أخيرا تحقق الحلم وزرت تندوف. كيف يكتب المرء عن شمال البلاد ولا يكتب أيضا عن جنوبها، أليس الشمال والجنوب يمثلان جناحين من طائر واحد وهما نقطتان بلون واحد على خارطة الوطن وهوية إنسانه، فالأطراف، وإن تباعدت، هي جزء حيوي من الكل. وما تندوف وتمنراست وإليزي وبشار والواحات وأدرار إلا أطراف في جسم واحد اسمه الجزائر، فلماذا بقيت تندوف وبعض الأطراف "نائية" أو قاصية عن عيني في عصر يسمونه عصر المواصلات والاتصالات. فاتحة الدعوة جاءت الفاتحة من دعوة للشاعر الرقيق والأديب الملهم عبد الله الهامل لحضور الأيام الأدبية التي تنظمها مديرية الثقافة لولاية تندوف للمرة الثانية بإدارة الحازم المثقف سليمان أودين. لقد وجدت في الدعوة فرصة لتحقيق الحلم الذي طالما راودني فلبيتها بشرط موافقة طبيبي، ومن حسن الحظ أنه في النهاية وافق، وتقرر السفر يوم 21 والرجوع 24 مارس، وكان السفر ليلا ذهابا وإيابا. وبدأ نبض قلبي في التسارع، فالقلق كان يساورني، ماذا لو وقع لي ما لا تحمد عقباه! لقد كانت الأشباح تطاردني والخشية من "عاهات الزمان" تنتابني، فأنا لم أسافر وحدي بعيدا منذ مدة. الطائرة التي أقلتنا من العاصمة رغم ضخامتها، كانت مليئة بالمسافرين والمسافرات، عرب وأوروبيين وأفارقة، وكان يخيّل لي قبل السفر أن الطائرة ستكون صغيرة وأن عدد المسافرين سيكون قليلا. وصلنا مطار تندوف الساعة الثانية والنصف صباحا، سلك المسافرون بوابتين: الداخلون إلى تندوف وهم أهلها وضيوفها وأصحاب المآرب فيها، والمواصلون إلى الصحراء الغربية وغيرها، ومعظمهم أوروبيون وأوروبيات من مختلف الأعمار. وقد خضع الجميع للمراقبة الصحية قبل الخروج من المطار. في بهو الانتظار بالمطار وجدت المستقبلين والمرحبين وعلى رأسهم مدير الثقافة، وكان بعضهم من طلابي القدماء، ومنهم مدير الثقافة نفسه. ورغم تأخر الساعة فقد سهر علينا المسؤولون حتى أخذنا غرفنا في الفندق الوحيد، وهو فندق الواحات الذي دخلناه حوالي الثالثة صباحا. وتواعدنا على اللقاء الساعة الحادية عشرة لافتتاح الأيام الأدبية رسميا. ويل لي إن الفندق كان مقرا لممثلية الأممالمتحدة وأن الدولة قد استلمنت وتنازلت عليه لأحد الخواص الذي أعاد تنظيمه ثم فتحه قبل حوالي خمسة أشهر. الشيخان بلعمش وختار بعد تناول فطور الصباح زارني عدد من قدماء طلابي وحملوني في سيارة مديرية السياحة في جولة بالمدينة القديمة للتعرف على معالمها الدينية والتاريخية. ومنها المساكن الأهلية، وزاوية الشيخ بلعمش القادرية ومقبرتها وجامعها العتيق المسمى اليوم جامع أبي بكر الصديق. وقد أخبرني من كان معي أن الشيخ نفسه موجود بالعاصمة لأسباب صحية، ولاحظت أن الزاوية مبنية بالحجر والطوب الجاف وفيها ممرات منخفضة تتناسب مع حرارة المكان، ويمكن القول إنها الآن بناية مهملة تفتقر إلى الترميم والصيانة. وقد شاهدنا عن بعد ضريح الشيخ (بلعمش) الجد في المقبرة المجاورة، وهو أيضا ضريح يبدو عليه البلى مثل الزاوية والمقبرة. ثم أخذنا صورا حول هذا المعلم الأثري الذي طالما استقبل الضيوف وطلبة العلم. كما زرنا على عجل زاوية الطريقة التجانية بالرماضين الواقعة أيضا بالقرب من جامع عتيق يسمى اليوم جامع الإمام أبي حنيفة، وقد استقبلنا قيّم الزاوية وهو شيخ مايزال رغم تقدم سنه (86 سنة) حاضر الذاكرة فصيح اللسان، وهو الطاهر ختار (خطار). ولكن الحديث معه لم يطل نظرا لقرب وقت افتتاح الملتقى، فقد اختصرنا الزيارة وتواعدنا على زيارة مكتبة الزاوية التي تقع في مكان آخر من المدينة. وأسرعنا الخطى إلى قاعة سينما عيسى مسعودي حيث جرت فعاليات الأيام الأدبية، وكان الافتتاح على يد الأمين العام للولاية نيابة عن الوالي الذي كان في العاصمة. تكريم من معدنه بعد النشيد الوطني وكلمات الافتتاح الرسمي دعيت للتقدم فألبسوني اللباس المحلي، وهو الدراعة، وهي لباس أبيض مطروز بألوان أخرى يلبسه الرجال ويتناسب مع طولهم وقصرهم، وهم يحسنون لبسه والتصرف فيه حتى لا يعطلهم عن الحركة، أما أنا فقد كانت الرداة أطول من قامتي فكدت أعثر بها مما جعل البعض يسرع إلى نجدتي وحمل أطرافها المتدلية إلى أعلى. وقد وجدت نفسي في هذه اللحظة ملزما بإلقاء كلمة شكر وعرفان، وصلتها بكلمة كنت قد أعددتها قبل حضوري للتعبير عن مشاعري نحو تندوف وأهلها منذ اتجه ذهني لزيارتها (وهي الكلمة التي ستنشرها في مكان آخر). جولة ثانية لم تكن زيارتي لتندوف سياحية وإنما لحضور ملتقى ثقافي يدوم ثلاثة أيام. فقد علمت أن تندوف تتوفر على معالم سياحية جديرة بالزيارة والتمتع والاعتبار بها، وكلها شواهد حافلة على نبوغ المنطقة ومكانتها التاريخية. ومع ذلك استجاب المنظمون لطلبي في القيام بجولة أخرى في المدينة وما حولها، وكنت قد بدأت أتعرف على شوارعها وملامحها عندما خرجت وحدي صباحا إلى الشارع الرئيسي القريب من الفندق ومشيت برهة ثم وقفت أتأمل في تخطيط لمدينة وحركة المرور ولباس الناس، وخصوصا المرأة التي تظهر متدثرة بالملحفة المزركشة، ولم أكد أرى شرطيا واحدا ذلك الصباح حول الفندق. ولما نظرت عن بعد رأيت جبالا صخرية ترابية تسمى الحمادات وهي أقرب إلى التلال منها إلى الجبال، وهي تلال تحيط بالمدينة التي يشقها وادي تندوف، وقيل لي إنه الآن جاف لقلة المطر منذ مدة طويلة، وعليه ينتشر النخيل وبعض المزروعات، وحوله المنازل القديمة المبنية بالطوب والحجر في أغلب الأحوال، ولكن مظاهر العصر الحديث قد دخلتها، فأنت تجد بعض المباني الاسمنتية والطرق المعبدة داخل القصبة رغم ضيقها، وبعض الدكاكين التجارية من كل نوع. وكان صاحب السيارة السياحية هو السيد داحن المعلم الذي كان يسوق ويقوم بالشرح والتعريف، وهو نفسه، كما فهمت، مدير السياحة في الولاية. أخذنا السيد داحن المعلم إلى الحي الجديد المسمى حي لطفي. وهو الحي الذي فيه مقر الولاية ودار الثقافة ومشروع المركز الجامعي الذي بلغت أشغال بنائه حوالي أربعين في المائة، كما أن في الحي بيوتا حديثة مودحة اللون الذي يميل إلى الصفرة والحمرة في انسجام مع طبيعة الأرض. مرافق حيوية وقد علمت أن مدينة تندوف تشرب وتسقى من الآبار الارتوازية، وتستخرج المياه بالمضخات، وقد شاهدنا المحطة الرئيسية الضخمة غير بعيدة عن المدينة. وقد ذكر لنا المتحدث أن الماء يميل إلى الملوحة لذلك وعدتهم الحكومة بوسائل تحليته حتى يكون صالحا للشرب، أما المياه المعدنية فتأتيهم من ولاية سعيدة، كما عرفت أن الصرف الصحي متوفر، وأن هناك مؤسسات أخرى ضرورية للحياة المدنية والعسكرية مثل خزان النفط (شركة السونتراك) ومحطة توليد الكهرباء (السونلغاز)، وغيرهما من المرافق. والحضور الحكومي واضح أيضا في الأسواق والنقل البري وغيرها. ومن الأسواق ما يسمونه (سوق الصحراويين) حيث يبيع فيه هؤلاء بضائعهم الواردة عليهم من الجمعيات والمنظمات الأوروبية التي هم في غنى عنها مقابل ما يحتاجونه من الإنتاج الجزائري وقد علمت أن هذا السوق يقام مرتين في الأسبوع. الأيام الثقافية مساء اليوم الأول أقيمت أمسية شعرية شاركت فيها كوكبة من الشعراء منهم بوزيد حرز الله، وعبد الله الهامل ومحمد رحال وسمير سطوف (من سوريا) وغيرهم. ومن المحاضرات أدبيات ومذيعات في الإذاعات المحلية في بشار وتندوف، نذكر منهن الأديبة والشاعرة باللهجة الحسانية (عربية متأثرة باللهجة المحلية) وهما خديجة بوصبيع التي قالت إن أصلها من وادي سوف، والأديبة الإعلامية جميلة طلباوي المذيعة في إذاعة الساورة. وقد برهنت مشاركة هذه الكوكبة من الشعراء والشواعر على أنه مايزال للشعر دولته وصولته في الجزائر. وفي الأيام التالية اجتمع الكتاب والشعراء والشباب التندوفي المتعلم الذي يقضي العطلة الربيعية، في نفس القاعة لتنشيط موضوعات نثرية وأمسيات شعرية، وكان عريف الملتقى بصفة عامة هو الشاعر عبد الله الهامل، بحضور باحثين جامعيين مثل مخلوف عامر الذي جاء من جامعة سعيدة والمهتم بالأدب الشعبي، وأحمد تواقين ابن تندوف والمهتم بالفلسفة وعلم النفس، والطاهر بلحيا القادم من جامعة وهران والباحث في الرواية الجزائرية المعاصرة.. كما جاء آخرون من جامعة بشار وغيرها من جامعات الغرب الجزائري. وحضر أيضا إعلاميون أدباء مثل الخير شوار الوافد من العاصمة. وهناك عدد من الشعراء والناثرين الآخرين الذين تطول القائمة بسرد أسمائهم، ولكنهم جميعا قدموا دراسات وقصائد دلت على عمق اهتمامهم بالأدب شعره ونثره. وفي كل الأحوال كان هناك تجاوب من الجمهور، وكان معظم موضوعات الشعر في المرأة والرموز التراثية ومناجاة الذات، ولم يتفرد بشعر النقد السياسي والقومي إلا سمير سطوف الذي ارتقى بالشعر إلى أجواء محمود درويش وشعراء آخرين من عصرنا البائس المهزوم، وللشاعر سطوف (وهو سوري الأصل) قدرة على الإلقاء الجميل والأداء المؤثر. وكان للشاعر عبد الله الهامل وبوزيد حرز الله جولات في الشعر الذاتي والتأملي تجعلك تنسى أنك في جزائر الفرنكو أراب (الفرنسي عربي). ولم يكن للتاريخ حظ في هذه الجلسات فكأن هناك قطيعة بين السياسة والتاريخ من جهة والواقع من جهة أخرى، ولولا الرموز التراثية الممتدة من عهد امرئ القيس إلى عهد "ما يبقى فالواد غير حجاره" لظننا أننا كنا في جزيرة أحلام تسبح في محيط وديع وليس في تندوف الصحراوية. وقد أهداني عدد من الأدباء والأدبيات نماذج من مطبوعاتهم مما ذكرني بعهودي الأولى حين كنت مثلهم متحمّسا للنشر والدخول إلى عالم الإنتاج والشهرة. والنجومية ليست خاصة بالفنانين والسياسيين.. ولكنها تمتد أيضا إلى الأدباء والشعراء الطموحين الذين يتطلعون إلى حجز مكان لهم في حرفة الأدب. وهو عالم غريب وعجيب لا يعرفه إلا من دخله فارسا وخرج منه متوجا أو فالسا. وصلتني نسخة من (أوجاع الذاكرة) جميلة طلباوي وهي مجموعة القصص المطبوع في دمشق من منشورات اتحاد الكتاب العرب. ونسخة من ديوان (أنا يا أنت) للشاعر محمد الأمين سعيدي، وديوان آخر له بعنوان (ضجيج في الجسد المنسي). الأول في دار الأديب وهران، (2008) والثاني دار ليجوند - العاصمة، 2009. في مكتبة آل العبد وقد رتب لي عدد من أهل العلم زيارة لمكتبة الشيخ الطاهر الحبيب، وهو الأخ الأصغر للشيخ الطاهر ختار سابق الذكر. وكان الشيخ الطاهر الحبيب رجلا طويل القامة متواضعا كثير الحفظ. قصدنا بيتا عتيقا متواضعا في حي متطور فرحب بنا صاحب الدار من الشارع وصعدنا بعض الدرجات ودخلنا المنزل أو المكتبة حيث جلسنا في غرفة مستطيلة، في جوانبها آرائك للجلوس على الطريقة العربية، وفي وسطها صفت مائدة مستطيلة نثرت عليها مخطوطات ووثائق، وجلست ومن معي في نهاية المستطيل، وفي الطرف الآخر من الغرفة وضعوا المشروبات الغازية والفواكه والحلويات، بينما غزا الغرفة جيش من طاقم التلفزيون والإذاعة والإعلاميين والفضوليين وأصحاب الدار، فكان التزاحم في الغرفة بالمناكب. واقتنعت أنه في هذا الجو لا يمكن الاطلاع على المخطوطات، كما لا يمكن التحقيق والتدقيق في المسائل التاريخية ونحوها. وقد اكتفيت من المكتبة بتصفح وثائق قليلة وبعض المطبوعات غير المعروفة عندي، ودار الحديث حول مخطوطات تمبكتو، والمخطوطات العربية التي درسها وصنفها السيد (ديستنق) الفرنسي في أوائل القرن العشرين، وفيها الكثير من مخطوطات غرب افريقيا في مختلف الفروع. وقد لاحظت أن لدى متعلمي تندوف اهتماما قويا بآثار أجدادهم ومنطقتهم التي تشترك في تبادل المعارف مع سكان المغرب العربي، إضافة إلى مالي والسينغال، بحكم اختلاط القبائل ونشاط الطرق الصوفية وعبور القوافل التجارية. عندما أحسست بالتعب واستحالة الفائدة على النحو الذي كانت عليه الغفرة، لاحظت لمرافقي الأستاذ أحمد تواقين والأستاذ الطاهر عبد العزيز (رئيس جمعية الجوهرة لحفظ المعالم الأثرية والمخطوطات) بأن الاطلاع على المخطوطات يتطلب خلوة وهدوءاً وبعض الوسائل كآلة تكبير للحروف الباهتة أو المطموسة. فنقلا رغبتي في المغادرة - وقد حل وقت صلاة المغرب-. ولكني طلبت جردا بالمخللوات المتوفرة فاستجابوا وقدموها لي قبل العودة للجزائر. وبصفة عامة كانت المخطوطات قليلة العدد وضئيلة الفائدة بالنسبة لمن يبحث في التاريخ وحياة العلماء المحليين. ذلك أن موضوعاتها كانت في أغلبها في الفقه والحديث والتوحيد، وبعض الوثائق في الصلح والبيع والميراث. وقد اطلعوني على نسخ من مؤلفات مطبوعة مثل (تاريخ ميورقة) الذي سأشير إليه، وكتاب (ثمرات الجنان في شعراء بني جاكان). و(رحلة اللواتي) التي كان قد جاءني بها أحد علماء موريتانيا، كما صوروا لي نسخة من أرشيف معهد باستور وفيه بعض تاريخ المنطقة وسكانها. وقد سألوني عن رحلة ابن طوير الجنة التي ترجمها الأستاذ (موريس) الانجليزي المتخصص في تراث موريتانيا وجوارها وهي الرحلة التي كانت قد كتبت عنها. في مكتبة آل بلعمش حاول محدثي قبل وصولي إلى تندوف إغرائي بأنهم اتفقوا على أن يوفروا لي كل الوقت للبقاء ضيفا على مكتبة الشيخ بلعمش وأن يكلوني له لأنه ولوع بالمخطوطات وعنده منها ما تنوء به العصبة أولو القوة. ولكن وجود الشيخ في العاصمة ترك المكتبة ترتاح مني. وقد يدر محدثي أنني لم أعد احتفظ بنفس القوة الصحية التي ألفت بها تاريخ الجزائر الثقافي ولو كانت مكتبة الشيخ بلعمش مشرعة الأبواب. ومع ذلك حاولوا تعويض المكتبة المغلقة بإعطائي قائمة (كاتلوغ) بمخطوطاتها. وهي بعنوان (نماذج من مخطوطات خزانة آل الأعمش، سنة 2009). ولا يمكنني الآن ذكر ما في القائمة من عناوين الكتب، مكتفيا بالقول بأنها كتب تتوزع على الكلاسيكيات من تفسير وحديث وكلام وفقه وأصول ونوازل ومنطق وتصوف وفرائض، وقليل من كتب الأدب واللغة والشعر والتاريخ والطب، ولا يكاد يوجد من بينها كتاب في الفلك. ومن هذه الكتب ماهو موضوع وما هو منسوخ بأقلام تندوفية، وخاصة من شويخ آل الأعمش. وقد لاحظت أن من بين المخطوطات: نظم تحفة الحكام للأخضري. والسلم المرونق لسعيد قدورة الجزائري. وتاريخ ميورقة لابن عميرة المخزومي مع رسائله، بخطه. وهو من تحقيق الأستاذ محمد بن معمر، جامعة وهران. وهذا من الكتب التي مكنوني من نسخة منها. موسوعة عن تندوف قبل التحرك نحو العودة وصلتني نسخة مصورة من موسوعة بصدد الإعداد في تراجم وأخبار تندوف تحت عنوان: اتحاف الشغوف الملهوف بقطوف من تاريخ تندوف من تأليف عبد الله حمادي الإدريسي وخونا أحمد محمود الجكني. وقد كتبوا بأعلى صفحة الغلاف العبارة التالية: »نسخة مسودة أولية موضوعة تحت نظر سعادة الأستاذ الفاضل أبي القاسم سعد الله حفظه الله تعالى وشافاه«. وطلبوا مني موافاتهم برأيي وتعليقي على الموسوعة التي تحتوي على 455 صفحة بخط رقيق. وقد استقى المؤلفان معلوماتهما من عدة مكتبات منها: خزانة آل بلعمش (الأعمش)، وخزانة آل العبد، ومكتبة معهد باستور بالجزائر، ومركز أحمد بابا التمبكتي بمالي، والخزانة الحسنية والمكتبة الملكية المغربيتين، ووثائق آل بارك الله الشوائع في تندوف، وغير هؤلاء من المعاصرين الذين لهم كتب ووثائق. وهكذا رجعت من تندوف وفي ذهني صورة مصححة عن صفتها وتاريخها ومكانها على الخريطة الوطنية والإقليمية وموقعها الاستراتيجي. وفي الكلمة التي ألقيتها عند التكريم ذكرت أن أهلها يشبهون سكان الثغور القديمة لوقوعهم في مثلث هام لا يبعد عن المحيط الأطلسي سوى بثلاثمائة كلم. وقد علمنا أن لتندوف تراثا سياحيا غنيا يحتاج إلى صيانة وعناية وأن هناك جمعية تسمى جمعية الأصالة تهتم بهذا التراث ولكنها ماتزال في حاجة إلى الرعاية والمساندة، إضافة إلى جمعيات كنا قد أشرنا إلى بعضها. والمؤسف أن معظم اهتمام مسؤولينا بالتراث مرتكز على ما ترك الرومان كأن تاريخ الجزائر هو تاريخ روما أو كأن الجزائريين لا يفتخرون إلا بتاريخ غيرهم. زيارة المخيمات وبعد انتهاء الأيام الأدبية وقبل التوجه إلى المطار (وهو الحادية عشرة ليلا) أبديت للأستاذ سليمان أودين، مدير الثقافة، رغبتي في زيارة سريعة لبعض مخيمات الصحراويين، قلت له إنني أقرأ وأسمع وأشاهد تنقل مختلف الأجناس لزيارة هذه المخيمات وحضور مختلف الأنشطة، فكيف أزور تندوف وأغادرها دون أن تكون لي صورة عن بعض المخيمات المرتبطة باسمها، فوفر لي مشكورا الرخصة العسكرية والسيارة وتطوع هو بسيارته وساقني إلى أقرب مخيمين الواقعين على مسافة حوالي خمسة وثلاثين كلم وهما: حاسي عبد الله و27 فبراير، وقد اشترطت عليه ألا أنزل من السيارة ولا أكلم إنسيا ولا أسلم على أحد. أنا فقط مشاهد عابر سبيل. وقد وف» السيد سليمان بكل ما طلبت، فكنا اثنين فقط في سيارته الفاخرة، فعبرنا حدود تندوف ودخلنا حدودا أخرى لها علمها وحراسها، فكأن هناك دولتين متجاورتان. كانت الأرض صحراوية مسطحة حرشاء التربة تميل إلى اللون البرتقالي. وكان الوقت يقترب من الغروب. وكان لون السماء كلون الأرض: مغطاة بتراب برتقالي اللون أيضا حتى الشمس كانت تبدو برتقالية أو حمراء نتيجة الحرارة التي أخذت تشتد. في مخيم حاسي عبد الله مرافق الصحراويين الرسمية، وفي مخيم 27 فبراير مستشفى ومدرسة يبدو أنهما مدعومان من المنظمات الدولية. وفي كلا المخيمين سكان يظهر عليهم الفقر والبؤس يعيشون بوسائل بدائية، وهناك شوارع وورشات ودكاكين ومعالم رياضية وبعض المدارس البسيطة، وبين هذا وذاك تتحرك نساء إسبانيات. وعلى جدران الدكاكين وأبوابها كتابات باللغة الإسبانية والعربية. ومع ذلك سمعت أن في هذه المخيمات وخارجها أغنياء وأن التجارة بينهم وبين أوروبا (خصوصا إسبانيا) لا تنقطع، وأن كثيرا من الصحراويين يعيشون في أوروبا وغيرها، خصوصا كوبا، وأنهم يعرفون مختلف اللغات بحكم دراسة أبنائهم في مختلف البلدان، ولهم أسواقهم ونشاطهم التجاري، وهم يعملون ويتعلمون، لأن الفقر يعلم الإنسان ما لم يعلم. ولو لم تتأخر الطائرة من خمس ساعات (وهي ساعات النوم) عن وقتها لكانت رحلة تندوف كاملة الأوصاف ولكان حلمها الوردي المخملي أجمل الأحلام. غير أن من دخل الصحراء ساريا ونجا من طواها وعطشها جدير به أن يحمد السري، وأن يحوز قصب السبق على كل الورى.