بغض النظر عن الإشكال الكبير الذي تطرحه كلمة (الحداثة) من مغمضات دلالية أنتجت العديد من التخطيئات التي غطّت عموما على مفهومها الأصلي نظرا لما أنتجته هذه التخطيئات من تداخلات في مستوى استقبالها من طرف غير المنتجين لها، بين الحداثة (Modernité) الدالة على حالة الاندراج في ما تقدمه اللحظة الآنية من منظورات فكرية وسياسية واجتماعية تنعكس على المعاش اليومي للإنسان الموصوف في هذه الحالة بالحديث (Moderne)، وبين (المودرنيزم) (Modernisme) مترجمةً في هذه الحالة إلى (الحداثوية) على اعتبار ترجمة (الإيزمات) (ismes) إلى (ويّات) في اللغة العربية للتدليل على تمركز المفهوم تاريخيا وإيديولوجيا، والدّالة في هذه الحالة على مفهوم فلسفيّ واضح في دلالاته وفي علاماته وفي تمركز رؤية مُنتِجيه في تاريخية الممارسة الفلسفية الغربية، وفي مَأْسَسَةِ مفهومه ضمن تطوّر الخطاب الفلسفي الغربي بالنظر إلى ما أنتجه الغرب من رؤية تنعكس مباشرة على الواقع فتغيّره وتعيد إنتاج أبعاد جديدة له مرتبطة بهذا الواقع. وبغض النظر كذلك عمّا يمكن أن يدلّ عليه هذان المفهومان من سيرورة زمنية غير منقطعة للحداثة، على اعتبار أنها ضد القدم في زمنية مفهوميهما، ومن انتماء مذهبيّ للحداثوية، باعتبارها مذهبا فلسفيا ساد في فترة تاريخية محددة وانتهت مدّة صلاحيته بانتهاء دواعي قيامها وصيرورتها فلسفيا وجماليا، فإن ما يمكن أن يثير انتباه القارئ للخطاب الثقافي لدى العديد من المثقفين الجزائريين وهم يتحدثون عن الحداثة، أو يدْعون إليها، أو ينافحون عن مبادئها، هو وجود شيء ما من هذا التداخل بين المفهومين المُخطِّئَيْن اللذين يندرجان شيئا فشيئا، بحكم الاستعمال المكرر وبحكم الاستسهال، في عمق بنية خطاباتهم الثقافية إبداعا ونقدا فتتأصل بموجب هذا الاستعمال صورة مفهوميةٌ تؤدي بالعديد من خطابات هؤلاء المثقفين إلى استنباط أحكام استعجالية، وفق ما تمليه ضرورة الحديث أو الدفاع أو المنافحة، حول واقع الحياة الثقافية للجزائر الآنية، أو حول حراك الحياة الاجتماعية للجزائر التسعينية، أو حول واقع الحياة التاريخية لجزائر ماسينيسا أو سانت أوغستين أو طارق بن زياد. لا شك أن أي ممارسة فكرية وثقافية جديرة بتأصيل المنحى المفهوميّ الصحيح في بنية الخطاب الثقافي الجزائري المعاصر، حرِيٌّ بها أن تتعرض، وفق وجهة نظرها ووفق قناعاتها، إلى ما تراه مناسبا لخدمة رؤيتها التي تتحجج بها وتنافح عنها. ولا شك كذلك في أن أيّ عمل ثقافي يطمح للدخول في المنجز الفكري للخطاب الثقافي الجزائري المعاصر، من المفروض أن يراعي استحضار النظرة الشاملة التي تتحرى الرؤية العقلانية غير الاقصائية الكفيلة بضمان تصور حِكْمِيٍّ منفتحٍ على مجمل ما يمكن أن تحمله صورة الذات الجمعية من تناقضات تاريخية وسياسية واجتماعية هي من الأهمية بما يجعل تغييبها كليا أو جزئيا مؤثرا على نتيجة التصور الذي تريد هذه الخطابات أن ترسخه في هذا المنجز الفكري وتضمن الحد الأدنى من الموضوعية التي تؤثر على منطقية الأحكام وعدم انحيازها. وبناء عليه، فهل يمكن اعتبار ما يكتبه هؤلاء المثقفون الجزائريون حول الحداثة مفهوما وواقعا منطلِقا من صميم الفهم العميق للمنجز الحداثي الغربي كما أنتجه الفكر الغربي وكما تحقق على مستوى الأفكار وفي أرض الواقع أثناء فترة الانتقال الغربي من قروسطية القرون الوسطى وظلاميتها إلى عقلانية القرن الثامن عشر وتنويريته؟ وهل يحمل الخطاب الثقافي الحداثي، كما يدعو له المثقف الجزائري، في طيات بنياته المعرفية كلّ ما يمكن أن يساعده على تأصيل النظرة العقلانية الشاملة التي تراعي استحضار تناقضات الرؤية الفكرية والثقافية في المجتمع الجزائري وفي بنية خطابه الحداثي؟ أسئلةٌ تبدو في صميم المساءلة الجوهرية التي تحيل إلى مُجزّآت إجابة تعكس حالة الذات الثقافية الجزائرية المتشظية وهي تلّح إلحاحا غريبا على وصف نفسها بالحداثية. ويبدو هذا التوصيف نابعا من مخزونات ما يَكْبُتَهَ المثقف الجزائري بمختلف اتجاهاته الفكرية والإيديولوجية من تصوّرات ندّيّة يكون المثقف مضطرا من خلالها إلى توصيف نفسه -أي تعريفها-، لا انطلاقا من الذات في صورتها الأنانية أو صورتها الجمعية، ولكن انطلاقا ممّا يتصور أنه ضدّه. ويصبح (التعريف بالضد) عبارة عن ممارسة وطنية عامة على عموم المثقفين الحاملين لهموم المسألة الثقافية في عمق ما تطرحه من إكراهات حول الهواجس المنطلقة من بقايا إشكالات التاريخ واهتزاز الحاضر وغموض ما يتصورونه من غموض حول المستقبل القريب أو البعيد. ولا شك أن التعريف بالضد لا ينطلق مما تحبه (الأنا) لنفسها على الأقل، ولكن مما تكرهه في (الآخر)، مما قد يحيل إلى غياب (أنا جمعية) بإمكانها أن تعي فظاعة المفارقة التي يحملها الخطاب الثقافي الحداثي عن الذات/ الأنا وكأنها ذات/أخرى، ومن ثمة، غياب إمكانية البحث عن مخرج جمعيّ يتجاوز أنانية التصوّر المتشنج الذي يحمله المثقف الجزائري عن نفسه الأخرى التي هي ليست في نهاية الأمر غير نفسه الأنانية إذا ما حاول أن يُقلب الأمر على كلّ أوجهه الظاهرة والخفية. هل يكفي إذَنْ، لكي نكون حداثيين، أن نقول (نحن العكس)؟ أي لسنا مع ما لا يتوافق مع النظرة الحداثية كما أنجزها الإنسان الغربي في تشعب زوايا أطروحات مشروعه الفلسفي، وفي تعقد مسارات تحقق هذا المشروع، وفي تحوّله فيما بعد، وبعد لأْيٍ علميٍّ وتجريبيٍّ مُضْنٍ، إلى حقيقة مادية تؤثر في الفرد وفي المجتمع وتغيّر بنياته القديمة إلى واقع جديد. سيكون الأمر سهلا جدا عندئذ. وسنصف أنفسنا جميعا بالحداثيّين. وسنمارس جميعا (الحداثة بالفم). وماذا لو أن الأمر لا يعدو كونه متعلقا فقط بالحب وبالكراهية، ولا يتعدّاهما إلى عمق المساءلة الحداثية وعمق ما يكتنف دواخل المثقف الجزائري، وهو يحاول سبر أغوارها، من توجسات مرجعية غير مُدرَكَة الأبعاد؟ وهل يمكننا القول عندها إن المسألة برمّتها لا تتعدى، في تصور المثقف الجزائري، موقفا إفضائيا عاطفيّا يحمل بعدا رومانسيا في صياغة مفهومه الخاص للحداثة، وفي محاولة الدفاع عنه بما يكره لا بما يحب؟ وهل الحداثة حبّ وكراهية أصلا، وليست منحى وجوديا عقلانيّا منفتحا على العالم وقادرا، بحكم وعيه بالشرط التاريخي، على استيعاب التناقضات وتيسير المرور المتنور في ظلماء ما يقدّمه التاريخ من دهاليز سياسية واجتماعية هي عوارض ومنغصات وممهلات ضرورية بالنسبة للمثقف من أجل فهم ذاته ومرحلته وعصره؟ لا تعكس العديد من الكتابات الثقافية الموصوفة بالحداثية، سواء أكانت فكرية أو نقدية أو إبداعية، وكما يحققها العديد من المثقفين الجزائريين في واقع الكتابة الراهن، ما يمكن أن يُطمئِن القارئ النموذجي بوجود رؤية مؤسسة في طرحها للحداثة كما يدافعون عنها في هذه الكتابات. كما لا يمكن أن يغيب عن القارئ الواعي حدّة التمركز الموقفي في استغلال الأطروحات الحداثية، لا بوصف هذا التمركز أداة إقناع معرفية تتحرى الحقيقة من خلال ممارسة الحجاج العقلاني الهادئ ، ولكن بوصفه ممارسة لفظية صاخبة تتزلج بسرعة فائقة فوق فراش وثير من المصطلحات والتعابير المستعارة من موجة المتن الحداثي والمستعملة بطرق عشوائية للبرهنة على اندراج الخطاب الثقافي الجزائري الراهن، وكما يمارسه العديد من هؤلاء المثقفين، في عمق المنظور الفلسفي الغربي الذي أنتج هذه المصطلحات بعد أن بلور مفاهيمها الفلسفية. وقد لا تخرج هذه الكتابات، وبعد تمحيص وتدقيق، عمّا يمكن أن يحمله (التعريف بالضد) من مسارب تخييلية تتولد عنها مجمل الأفكار التي يتشكل منها موقفهم المبدئي، والتي أصبحت مستشرية في أوصال هذه الكتابات، لا يجد أصحابها في تعريف هذا الموقف الموصوف بالفلسفي غير هذه الصورة التي يحملونها عن (الضدّ) ليجعلوه سببا في كل ما ينخر المجتمع الذي يعيشون فيه من عيوب. ولعله من هنا، لا يجد القارئ الواعي صعوبة كبيرة في إحصاء سقطات هذه الكتابات في سهولة التوصيف، وسهولة التحديد، وسهولة التوجيه، وسهولة التمركز، انطلاقا فقط مما يمكن أن تحمله صورة المثقف الحداثي من انعكاس للضدّ في بنية التعريف الذي يتبناه، والذي يلح في كل الحالات على أن يعرّف به نفسه، وكأن الضدّ ليس دافعاً رمزيا وواقعيا لتحديد مساحات الذات فحسب، وإنما هو المؤسس الوحيد لبنية الذات والمكوّن الأوحد لمفهومها الحداثي، من ثمّة فإن (الضد) يصبح المُشَكِّلَ الحقيقي لما يجب أن يكون عليه المثقف الحداثي حصرا وتحديدا، وبالتالي فهو الصورة المعكوسة لما يجب أن تكون عليه الحداثة أصلا، لا في تمظهراتها الحقيقية في حياة المثقف وفي واقعه فحسب، ولكن كذلك في وجوب ما يحمله هذا المثقف من توجسات مبررة تاريخيا نظرا لمأساوية التجربة الجزائرية في مرحلة التسعينيات خاصة، وتوغلها الدراماتيكي في تقديم صورة الحداثة المأسورة مفهوماً وواقعاً بين فكي كلابة صارخة في تطرفها وتضييقها على الأفق المعرفي، والتي لا يغيب عن هذا المثقف تسميتها تحديدا، ووضع علاماتها منهجا، وتوثيق أحداثها تاريخا، في المدونة الثقافية الجزائرية. حتى لكأنّ هذا المثقف، ولكثرة إلحاحه على البيات السرمدي في الصورة الراسخة، يريد أن يؤسس لجمالية الوقوف الندّي في وجه الصورة المضادة وكأنها صورة معكوسة لما يجب أن يتفاداه لاحقا في تعاملاته الثقافية، من دون قدرته على طرح المساءلات الجوهرية المتعلقة بمصيره الثقافي بالنظر إلى مستويين اثنين: - مستوى اتخاذه لصورة (الضدّ) علامة ثابتة وفارقة في الوقت نفسه، في تحديد معالم صورته أولا، وكأن (الضدّ) هو مرآة عاكسة لتشوّهاته. - ومستوى اتخاذه للأيقونات الحداثية الغربية علامةً مسجّلة حصريا باسمه هو دون غيره، وخاصة دون (الضد)، وكأن الغرب الذي أنتج الحداثة قد أنتجها خصيصا له وبطلب استعجالي منه، يستطيع بها ومن خلالها استيراد ما يلزمه من مؤونة اصطلاحية وألسنية شكلية داعمة استيرادا مُطَيْوَنًا، ويستعملها طاقية إخفاء لعبور مناطق الحزن التي يتعرض لها عند مواجهة المفاهيم الحدَاثية الغربية له مواجهة حقيقية أثناء اصطدامه الواقعي أو النظري بها. وبناء على هذا الاستعمال المصلحي، فإن الكتابات الثقافية الموصوفة بالحداثية تبدو أمام واقعين اثنين متناقضين يعكسان تصرفات كاتبيها وممارساتهم الثقافية. فبقدر ما تبدو هذه الكتابات عنيفة وقوية وواثقة ومتعصبة في الوقوف في وجه (الضد)، بقدر ما تبدو مسالمة وضعيفة ومترددة ومطواعة في تعاملها مع المرجعية الحداثية الغربية ومع روادها. ولعلها منطقة الحرن نفسها التي يفضلُ العديدُ من هؤلاء المثقفين أن يمكثوا فيها من خلال عدم قدرتهم على استيعاب المُنتج الحداثي كما تنتجه المرجعيات الغربية التي تواجهه بمستويات عالية من التحدي الذي يخلخل بنياتهم المعرفية الهشّة، ويكشف عن الصعوبة التي يلاقيها هذا المثقف عموما في أَقْلَمَةِ فهمه الشخصي للحداثة - كما يلحّ على فهمها وعلى تصورها- مع الواقع المرير الذي يعيشه بكل تناقضاته، والذي يتخذه مجالا تطبيقيا لإفراغ شحنات ما تنتجه هذه الصعوبة من تشنجات تبدو ظاهرة في شكل إكراهات تيمية مفروضة عليه فرضا من أجل تجديد الصورة التي يستمدّ دقّة (بيكسالاتها) من حدّة ما يُنتِجُهُ من خطاب (ضد ضد حداثيّ)، وكأنه يواجه واقع المجتمع المتخلف الذي يعيش فيه، لا بخطاب حداثيّ كما أنتجته المرجعية الغربية مع محاولة أَقْلَمَتِهِ مع واقع هذا المجتمع، ولكن بخطاب (ضد ضد حداثيّ) ينمّ عن حالة لا هي بالحداثية الحقيقية، ولا هي بالموقف الساعي إلى فهم هذه الحداثة فهما متأصلا في الذات ومتطلبات ما تفرضه عليه من نداءات داخلية يواجهها بصمم معرفي متناه، متجاوزا عيوبها الجوهرية التي يمليها - في نظره- ما تحمله (ضد الحداثة) من معوقات تقف حجر عثرة في طريق تأصيله للكيان الحداثي، رؤية وواقعا ملموسا، من أجل الخروج من سجن الحداثة المأسورة داخل ثنائية الذات المنقسمة وهي تتخذ من نصفها الآخر ندًّا مُزمِناً لها، وتحوّله إلى مجرّد ناقل لداء حداثة مزورة ومشوهة. ولعل هذا التصور المشوّه للحداثة هو الذي يلاحظه القارئ للكتابات الثقافية للمثقفين الجزائريين، كما يلاحظ إصرارهم الكبير على إنتاج صورة نمطية مملّة، لكثرة تكرارها، تعكس حجم السعة التي يحملها هذا المثقف عن الذات، وعن الضد، وعن الآخر، وعن فاعلية الحراك الذي بإمكانه أن ينجم عن الاصطدام الضروري بين هذه العناصر. وهو تصوّرٌ لا يخرج في عموم أطروحاته الفلسفية، هل هي موجودة فعلا؟ أو النقدية أو الأدبية أو في الصورة الحميمية التي تعكسها مواقف هؤلاء المثقفين في ما يعبّرون به عن ذواتهم الثقافية في المنتديات الالكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، حيث تأخذ تعرية المثقف لمواقفه والتعبير عنها بطريقة واضحة طابعا عنيفا وساخنا يعكس مقدار ما يحمله هذا المثقف من مكبوتات لا تجد الطريق العقلانية في التفريج عمّا تحتويه من صورة مشوّهة وبريئة في عدائها (للضد) لمجرد كونه ضد الحداثة وضد ما يتصوره هذا المثقف من مشروع حداثيّ تنوء بحمله الجبال ولكنه يحمله عبئا وجوديا ولا ينتظر إلا اختفاء (الضد) الذي يقف في طريقه لكي يحققه على أرض المجتمع المتخلّف. قد يكون الضد رؤية دوغمائية مغلقة أو تصورا سياسيا مفروضا، أو مشروعا تنمويا لا يجد فيه ضالته، أو مخطوطا معرفيّا عُرفيا لا يجد نسخته الورقية من أجل تحقيقها. كما قد يكون (الضد) ممارسة سياسية متعفنة، أو تكدّسا بشريّا غير متمدن، أو نزوةً تقليدية تسبب عسر الهضم، أو تسلّطا نظريّا قابعا في سلفوية الممارسة الطقوسية، أو غير ذلك من الحالات التوصيفية التي تعكس انسراب (الضد) في كل ما لا يحبه المثقف المنتج للخطابات الثقافية الموصوفة بالحداثية. كما قد تتحقق ثنائية الصراع بين الأنا والآخر في ما يمكن أن يخزنه النص الأدبي، الروائي خاصة ولكن الشعريّ كذلك، من صورة واضحة عمّا يحمله هذا المثقف عن الحداثة كما يفهمها وعمّن يعيق تحقّق هذه الحداثة على مستوى النص الأدبي، فتتجلّى صورة البطل الحداثي (الأنا) ممثلا في الذات الفردية التي تبحث عن صورتها في الصورة المناقضة التي يحملها البطل المضاد، أي (الضد) الذي يلعب دور الشّاحن السّاذج لحركية السرد الرتيبة لكثرة ما يحمله من طاقات معطلّة، من خلال ملئه للفراغات المعرفية للبطل /المثقف/ المنتصر دائما، إما واقعيا أو رمزيا على الصورة المضادة السلبية المتخلفة المعقدة كما يلح على تصويرها دائما، كأنْ ليسَ هناك من مخرجٍ إبداعيّ أو فكري أو جماليّ لتأصيل الذات المثقفة في راهنية الفعل الحداثي وفي معاصرتها لما ينتجه الغرب في مساره المتواصل، غير ما تحمله هذه الصورة المكرّرة في النص الأدبي، والروائي خاصة، والتي فقدت حدّتها وفاعلية حضور تيمتها، لا لنفاد ما تحمله من قيم إبداعية حقيقية تبقى في نظرنا غير مستغلة بطريقة إبداعية عميقة إلى الآن، ولكن لنمطية طريقة الاستعمال وسذاجة التوظيف الفكري والإيديولوجي وحتى الجمالي لهذه التيمات، والذي انعكس في نهاية الأمر على مستوى النصوص الإبداعية بطريقة سلبية.غير أنه يجب الاعتراف بأن نمطية مكوث الكتابات الثقافية الموصوفة بالحداثية في البيت الذي يبنيه المثقف الجزائري للضدّ، إنما يعكس نمطية أخرى أكثر عمقا في البنية التكوينية للمثقف الموصوف بالحداثيّ- وهو في هذه الحالة يشترك مع المثقف (الضد)، وهي عدم تمكّنه، ربما، من تجاوز هذه الصورة (صورة الضد التي صنعها بنفسه)، نظرا لعدم قدرته على اقتراح بديل مرجعيّ لها يراعي متطلّبات ما يقدّمه المجتمع الجزائري من حراك مستمرّ نابع من قدرته الطبيعية المستمدة من مناعته التاريخية التي ينكرها كثير من المثقفين، على تجاوز كلّ الإكراهات، ومن ضمنها خاصة إكراهات المثقفين أولا، بما يتيح له التعامل بما لديه من إمكانات واقعية، مع الحداثة الحقيقية، لا بوصفها هاجسا نديّا لحزنِ النصف الآخر للذات المعطّلة، ولكن لرغبة معرفية ملحّة وضرورية في تصويب مسارات المثقف في اتجاه أكثر عقلانية وأكثر انفتاحا على مغمضات المرحلة التاريخية التي يقطعها، مما يمكن أن يشفع له الدخول في ممارسة حداثية حقيقية. لقد استطاع المجتمع الجزائري الموصوف ب (المتخلف) من طرف العديد من المثقفين الجزائريين الآن وفي الماضي القريب، بل وفي أشدّ اللحظات التي كان فيها هذا المجتمع بحاجة ماسّة إلى هؤلاء المثقفين لكي ينيروا له الطريق -حتى أن بعضهم بحث عنه في مزابل التاريخ ولم يجده، وبعضهم الآخر أخطأ فيه، والبعض الثالث اعتبره مجرد (غاشي)-، أن يكون أكثر عمقا في فهمه للحداثة وأكثر استيعابا لأبعادها وهو يعبُر مرحلة حساسة وحرجة من تاريخه المعاصر، فأنتج مصطلحات غاية في الدقة لم يستطع هؤلاء المثقفون أن ينتجوها نظرا لما يفصلهم عنه من هوّة واقعية، فأطلق هذا المجتمع (المتخلّف) مفهوم (الإنسان المُهْيْكَلُ) للتعبير عن حالة التردّي التي بلغها المجتمع الجزائري وهو يخرج منهوك القوى ومخرّب العزيمة من تجربة استيراد حداثة اشتراكية قسرية جمّعته بطريقة عشوائية في غيتوهات (الخولكوزات) المزيفة، فلم تراع أدنى الظروف التاريخية والاجتماعية التي تحيط بوجود الفرد وتؤسس لواقعه، ثم باعته بعد إفلاس المشروع إلى الذئب الليبيرالي المتوحش ليعيد (هيكلته) بطريقة أبشع من التحديث القسري الذي خضع له في السبعينيات من القرن الماضي. ثم سرعان ما أطلق هذا المجتمع مفهوم (المنتوج المُطَيْوَن) للتعبير عن حالة الزيف المعمّم التي طالت حالة مجتمع ما بعد الاشتراكية في تفسخ الذات وانحلال القيم وسيادة البضاعة المزيفة بدل البضاعة الحقيقية الأصيلة بوصفهما قيمتين بدأ يفتقدهما الإنسان الجزائري في ظل غياب التحديدات الفكرية المعرفية الآخذة بعين الاعتبار مجموع المعالم التي تساعده على عبور منطقة الحزن التي وضعه فيها السياسيون المتثيقفون والمثقفون المتسيِّسون طيلة مرحلة مرور ذاته الجمعية بالتاريخ الذي تتحمّل نُخَبُهُ المتنوّرة مسؤوليةَ ما حدث له نظرا لمشاركتها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في صياغة مشروع الدولة الوطنية المستقلّة صياغة ذاتية لم تعط الاعتبار بما فيه الكفاية للانفتاح على جميع مكونات الذات الجمعية الجزائرية، الشيء الذي سبّب بطريقة أو بأخرى إنتاج نوع من (المثقف المُهيكل)، وإنتاج ما يناسبه ممّا يكمن استعارته من عبقرية ما تبدعه الذات الجمعية ب (الحداثة المطَيْوَنَة). فهل الحداثة في مفهومها العميق، وكما حققها الغرب في رحلته بحثه عن الذات وليس عن الضد، غير إنسان حقيقي ومنتوج أصيل؟