الحلقة الأخيرة فرنسوا جاز تلقّى أيضا صفعة لن ينساها طول عمره من طرف المقدم بلعزوق عبدالعالي الذي عرض عليه نشر كتاب يتهجم فيه على المؤسسة العسكرية. ولما قرأ ما كتبه السيد بلعزوق ولم يجد ما يشفي غليله طلب منه مراجعة المحتوى من طرف إحدى مساعداته وهي سليمة ملاح، الفرنسية من أصل جزائري ولديها سوابق مشبوهة. * الضابط الذي فرّ من الجيش الجزائري لقناعاته الشخصية وليس للإرتماء في أحضان أشباه الرجال، لاحظ أن المراجعة المقصودة ماهي إلا إضافة فقرات لا تمتّ بأي صلة على الإطلاق بالحقيقة، بل أنها سعت إلى تحوير وتحويل النص الذي كتبه إلى مجرّد إشاعات واهية وأكاذيب تضرب مصداقية صاحب الكتاب عرض الحائط وتهوي بها إلى أسفل السافلين. ولكن الأهم بالنسبة لفرنسوا جاز ليس تزوير الحقائق وفبركة الأحداث والتجنّي على الأبرياء والمتاجرة بدماء الضحايا. فهذا يعتبر جزءا ثانويا بالنسبة لشغله المملى عليه. فهو كان يعتقد بربطه علاقة مع المقدم عبد العالي بلعزوق أنه وضع يده على كنز ثمين يتباهى به أمام مسؤوليه في المخابرات الفرنسية. فأثناء لقاءاته مع بلعزوق كان يحاول استدراجه في مسائل بعيدة عن موضوع الكتاب، إذ كانت تتعلق بنوعية تسليح الجيش الجزائري ومواقع أجهزة الرادار والدفاع الجوي وتمركز القوات العسكرية على الحدود الغربية وغيرها من الأسئلة. وكم كانت كبيرة خيبة الناشر المزيف. فلم يكن يتصور أنه وقع على رجل ضحّى بمستقبله ليس لسواد عيونه وإرضاء لعصابته ولكن حبا في الجزائر التي يضعها فوق كل اعتبار، مهما كانت اختلافاته مع قادته العسكريين ومع النظام الجزائري، مثله مثل الكثيرين الذين وجهوا انتقاداتهم للنظام غيْرة على البلاد وليس نكاية فيها ولا انتقاما منها ولا لتصفية الحسابات مع أحد. ولم يكن له ماضي أسود في الجزائر حتى يرتمي في أحضان حثالات مثل التي استغلها فرنسوا جاز وبعدما أخذ منها ما أراد حولها إلى مجرد ممسحة أرضية لقدميه . ولم يكتف المقدم بلعزوق بصفع فرنسوا جاز وجماعته برفضه الانصياع له، بل تابعه قضائيا ونال منه ما أراد، لأن الناشر لم يحترم بنود العقد المبرم بينهما. وكانت هزيمة أخرى تلقاها فرنسوا جاز بعد تلك التي كبّدته إيّاها أنا شخصيا لما قاضيت أحد خدمه ويتعلق الأمر بالصحافي "جون باتيست ريفوار" الذي أعدّ شريطا وثائقيا يتهم فيه جهاز الأمن الجزائري بالتورّط في تفجيرات باريس عام 1995، ولتلقينه درسا في الرجولة والشهامة صرفت من جيبي 3 آلاف أورو كمتاعب المحامية واكتفيت بواحد أورو كتعويض رمزي قضت به المحكمة لصالحي. نلت شرف إجراء أول حوار صحفي له سردت هذه الأمثلة لأنني أعي جيدا أن ما تحدثت عنه يسير في سياق الحرب السرية التي يشنها الأعداء ضد الجزائر. هذه الحرب خاض غمارها منذ بدايتها العقيد قاصدي مرباح الذي يعتبر من خيرة أبناء الجزائر. عمل في الظل من دون أدنى رغبة في الأضواء، وسهر بلا هوادة على أمن البلاد، وخدم الجزائر بتفاني وإخلاص على رأس جهاز حساس للغاية جعل منه القوة الضاربة وحامي الحمى والدرع الواقي لتبقى الجزائر في مستوى الصورة التي حلم بها رفاقه ممّن استشهدوا في ميدان الشرف ولم تكحل أعينهم بألوان الاستقلال الزاهية، مثلما كان يذكّر به دوما وفي أكثر من مناسبة . تعيينه على رأس الأمانة العامة لوزارة الدفاع في 05 ماي 1979 ثم نائب وزير الدفاع الوطني مكلفا بالصناعة العسكرية في 15 جويلية 1980 أخرجه من دائرة الظل ليتفرغ للعمل السياسي باعتباره أصبح يشغل مناصب سياسية بالإضافة إلى عضويته في المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني غداة انعقاد المؤتمر الرابع سنة 1979، والذي تمّ خلاله تعيين الشاذلي بن جديد أمينا عاما للحزب ومرشحا لرئاسة الجمهورية خلفا للزعيم الراحل هواري بومدين . خروجه إلى العلن كان فرصة لي شخصيا أن ألتقيت به لأول مرة في أكتوبر 1979 وأنا أباشر مهمتي كرئيس تحرير مجلة "الجيش" في طبعتها الفرنسية، وكان عمري حينذاك لا يتجاوز 24 عاما، لأجري معه أول حوار صحفي بالنسبة له. ونشر الحوار في العدد الخاص للذكرى 25 لاندلاع الثورة التحريرية . رفض إقحام الجيش في أحداث تيزي وزو 1980 أحداث تيزي وزو التي وقعت في ربيع 1980 عجّلت برحيل قاصدي مرباح من الأمانة العامة لوزارة الدفاع الوطني التي كانت تعتبر موقعا شديد الحساسية ليجد نفسه في منصب أحدث خصيصا له وكأن من عيّنه فيه يريد إبعاده من أقوى مركز نفوذ في الدولة أنذاك. سبب هذا الإبعاد أن قاصدي مرباح رفض خروج الجيش في شوارع تيزي وزو لإطلاق النار على المتظاهرين والتصدي لهم. موقفه هذا لم توعز أسبابه لانتماء الرجل للمنطقة فحسب، باعتباره من مواليد قرية آيت يني بالقبائل الكبرى، وإنما لإيمانه الراسخ بأن مهمة الجيش الوطني الشعبي ليست مكافحة الشغب وصيانة النظام العام. وهذا ما أكده لي خلال آخر لقاء جمعني به في شهر ماي 1993 عندما أجريت معه حديثا صحفيا حول انقلاب 19 جوان 1965 والدور الذي لعبه جهاز الأمن العسكري في إنجاحه. في حقيقة الأمر هناك سبب ثاني لإبعاده من وزارة الدفاع هو أن إحدى الجماعات التي كانت تتصارع داخل جهاز الحكم أقنعت الشاذلي بن جديد بأن قاصدي مرباح يسعى للإطاحة به اعتمادا على شائعة روجت أنذاك ومفادها أن قاصدي مرباح ساعد الشاذلي بن جديد على الوصول لسدة الحكم لينقلب عليه بعد فترة لا تتجاوز السنة والنصف. ومنذ إبعاده من المؤسسة العسكرية في مطلع سنة 1982 أسندت للفقيد مناصب تقنية بحتة بعيدة كل البعد عن مواقع النفوذ. فعّين في 12 جانفي 1982 وزيرا للصناعة الثقيلة ليمر سنتين فيما بعد أي في 22 جانفي 1984 إلى وزارة الفلاحة والصيد البحري. في 22 جانفي 1988 يكلف بوزارة الصحة والإسكان . وفي كل وزارة مرّ بها إلا وترك بصماته المتميزة بالعمل الدؤوب واتخاذ الإجراءات الشجاعة والقرارات السديدة والصائبة . رفض إقالته من رئاسة الحكومة تواجده على رأس وزارات غير سيادية وبعيدة عن المسرح السياسي، أدخله في دائرة النسيان. فالرجل القوي الذي كان على رأس أخطر جهاز في البلاد، أصبح وزيرا عاديا، إلى أن سطع نجمه من جديد ليتصدر اسمه الصفحات الأولى للجرائد وعناوين الأخبار، وفي الوقت نفسه أثار حفيظة أعدائه والمتربصين به . غداة أحداث 05 أكتوبر 1988 وفي ظرف شهر من بعد عيّن رئيسا للحكومة وفقا للمعطيات الجديدة التي حلّت بالبلاد والتي تضمّنها الدستور المصادق عليه من طرف الشعب في استفتاء 03 نوفمبر 1988 . تعيين قاصدي مرباح أربك العديد من الذين كانوا يتوقعون سقوط الجزائر في قبضة فرنسا بعد أحداث 05 أكتوبر ليتحقق حلم الجنرال ديغول الذي تبجّح غداة الإعلان عن استقلال الجزائر أنه ينتظر سنة على أقصى تقدير لتعود الجزائر إلى "بيت الطاعة". فكثرت الهجمات عليه وأدّت بالبعض من أعدائه ادعاءهم أنه قام بتعذيبهم لما كان على رأس جهاز الأمن. وكم كانت تفاهتهم في مستواهم عندما أتوا بشاب لم يتجاوز عمره 25 عاما ليصرخ في وجهه متهما إياه بجرم ممارسة التعذيب عليه. فسخر الحضور من هذا الشاب، مذكرينه أن قاصدي مرباح لما كان مديرا للأمن العسكري كان هو لازال يمصّ أصابعه، فلو نقوم بعملية حسابية بسيطة نجد أن هذا الشاب الذي دفعته قوى خفية لم يتجاوز عمره في أقصى تقدير العشر سنوات أثناء الفترة التي كان فيها مرباح يمارس مهامه . بلادة هؤلاء السفهاء يتّسم بها الكثيرون ممن يفتقدون لأدنى الحجج في مواجهة خصومهم. فبالاضافة إلى فقدانهم البراهين تجدهم يتمادون في تجاهلهم لوزنهم الحقيقي على الساحة السياسية والاجتماعية حيث لا يعبأ بهم أحد. غير أنهم يعتبرون أنفسهم زعماء وأبطال في عالم خيالهم الموبوء إلى أن جاء العالم الافتراضي بالشبكة العنكبوتية ليفتح لهم مجالا واسعا لتحقيق أحلامهم وازدياد غرورهم. فيصورون أنفسهم أبطالا في مواقع لا يتعدى زوارها عدد أصابع اليد الواحدة وينعتون أنفسهم بالمعارضين الحقيقيين للنظام ويدعون أنهم المخولون للإطاحة به. فمتى كان الجبان الذي لا يجرؤ على كشف اسمه قادرا على الإطاحة بنظام قوي بمؤسساته وأجهزته؟ ومتى كان الأحمق الذي يخربش في العالم الافتراضي يمثل حزبا أو رأيا أو شريحة من المجتمع ليدّعي من خلاله أن كل من لا يسمع لنباحه أو يجهل وجوده هو عميل للمخابرات وأرسل خصيصا لاختراقه معتقدا بذلك الوهم أنه يشكل معارضة بأتمّ معنى الكلمة؟ فالذي لا يقدر على استقطاب أصوات عشيرته إن كانت له عشيرة لو يترشح لانتخابات جمعية حي كان يسكنه ببلدية نائية في قريته الصغيرة أو حارته، كيف به أن يؤثر على الرأي العام وعلى الملايين من البشر؟ فكل هذه الأشكال البشرية التي تحاول الخروج من عالمها المظلم معتقدة أنها لا تجد سبيلا للشهرة إلا بالتهجم على صرح بناه خيرة أبناء الجزائر ويفتخر بالانتماء إليه كل من خدم البلاد من خلاله . تمكّن خصوم قاصدي مرباح من إزاحته من رئاسة الحكومة بعد صراع مرير دام يوما بأكمله وانتهى في ساعات متأخرة من ليلة 09 سبتمبر 1989. إقالة مرباح من منصبه كادت أن تؤدي بالبلاد إلى أزمة سياسية عاصفة بعدما رفضها متذرعا بالحجج القانونية والدستورية. فالرئيس الشاذلي بن جديد الذي أقاله، مدّعيا التباطؤ في تطبيق الإصلاحات، تجاهل بند الدستور الذي ينصّ على كيفية تعيين وإقالة رئيس الحكومة. بمجرد أن بلغه قرار رئيس الجمهورية بإزاحته من رئاسة الحكومة، أعلن السيد قاصدي مرباح عن رفضه للقرار في بلاغ صحفي نشرته في اليوم نفسه وكالة الأنباء الفرنسية. ثم اعتصم بمكتبه وقال يومها مقولته الشهيرة: "هنا يموت قاسي". إهتزّت أركان البلاد وتتالت محاولات الوساطة بين رئيس الجمهورية الشاذلي ورئيس الحكومة قاصدي مرباح ولكن من دون جدوى . جعل من مصلحة البلاد فوق كل اعتبار وفي حوالي الساعة التاسعة ليلا، دخل عليه بمكتبه ثلاثة ضباط سامين في الجيش لمجرد أن دخلوا مكتبه وقبل أن يسمح لهم بالجلوس سألهم عن سبب حضورهم. فردّ عليه أحدهم أنهم جاءوا بصفة رفقاء السلاح ليطلبوا منه التريّث والعدول عن تمسّكه بالمنصب. فردّ عليه قاصدي مرباح: "أنا لا أعرفك... أرجوك أن تخرج من المكتب"، وحتى لا يزيد الأمور تعقيدا وبدون إشكال غادر هذا الضابط السامي تاركا وراءه مرافقيه اللّذين سبق لهما وأن عملا معه لما كان مديرا للأمن العسكري. فنظر إليهما وقال: "من الأحسن أن تغادرا أنتما أيضا وإلا ستتهمان بالتواطؤ معي". كان له ما طلب بعد أن ألحّ عليه زميلاه السابقان على أن يهدئ نفسه وأن لا يقدم على أمور تزيد الوضع تأزما. وبعد ساعات قليلة غادر قاصدي مرباح بدوره مكتبه، مراعيا المصلحة العليا للبلاد، كما رواه لي في لقاء جمعني به بمقر حزب "مجد" ببوزريعة في أعالي العاصمة. بعد إزاحته من رئاسة الحكومة وفي 05 جانفي 1991 تحصل على اعتماد حزب أنشأه تحت تسمية "مجد"، أي الحركة الجزائرية للعدالة والتنمية، ليكون نقطة انطلاق لعهد جديد بعد مرور أربع وثلاثين سنة على التفاني في خدمة الجزائر في عهد الحزب الواحد والشرعية الثورية. وظل الفقيد قاصدي مرباح في خدمة وطنه من خلال جهازها الأمني أو المناصب التي تولاها في الحكومات المتعاقبة بل لم يكن يترك أي مجال ولا فرصة تفوته لتقديم مساعدته في السر . كان مناصرا شغوفا بشبيبة القبائل في بداية مشواري الصحفي منتصف السبعينياتو تعرفت على أخيه عبدالقادر - رحمه الله - الذي كان يشغل منصب مدير الديوان الوطني للسياحة، أثناء قيامي بتحقيق ميداني حول فريق شبيبة القبائل الذي كان يحضّر نفسه لمنافسات الدور نصف النهائي لكأس الجمهورية في سنة 1977 والتي فاز بها في النهائي الذي جمعه بفريق نصر حسين داي، ومن خلال شقيقه عبدالقادر كان الفقيد قاصدي مرباح يقدّم يد المساعدة لفريقه المفضل ويسهر على تلبية كل حاجياته دون التظاهر بذلك. الكثيرون من أبناء فريق شبيبة القبائل ومن بينهم رئيسه الحالي، محند الشريف حناشي، يعلمون بالدور الذي لعبه عبدالقادر خالف وعائلة خالف للنهوض بهذا الفريق الذي أصبح الأكثر شهرة وألقابا . برحيل قاصدي مرباح افتقدت الجزائر رجلا عظيما أعطى لها الكثير حتى آخر رمق من حياته وظل، رحمه الله، متفانيا في خدمتها، لتبقى أعماله راسخة في الأذهان وذكراه خالدة في وطن يعتز بإنجاب رجل من هذه الطينة.