الرئيس تبّون يشرف على مراسم أداء اليمين    اللواء سماعلي قائداً جديداً للقوات البريّة    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    تقليد المنتجات الصيدلانية مِحور ملتقى    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    أكثر من 500 مشاركاً في سباق الدرب 2024    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الملفات التي تمس انشغالات المواطن أولوية    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    "صفعة قانونية وسياسية" للاحتلال المغربي وحلفائه    إحباط إدخال 4 قناطير من الكيف عبر الحدود مع المغرب    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر عاشور فني ل "الأثر": النخبة هي مفتاح الدولة المدنية التي قام الحراك الشعبي من أجلها
نشر في الجزائر نيوز يوم 30 - 09 - 2013

الدكتور عاشور فني أحد الذين يكتبون على بينة من أمرهم، وهو إذ يصدر، إنما يصدر عن معرفة وتأصيل لا يتوفران إلاَ عند صاحب بصيرة وإدراك، من النواحي الاجتماعية والثقافية والفنية والجمالية. وتعد كتاباته إضاءة حقيقية لموضوعات عولجت أحيانا ببعض الاستخفاف، أو تحت تأثير الظرف، دون قراءة النتائج المترتبة عن مواقف قد تحتاج إلى الإحاطة بجذورها ومساراتها وغاياتها. ما يكتبه الدكتور عاشور فني يكتسب قيمة معرفية لا جدال فيها، كما يحيل على شخصية ذات تكوين استثنائي، وهو إضافة إلى قدراته التحليلية العميقة، حاضر باستمرار في القضايا الهامة التي ترتبط بالتحولات ورهانات المستقبل.
دون أن يغفل السياقات والمرجعيات التي تضيء المعنى وملابساته. أستاذ بالجامعة الجزائرية، شاعر ومترجم شارك في عدة نشاطات، كما كان له دورا مهما في بعض السياسات العمومية المتعلقة بالتنمية الاجتماعية واستراتيجية الاتصال لترقية حقوق الطفل، بالتعاون مع بعض الهيئات الحكومية والأهلية وصندوق الأمم المتحدة للطفولة.
جئت إلى القصيدة العمودية من قصيدة التفعيلة عابرا إلى قصيدة النثر، على عكس المسار المألوف. فالحداثة عندي كانت المنطلق وهي الأفق. "عمود الشعر" في بعض قصائدي لا يتجاوز المستوى العروضي. أما الرؤية والتعبير واللغة فلا تخضع لنمطية العمودي. يرتبط الأمر بتكويني العصامي، حيث كانت لي حرية الاختيار فيما أقرأ وفي ما أرى وفي ما أكتب، ولم أخضع لاستبداد أساتذة اللغة. تعمقت قراءاتي التراثية في الشعر وتاريخ الجزائري الثقافي مع تطلعي للحداثة باعتبار ذلك احتياجا ذاتيا للتأصل واكتساب الزاد المعرفي الضروري للتطور، لا باعتباره نكوصا إلى الماضي أو تقوقعا على هوية ماضوية. هويتي هي ما أفتحه من أفق لي ولثقافتي في مسرح الثقافات الحية المتعدد. لم أعتبر الشكل قضية أساسية في الشعرية، بل التجربة الشعرية هي محرك الإبداع. النص ليس كيمياء لفظية بل هو أثر التجربة الحية. أما شكل النص فهو نتيجة نضج التجربة وأهليتها لفرض شكلها على الشاعر والقارئ معا. تعدد أشكال الكتابة عندي هو نتيجة هاجس بحث دؤوب. بحث إبداعي في أشكال الكتابة الشعرية الممكنة وبحث نظري وانشغال معرفي. لم أغلق الأبواب القديمة لكنني حاولت دائما فتح أبواب جديدة. نصوصي مفتوحة على مواقف الحياة وعلى الممكن من الأشكال الكتابية والممكن من اللغات الشعرية: من القصيدة النثرية إلى العمودية إلى قصيدة النثر. لم أستعجل الهجرة إلى شكل جديد حين لم تكن لدي الكفاءة اللازمة لذلك.
حين قادني البحث إلى أبواب تجربة جديدة لم أتردد لحظة. خضت تجربة الهايكو بهاجس إحلال الصورة محل اللفظ: تقليص اللغة إلى حدها الأدنى. هاجس القبض على اللحظة الشعرية في تشكلها خارج اللغة وخارج أطر التعبير. اللحظة الشعرية التي يمكنها أن تنبثق من تجربة أي موقف جمالي في الحياة وتتجسد في قصيدة أو في قصة أو فيلم أو لوحة أو بحة صوت أو حركة قفز من الطابق السابع نحو الطابق الحادي عشر. مطر البارحة صاعدا باتجاه الغيوم. بعض القصائد لن يكتب لها أن تكتب على الإطلاق. تظل صورا خاطفة وكفى. لكن بعض ما كتبت يوضح تطور رؤيتي للشعر وللقصيدة. فالموقف الشعري أوسع من القصيدة. والبحث فيه أهم من البحث عن شكل القصيدة. بعض القصائد تحاول قول لحظة شعرية مرت في الحياة وسجلت أثرها في النص بشكلها الخاص. أشكال الكتابة المعروفة لا تتسع لكل اللحظات الشعرية في الحياة. لذلك ظهرت الفنون والأنواع الأدبية الأخرى على هامش النص الشعري. أجمل الأشعار هي التي لا تكتب أبدا. لأنها تتجاوز كل الأشكال.
كانت اللغة هوسي الأكبر. لكن اللغة أيضا تنمو مع التجربة في الفكر والحياة. نصوصي الشعرية الأولى تنطلق من تراث الحداثة العربية إلى درويش. لكنني حين قرأت الأعمال الكاملة لدرويش في بداية الثمانينيات توقفت عن الكتابة وأعدت ترتيب ثقافتي بهدوء. تعددت قراءاتي النقدية والفلسفية في الوقت الذي اخترت تخصص النظرية الاقتصادية في جامعة الجزائر. توسعت قراءاتي الشعرية إلى اللغة الفرنسية.
أذهلني بول إيلوار. كان دليلي إلى الشعرية خارج الأطر التقليدية: حيث الحياة صورة وحيث الصورة لغة أوسع من اللغة. هناك اكتشفت مصدر الحداثة في القصيدة الغربية: المدرسة التصويرية كانت طريق القصيدة الحديثة الإنجليزية نحو مصدرها الشرقي: قصيدة الهايكو اليابانية. قصيدة الحداثة الفرنسية أخذت طريقا آخر: الانفتاح على الآخر الفكري والجمالي واللغوي الهامشي واليومي. تجاوز الراهن بالعودة إلى المصادر الأصلية للإبداع برؤية أكثر تفتحا: ربط القصيدة بمنابع الجمال في الحياة ذاتها. لم يقيض هذا للقصيدة العربية التي اكتفت بمصدر وحيد أحادي للحداثة. هكذا انطلقت الحداثة العربية في الأربعينيات من مصدر غربي هو نفسه يبحث عن تأصيل. مع موقف نكوصي نحو اللغة الصوفية مجردة من تجربتها الروحية والفكرية الراقية.
تزداد القصيدة الحديثة في اللغات الحديثة قربا من الحياة اليومية ويزداد نموذج القصيدة العربية إيغالا في الانغلاق. يصبح التحدي الأكبر تجاوز النموذج الجاهز بما فيها نموذج الحداثة نفسه. مأزق الحداثة في الشعر العربي أنها تزداد تعقدا مع تطور العالم نحو الانشغال باليومي وبالبسيط. الحداثة في جوهرها رؤية تنزع نحو تجاوز الأشكال الجاهزة لكنها أصبحت في ظل الثقافة العربية نماذج جاهزة تحتاج هي نفسها إلى من يتجاوزها. إنها حداثة تقليدية جدا تلك التي شاعت وأصبحت حجة على الحداثة، لا أفقا لها. تبدأ الحداثة بالاشتغال على الذات والرؤية لتجاوز الراهن إلى ما هو ممكن لا باحتذاء نماذج إبداعية أو نقدية كانت تعتبر فتحا في وقتها لكن تجاوزتها التجربة الشعرية. العقلية التقليدية صنعت "نموذجا" للحداثة ووظفته لمنع التجريب والابتكار والخروج عنه. نموذج يرجع إلى أصل خارج سياق الثقافة العربية التي تنزع نحو التقوقع أكثر بقدر ما يزداد ذلك النموذج تصلبا. هكذا انهار مشروع الحداثة الذي أصبح هامشيا في خليط من المشاريع النكوصية باسم البحث عن "الحداثة" في التراث. من انطلق من ذاته لا يحتاج إلى إثبات ملامح النموذج في تاريخه أو حاضره، بل ينطلق نحو الإبداع بثقة وعن امتلاء بالتجربة الذاتية واقتدار على الإبداع. أصبح للحداثة في الشعر الآن "نماذجها" التقليدية جدا. تحطيم النموذج الجاهز والكتابة خارج النموذج أو حسب نماذج ذاتية متعددة هي انعكاس لموقف إبداعي واع يرفض الارتهان للنموذج الجاهز الذي تقترحه الحداثة المنقوصة. الحداثة التي تكتفي ببعض الملامح الغربية في التراث دون نقد جذري للنموذج الغربي ولا التراثي بل العمل على التوفيق بينهما أو الانتصار "للنموذج" البديل للنموذج التقليدي. تلك عقلية غير حداثية: فرض صنم الحداثة بدلا من صنم التراث، في حين أن المطلوب هو تجاوز الصنمية. تلك هي الحداثة.
الحداثة قضية نقدية خطيرة. ارتبطت في المجتمعات الحديثة بطرح أسئلة الفكر وأسئلة السلطة والحرية الشخصية. الحداثة بالمفهوم المتداول لا تقتصر على الشعر والنصوص الأدبية، بل رؤية للحياة الشخصية والجماعية وطريقة تنظيم للسلطة السياسية وللحياة الفكرية. جوهرها الحرية. وقد دافع عنها أجيال من المفكرين والمبدعين أمام مؤسسات المجتمع التقليدي وانتصرت لأن المجتمع الحديث اعتنق مبادئ الحرية ورفض الوصاية على الفكر. هذه الرؤية الحداثية تحمل معها لغتها وطرائق تعبيرها ورؤاها الجمالية. حدث هذا في المجتمعات الغربية منذ فلسفة الأنوار. تجسدت الحداثة في نظام الحكم الديمقراطي وفي نظام اقتصاد السوق الليبرالي وفي مبادئ حقوق الإنسان، وخاصة حرية التفكير والتعبير التي انتزعتها الشعوب الأوروبية من الملوك المستبدين بدساتير فرضت احترامها على السياسيين المنتخبين على أساس الكفاءة. تلك عظمتها. الحداثة في الشعر الإنجليزي مثلا ليست سابقة للحداثة في الفكر والسياسة والاقتصاد. الحداثة في القصيدة شكلت نهاية العصر الفيكتوري. لكن هذه الحداثة الغربية نسبية من وجهة نظري. فهي مثلا لم تقف ضد الاستعمار واستغلال الشعوب والثقافات الأخرى.
حين تكون الثقافة عاجزة عن طرح أسئلتها الخاصة ورافضة للتنوع في داخلها وتلجأ إلى "استيراد" قضايا مطروحة في ثقافات أخرى فذلك تعميق للأزمة. تلك هي حالة الثقافة العربية التي بدأت مع النهضة بالبحث في ذاتها ثم انتهت إلى البحث عن تصور عن مستقبلها في قضايا مستقاة من الراهن الثقافي الغربي: في الشعر نجد أن الحركة الأدبية اعتنقت مذاهب الشعر الرومانسي والقصيدة الحرة وقصيدة النثر. طرحت كل تلك القضايا انطلاقا مما كان موجودا لدى الآخر. لم يكن سؤال الحداثة منبثقا عن حاجة ذاتية. لن تفيد كل النظريات ولا النماذج النصوصية في إنتاج نص حداثي في ثقافة لم تطرح سؤال الحداثة بشكل صحيح. أما النظرة الانتقائية للتراث ومحاولة بناء انحيازات في الماضي تستجيب لتشنجات الحاضر فقد كشفت عن حدودها، فكريا وإبداعيا، رغم أنها كشفت عن الطاقات التي تختزنها الثقافة العربية بتنوعها الكبير. هذا الذي تسميه المثاقفة الأحادية هو في رأيي نتيجة منطقة للبنية الأحادية التي طبعت الثقافة العربية منذ قرون الانحطاط، ثم أصبحت سمة مميزة للحداثة نفسها. ضيق الأفق ورفض المختلف وإدانة السؤال باعتباره خروجا عن المألوف أو تشويشا على جنة الركود العام. مناقشة النموذج الحداثي خضعت لشيء من ذلك. فالخروج عن النموذج الحداثي المفروض يلاقي نفس مصير الخروج عن النموذج التقليدي: الإدانة. تحفل الصفحات الثقافية في الصحف العربية بما يؤيد ذلك. لقد أصبحت الحداثة نفسها قالبا جاهزا يمكن لأي مبتدئ أن يحتذيه و"ينتج" نصوصا حداثية لا تقل نمطية في حداثتها عن النصوص التقليدية التي انتقدها الحداثيون الأوائل. اللغة نفسها والصور النمطية المتكررة في القصائد والروايات والمقالات النقدية تعتاش من اللغة نفسها التي ولدتها الأزمة وانفصلت عن الواقع نهائيا: واقع الناس وواقع النصوص. لكن السير مع اتجاه التيار الجارف نحو "التقليد الحداثي" فرضته وسائل الإعلام والدوائر المشرفة على نشاط الاتصال التجاري. تكفي كلمات وإشارات منمطة للحصول على قبول عام من جماهير الحداثة الطيبة. هكذا فرضت وسائل الإعلام نماذج جاهزة وأسماء لامعة تمارس سطوة في الساحة الثقافية العربية أصبحت هي نفسها عقبة أمام الحداثة. مما دفع ناقدا مثل عبد الله الغذامي إلى طرح سؤال خطير: هل الحداثة الشعرية العربية حداثة رجعية؟ معلنا نهاية النقد الجمالي ومؤسسا للنقد الثقافي: أي نقد النسق الذي حول الحداثة ذاتها إلى نموذج جاهز بوصفه شكلا من الأشكال المقلدة. هذا داخل الثقافة العربية. وأما على المستوى الخارجي فإن عصر الاتصال فرض قوالب للثقافة العربية لا ينظر إلى "الإبداع" العربي إلا من خلالها. قوالب تشكلها استيهامات الثقافة الغربية التي تدعم تفوقها بما تفرضه من صفات للآخر الثقافي: العنف الاجتماعي والقهر الجنسي والاستبداد السياسي. النصوص التي لا تستجيب للنموذج تشطب من الفهرس الثقافي المتداول. لا تصل إلى الصحف الكبرى ولا إلى الملتقيات واللقاءات الثقافية ولا إلى الترجمة ولا إلى دور النشر العالمية. يكون على النص الإبداعي واجب احتذاء النموذج المطلوب ليمكن له أن يمر إلى السوق المسيجة بأرمادة تسويقية للأسماء اللامعة المتطابقة مع الاحتياجات العميقة للقارئ الغربي: البحث عن الغرابة. وهكذا بقدر ما يزداد "نموذج" الحداثة غربة في السوق العربية يزداد "النموذج" المسوق في الخارج غرابة عن واقع الثقافة.
حين ننتقل إلى الحديث عن واقع الثقافة في الجزائر تظهر المشكلة أعمق بالنسبة للنصوص الشعرية الجزائرية. فقد انطلقت من اغتراب مزدوج: اغتراب الحاضر الشعري العربي العام واغتراب عن الراهن الثقافي الجزائري محاولة الاستعاضة عنه بتاريخ ثقافي عائم بين القصيدة الجاهلية ونمط قصيدة التفعيلة أو النثرية. في غياب فضاءات ملائمة في الجزائر أصبحت وجهة النصوص الجزائرية الساحات المشرقية بحثا عن الشرعية في بلد الدعوة للحداثة أو الدفاع عن التقليد. يصعب أن تعثر في بعض النصوص على ارتباط بالأرض أو بالمخيال أو بالإرث الثقافي المتراكم عبر السنين. اغتراب صاحب النص عن تربته الثقافية واغتراب "النموذج" المستورد من المشرق عادة. الدارجة المشرقية تغزو النصوص السردية والقصائد الشعرية ومقالات النقد. أستثني من يشتغلون على النص بوعي ثقافي يحمل نكهة الثقافة الجزائرية العميقة عاكفين على ذواتهم وعلى نصوصهم بخبرة وصبر واقتدار وبدأب. هذه النماذج لا تجد المساحة الكافية في وسائل الإعلام لفرادتها وبعدها عن الإسفاف. أسماء كبيرة فرضت نفسها في الفلسفة والفكر والشعر والرواية لكنها بنوع من الرفض للنموذج الفكري الثقافي الجزائري الإبداعي المتميز في الفلسفة والفكر والفن والشعر. لا بد من نموذج معوق بملامح مشوهة، يكون مقبولا في السوق العربية أو الغربية لكي يتم قبوله تاليا في الجزائر، بشروط عادة.
من هنا تبدأ تلك اللعبة العبثية: البحث عن منفذ في الخارج لفرض النموذج والاسم الذي يحمله في الداخل باعتبار أنه حصل على شهادة النجاح من "هناك". يمكن أن يكون هذا ال "هناك" في المشرق أو الغرب. ما قامت به في السابق المهرجانات الرسمية والصفحات الأدبية في الصحف من انتقاء للأسماء والنماذج "الحداثية" المقبولة تقوم به الآن بعض الجمعيات ودور النشر في ظل تدفق أموال الدعم التي تغدقها الوزارة على الناشرين غير المحترفين. منهم شعراء وصحافيون وكتاب أصبحوا ناشرين لقربهم من الوزارة صاروا يحكمون ذائقتهم في اختيار النماذج التي يسوقونها بأموال الدعم العمومي.
لم يتغير وضع الكتاب والشعراء كثيرا رغم ظهور طلب غزير يقف وراءه قارئ ذكي نبيه ومميز متعطش لقراءة النص الجزائري الذي يعبر عن طموحه الجمالي. لكن غالبا ما يقوم هؤلاء الناشرون بفرض النصوص التي ينتقونها، مع تهميش المؤلفين أحيانا. فبعض الشعراء نشرت كتبهم وسوقت في المعارض المختلفة ولم يحصلوا على نسخ منها ولا على حقوقهم. لا يختلف عن ذلك سلوك أرباب الجمعيات والإدارات الثقافية المشرفة على الأنشطة الثقافية في غياب المثقفين. فهذا الفيض من النصوص "الحداثية" يخفي وراءه سلوكا متخلفا يبدأ بالاحتيال على الشاعر، ثم على المال العام وعلى الساحة الثقافية كلها لأن معظم دعاة هذه "الحداثة" في السوق الجزائرية تحولوا بالصدفة إلى تجار كتب وبعضهم متورط بقضايا النصب والاحتيال على الشعراء والمؤلفين وعلى المؤسسات. هكذا يلتقي غياب الفكر الحداثي بالخواء الإبداعي والفراغ القانوني بغياب الأخلاق المهنية في النشر. ويتجسد ذلك في نوع من العدمية التي تطرح قضايا الحداثة المتطرفة في محيط من غطرسة التخلف الغاشم المتعدد الأوجه.
الملفت في التحولات التي جرت في البلدان العربية أنها انبثقت من أوضاع اجتماعية منفجرة ولم تكن نتيجة "وعي ثوري". كانت هذه التحولات نتيجة تدهور الأوضاع الاجتماعية ولم تكن نتيجة للتوعية والتطور الثقافي الذي كان يفترض أن تقوم به النخبة، دعوة إلى التغيير وتكريس الحريات والثورة على الاستبداد السياسي والحيف الاجتماعي. وقد لاحظنا انحياز المثقفين والشعراء الحداثيين للعمل في الميادان، كما وقع في ميدان التحرير (ناصر فرغلي مثلا)، وفي تونس (المنصف المزغني وأولاد أحمد)، أو في اليمن (كرمان توكل). لكن فئة أخرى اتجهت نحو استغلال الثورة للاستحواذ على الأحداث وتحويلها لصالح الفئات المستتبة في الحكم، وهو عمل دعائي قام به عدد من الإعلاميين والشعراء المرتبطين بالمؤسسات الرسمية أو بالمؤسسات المالية في الخليج العربي خاصة. جهات تشرف على تحصين الجهل والتخلف وتدعيمه وتزويقه في بلادها توظف جيوشا من الإعلاميين والأدباء من أجل الدعوة لتحريك الأوضاع لتمكينها من ترتيب الأمور لصالح القوى التي تتحالف معها لدعم عروشها مدعية تدعيم الثورات بتمويل عودة الاستعمار إلى بلاد تحررت بتكاليف عالية. هذا جزء من الصراع الفكري حول معنى الثورة والديمقراطية وحدود فكرة الوطن. لا يمكن للحداثة أن تنمو في مناخ استبداد القبيلة والطائفة والحكم الفردي. لقد عبرت عن فكرتي بوضوح في العبارة التي أصبحت الآن شائعة: الاستبداد الداخلي حليف الاستعمار الخارجي. ونظام الدولة الوطنية أفضل من نظام الحكم العائلي، ولو كانت الأولى مستبدة والثانية "رحيمة". المؤسف أن كثيرا من الأسماء الثقافية قد أصبحوا بمثابة شيوخ خليجيين في الثقافة الجزائرية: يسمعون الجملة نفسها ويفهمون نصف الفكرة ويبادرون بسرعة إلى الشتيمة، ثم ينتقلون إلى حديث المال والجواري. هكذا ساهموا بسرعة في جر الحراك الشعبي العفوي إلى تدمير ذاتي بأسلحة الناتو بتهليل شيوخ الفتوى وبمباركة كثير من "المثقفين" الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء الالتفات إلى تحول "الربيع العربي" إلى "خريف إسلامي"، ثم بسرعة وقفوا ضد شرعية الثورة منتصرين للشرعية الانتخابية. على مرأى ومسمع الرأي العام استولت قوى الثورة المضادة على الأحداث وفرضت الأمر الواقع بالأداة الديمقراطية: الانتخابات. حتى البلدان الغربية رأت في ذلك وضعا ملائما. هذه خيبة كبرى في الثقافة السياسية والسياسات الثقافية معا. وفي الغرب السياسي كله.
وها هي الأمور تعود إلى وضعها العادي: صحوة القوى الشعبية والعودة إلى العمل على استكمال الأهداف الاجتماعية والسياسية التي قامت من أجلها هذه التحركات الشعبية: بناء دولة مدنية لا دينية ولا عسكرية. دولة الحريات والكفاءة والعلم والإبداع. نرجو أن يكون موقف النخبة أكثر توازنا. هناك فرصة لعودة المثقفين والكتاب إلى الارتباط بالقوى الشعبية بدلا من التصاقها بالقوى السياسية ذات الألوان الأيديولوجية البارزة. النخبة هي مفتاح الدولة المدنية التي قام الحراك الشعبي من أجلها. دولة المستقبل: دولة العقل والعدل والعلم والعمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.