال صغيرة متقابلة مطلة على البحر. وكانت البيوت السكنية في التلة الوسطى ولكن لم تبقى لها آثار، وهناك آثار باقية لثلاث كنائس هي: البازيليكا الكبرى وبازيليكا إسكندر في التلة الغربية وبازيليكا القديسة سالسا في التلة الشرقية وعن هذه الأخيرة قال دليلنا أن الأسطورة تقول أنها رمي بها للبحر قربانا حتى يمنحهم الرزق. وكانت هذه المدينة محل أطماع الكثيرين بسبب جمالها وموقعها الجغرافي المتميز.. ومع مرور السنين دمرت العوامل الطبيعية هذا السور العظيم ونحتت الرياح البنايات لتحولها إلى تحف فنية رغم غرق جزء منها تحت البحر.. لكن الآن تحتفظ المدينة بأطلال الماضي من بقايا القصور والمسرح والتي تستقطب كاميرات كم هائل من السياح لتروي لهم روعة الحياة اليومية في عهد الاحتلال الروماني للمنطقة. لم تسحر تيبازة، السياح والمواطنين العاديين، بل كانت قبلة حتى للكتاب والمؤلفين، أمثال الفيلسوف والمفكر الفرنسي ألبير كامو الذي اتخذ من أحد صخورها المطلة على البحر الأبيض المتوسط مكانا مفضلا، لكتابة روائعه الأدبية مقابل جبل شنوة، جبل شنوة الذي كان يشبهه بجسد إمرأة حامل نائمة علي ظهرها، حيث كان يقول أن شنوة امرأة حامل أنجبت تيبازة. وعند وفاته، قرر أصدقائه تحويل الحجر الذي كان يجلس عليه لكتابة روائعه إلى نصب تذكاري يحمل احد جمله المشهورة «أفهم هنا ما يمسى بالمجد حق الحب بدون حدود»، تخليدا لروحه ولإبداعه. ودعنا المدينة الأثرية، لنتجه إلى معلم تاريخي آخر يشهد على عبقرية الإنسان في فن العمارة.. القبر الملكي الموريتاني، أو قبر «الرومية»، كما يصطلح عليه لدى العامية، المعلم عبارة عن نصب هندسي جميل يعكس الذوق الرفيع للإنسان القديم، ويقع هذا الصرح على رأس ربوة بالساحل يعلو عن سطح البحر بمقدار 261 متر يهتدي به الصيادون في تنقلاتهم البحرية. قال دليلنا السياحي للمنطقة، أن القبر، الذي يشبه إلى حد كبير أهرامات مصر، تعرض إلى القصف من قبل العثمانيين، اعتقادا منهم بوجود كنزا تحت قبته، وهو ما يفسر تآكله وانهيار جزء من الأحجار العملاقة، وتناثرها على الأرض، ناهيك عن تأثره بالعوامل الجيولوجية للأرض، فالزلزال أكمل على بعض الأجزاء وجعلها في وضعية متدهورة. يقول الباحثون، أن القبر لسليني بنت كيلوباترا زوجة يوبا الثاني لكن يبقى المؤرخون في بحث عن جثتها التي لم يعثر عليها لحد الآن، فمن الباب الجنوبي يمكننا ملاحظة الرواق الذي يأخذ شكل دائري وإذا دخلت ستجد بيتين فيه زوج من الأسود على الجدار والبيتين هما قبر سليني لكن لم يعثر لحد الآن على جثتها. بناء القبر يعود حسب دليلنا إلى ما قبل ميلاد عيسى عليه السلام، لذا ما يلاحظ في الإطار البارز الذي يظهر على شكل صليب ليس كذلك، لأن الصليب على شكل جسم الإنسان وهذا الرمز يشبه عملية زائد، وبالتالي تسمية قبر الرومية ما هي إلا تسمية خاطئة مستعملة. الساورة ملتقى حضارات المتوسط... تبوح بسر إنسان ما قبل التاريخ بتصحيح معلوماتنا عن قبر الرومية، تركنا، تيبازة بشواطئها الساحرة ومناظرها الطبيعية الخلابة، وكنا على موعد مع رحلة أخرى ولكن هذه المرة باستعمال وسيلة سفر، تستطيع اختصار بعد المسافات بين منطقة موجودة في الشمال، على ضفاف المتوسط، وأخرى في أعماق الجنوب الكبير، ولكن قبل أن نكمل مسار جولتنا، فضل القائمون على الرحلة أن نتوقف بمطعم لحلو، بقصر المعارض الصنوبر البحري حيث كان ينتظرنا مدير الديوان الوطني للسياحة، وفعلا اسم المحل على مسمى، لا تخرج من المكان إلا وأنت راض على نوعية الخدمات والواجبات المقدمة، التي تعد من بين الأطباق التقليدية العريقة المتميزة بها بلادنا والتي لاقت شهرة واسعة حتى بين سفراء الدول المعتمدين في الجزائر، وتكفي شهاداتهم المعلقة على جدران المطعم دليلا على ذلك... فأمام الكسكس، والشربة والبوراك تسقط المراتب والمناصب ولا يستطيع أي كان مقاومة لذة الأكل الشهي، سيما إن قدم في أواني فخارية تعكس الموروث الحضاري للجزائر. انتهت استراحتنا بسرعة... عاودنا جمع حقائبنا وتوجهنا إلى مطار الجزائر الداخلي فرحلتنا إلى ولاية بشار حيث تنتظرنا المغامرة الثالثة، كانت على الساعة العاشرة ليلا وعلينا أن نكون قبل الموعد بساعتين. بعد ساعة ونصف من التحليق في جو، لا يظهر منه إلا ظلام دامس، تخترقه في بعض الأحيان أضواء شحيحة منبعثة من أجنحة الطائرة، وصلنا إلى مطار بشار... لم نتمكن من رؤية أي شيء أو معلم يدل أننا بصحراء ساشعة، فالليل كان يلف المكان برداء تصعب العين على اختراقه، فمصابيح المدينة كانت برفقة السكان تغطان في نوم عميق، واستسلمنا نحن لنفس المصير بمجرد أن دخلنا مركب واكدة الذي انبهرنا ساعة دخوله، بنمطه المعماري وهندسته الرائعة. أشرقت علينا شمس يوم جديد، ولكن بمدينة بشار، أو عاصمة الساورة هذه المنطقة التي كانت إلى وقت قريب ملتقى لحضارات البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا، ومعبرا نحو السودان، وصارت اليوم تحكي لأبنائها والمارين بها حكايات الإنسان الحجري، وأسطورة بحر الهرجس من خلال شواهد كثيرة بعضها منقوش على ظهر الصخور، وبعضها محفوظ في رفوف متحف مركز البحث العلمي للمناطق الرطبة. في بداية اليوم، لم يشد نظرنا أي شيء، فالمدينة العصرية ظهرت، وكأنها كومة من البنايات الفوضوية فأغلب المساكن غير مكتملة، طغى عليها الخرسانة والإسمنت المسلح، لا تكاد تحتفظ بالنمط المعماري الصحراوي الأصيل، ولا باللون المميز لتربتها، حتى رائحة الشاي غابت عن المقاهي والشوارع وكأن البشاريين بدأوا عهدا جديدا مع القهوة، والنيسكافي وتخلوا عن عادات الأجداد، كادت هذه الصورة تطغى على تفكيري لولا وصولنا إلى منطقة القنادسة التي تبعد عن مقر الولاية ب18 كيلومتر، والتي ما زالت تحتفظ بعبق الماضي، حيث مازالت قصورها القديمة صامدة تجابه متغيرات المناخ، وإهمال الإنسان. تشتهر القنادسة، بالخزانة الزيانية القندوسية وهي فرع من الزاوية تأسست منذ 1098 هجرية على يد الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عبدو الزيان القندوسي المؤسس الأول للطريقة الزيانية، كانت تضم 3 آلاف مخطوط في شتى العلوم في التراجم الحديث التصوف علم الفلك، إلا أن هذه المخطوطات تعرضت إلى التلف والاندثار إبان الاستعمار الفرنسي ولم يبقى منها إلا 200 مخطوط، وسمح ترميم قصر القنادسة سنة 2006 بإعادة بعثها من جديد حيث صارت اليوم ملتقى للمشايخ والعلماء والباحثين، في انتظار استرجاع 700 مخطوط أخذه المستعمر الفرنسي حينما رحل، حيث توجد مساع لاستعادته مثلما أخبرنا رئيس الزاوية مبارك طاهيري. والقنادسة جاءت من كلمة تقندس والتي تعني انزوى في ركنة أو زاوية لطلب العلم، بنيت قصورها بالطين الأحمر والحجر والجير والرمل، وتتميز بكثرة الأقواس والزخرفة المستمدة من النمط المعماري لفاس، وتلمسان... دروبها الضيقة تجعلك تضيع لو دخلتها بمفردك فالبنايات متشابهة لا نوافذ لها والضوء يكاد يدخل الأفنية، بنيت بذلك الشكل لتأمينها من غارات القبائل الأخرى ومنعهم من الدخول إليها بالخيل لحمايتها وثانيا لتلطيف الجو حيث تشعر بالراحة والانتعاش نتيجة الهواء البارد المتمركز في الأفنية والدروب الضيقة. قصور وواحات ساحرة نادرة من قصور القنادسة، شددنا الرحال باتجاه قصور تاغيت... هذه الواحة الساحرة أو جنة الله في الأرض، أو الموقع الفردوسي كما يحلو لسكانها تسميتها، يأسرك جمالها إذا ما اقتربت منها، فكيف إذا قضيت أيام وسط رمالها الذهبية وقصورها القديمة... تخونك كل الكلمات إذا ما أردت مغازلتها أو التعبير عن جمالها فبين جبال رملية تكاد تلامس السماء توازيها أخرى صخرية تقف تاغيت شامخة تطل على خضرة واحة نخيل تمتد على طول وادي زوزفانة... مشهد لن أوفيه حقه من الوصف مهما اجتهدت في اختيار الكلمات. دخلنا تاغيت والساعة تجاوزت منتصف النهار، توقفنا بدار للشباب لتناول وجبة الغداء لنكمل رحلتنا الاستكشافية في منطقة قيل لنا أنها تزخر بآثار الإنسان الحجري وعلى بعد مسافة 18 كيلومتر كنا على موعد مع ثقافة ما قبل التاريخ بالزاوية التحتانية... رسومات تعود إلى 9 آلاف سنة قبل الميلاد، لحيوانات قيل أنها كانت تعيش بالمنطقة منها وحيد القرن، الغزال، دنستها للأسف كتابات حائطية لشباب أرعن يجهل قيمة ما هو منحوت على ظهر الصخور، وتجاهلها الباحثون والمختصون في علم الآثار لأسباب تبقى مجهولة لدى سكان المنطقة مثلما أسر لنا مرشدنا السياحي عبد القادر السهلي. أما القصر القديم لتاغيت والذي يعود إلى 8 قرون، فيقف اليوم وقد هجره أغلب سكانه، غير ان محاولات بعض الشباب بترميم البيوت وتحويلها إلى مضيف للسياح، وقاعات شاي ومحلات بيع المنتوجات التقليدية بدأت تعيد إليه بريقه السابق، ورغم ذلك تحتاج تلك البنايات المبنية بالطين والرمل والتي تعكس عبقرية سكان الصحراء في البناء والتزيين، وتلاحم أهل البوادي في ذلك الزمان إلى المزيد من الاهتمام من طرف السلطات والجهات المعنية فالقصور بحاجة ماسة اليوم إلى ترميم يحفظ معالمها، ويحميها من الاندثار للاستفادة منها للسياحة، وتظهر محاولات هؤلاء الشباب، إمكانية استفادة من القصور التاريخية للأجيال لاحقة، واستغلالها للترويج السياحي، فالقصر إذا ما خرجت من بابه الشمالي واجهك بحر رملي وكثبان تعانق السماء، يتغير لونها كل عشرة دقائق على حسب كمية الضوء المنبعثة من أشعة الشمس، ومن أعلى قمة بها «هموشة» بإمكانك أن تشاهد أروع غروب شمس بين واحات نخيل ووادي زوزفانة وكثبان رملية تنسيك تعب السنين. تركنا قصور تاغيت، ومشهد الغروب الساحر بحثا عن بحر قيل لنا أنه كان موجود ببني عباس، هذه الواحة الرائعة الواقعة على الضفة اليسرى لوادي الساورة، تتميز بمناظر خلابة حيث تطل مدينتها القديمة على العرق الكبير بلونه المائل للاحمرار وواحة تظهر من الأعلى على شكل عقرب يتوسطها القصر القديم الذي هجر ساكنيه عنوة من قبل المستعمر الفرنسي سنة 1957. عرفنا أن البحر مر من هنا، وقد تستغربون كيف للبحر أن يقع في قلب الصحراء، كما استغربنا نحن ولكن حينما تشاهد الأسماك المتحجرة بمنطقة المرحومة، تقتنعون بوجوده فعلا، يسمى الهرجس، أو النيرجس لم يتم الاتفاق على تسميته ولكن اتفق على وجوده قبل ملايين السنين، وإذا ما عرجت على متحف البحث العلمي للمناطق الرطبة، ستزداد قناعة حينما ترى مجموعة الصخور المعدنية، والمتحجرات، والعديد من الطيور المصبرة التي تؤكد وجود حياة بحرية، وبرية غنية ولحظتها تفهم سر العلاقة بين الجبل، الساحل، والصحراء؟