هل كان هواري بومدين يريد السعي نحو دمقرطة النظام الذي تشكل في جزئه الرئيسي على يديه خلال أكثر من عشر سنوات، لكنه كان يبحث بشكل أليم عن حلفاء حقيقيين، بإمكانهم أن يحدثوا النقلة النوعية التي تجنب البلاد السقوط في مغامرة غير محمودة العواقب؟! 1 تأويل مسار 35 سنة تمر على وفاة الرئيس الجزائري هواري بومدين، أكثر من ثلاثة عقود تمر، أشياء كثيرة حدثت، صراعات، دم، أحلام، كوابيس وجنون شعبويات، شعبوية وطنياتية في مأزق، عانت بعد نشوة الانتصاروية، علقم الانحدار والانحطاط والانكماش، شعبوية إسلاموية طرحت نفسها بديلا عن الشعبوية الوطنياتية والثورية، لكن تحول الطرح إلى مواجهة مسلحة وأفرغها العنف العدمي والعنف المضاد والعنف المثيل إلى خطاب ممزق، جريح، مثير للشكوك والمخاوف الجديدة، ثم شعبوية بربرية ثقافوية عاشت ربيعين أساسيين في حياتها، ربيع 1980 الذي كان مولدا للوعي الثقافوي بالذات الأمازيغية كهوية متمايزة، فخورة بذاتيتها المستقلة، وإنيتها التاريخية، لكن كذلك كتعبير مكثف عن انبثاق إرادة عانت طويلا في كمونها وصمتها وحراكها المكبل والمشكوك فيه من قبل المنتجين المركزيين للريبة المتسربلة بنزعتها العليائية والنزاعة نحو إعادة التاريخ كدلالة ولغة وفق نظرتها الأحادية الملفقة، وربيع أسود، كلحظة دراماتيكية أتت على الشعبوية كوعد خصب عندما اخترقها العنف من جديد، وهو عنف متشظي، خال من فيروس التاريخ الخلاق.. عنف بدائي، مبتذل، دون بصيرة، مثبط للإرادة الجماعية، محتقر للعقل وبالتالي صاحب ريبة تجاه الذكاء الثوري.. ولقد سهلت عملية تغذيته من قبل أجهزة الأمن القمعية وبالتالي إعادة صياغته ليكون غير منتج أو غير قادر على إنتاج المعنى... المعنى الذي ينتجه هو معنى مضاد، معاد للسياسة، مخرب للوعي الثوري والتقدمي ومحيي لمخيال الفوضى الجارفة الرعناء، الفوضى العمياء الولادة لانعدام النظر الثقافي والبصر السياسي.. فوضى هوجاء، منغلقة على ذاتها، قاتلة للأمل، مدمرة للمبادرة ومقوضة للسيرورة التاريخية ذات الروح النوعي.. وكلتا الشعبويتين ذات الطابع الإسلاموي والطابع الثقافوي الأمازيغي نسفتا ما داخلهما عن طريق إشاعة العنف الذي لاحد له، ولا هوية له، أو بتعبير آخر، عنف خارج التاريخ ككينونة وحركة مفككة للأزمة... إن العنف الذي تجلى في المحطة الفاصلة من حياة الشعبوية الوطنياتية وحده الذي كان حاملا لحيوية التناقض ونوعية الصراع. فعنف أكتوبر بركان بمثابة الإعلان البهيج عن جيل مختلف، جيل حامل لمشروع مغاير، يتمثل في نهاية التسلطية وبداية التعددية كلحظة تاريخية جديدة.. لكن سرعان ما دفع بهذا العنف إلى طريق مسدود ليحاصر بعنف نقيض.. عنف يعيد النظام الذي دخل الفصل الأخير من حياته إلى سابق عهده، لكن أي عهد؟! عهد الدجل والمناورة والأسطورة المبنية على زيف لامع وخادع في لمعانه؟! إن قراءة بومدين لا يمكن القيام بها خارج مسار ومآل الشعبويات المذكورة، ويعيد حيوات النظام الذي تشكل جنينيا مع الحركة الوطنية في حقبتها السياسية، وكذلك في حقبتها المسلحة وربما تكون هذه الحقبة هي المحددة والمشكلة للبنية البسيكوسياسية، وللبنية التاريخو ثقافية للنظام، للسلطة، وللدولة الوطنية.. وكذلك للمجتمع بمختلف الشرائح، الفئات والطبقات المكونة له عبر هذه العملية، عملية التكوين المتسارعة حينا، والمتباطئة حينا والمتراوحة بين السرعة والبطء الحقيقيين، حيث النزاع دائم القيام بين سلطة الحركة والدفع والتوق إلى كتابة التغيير وسلطة التقويض والتردد وكتابة العطالة.. بومدين اليوم؟! شبح يزورنا كل عام، أم ضيف ثقيل أم روح لا جدوى من فتح النوافذ لأن يدخل البيت من جديد، لأنه كان من مصادر الشقاء الحالي الذي يعاني منه الجيل الذي لم يعش زمن بومدين؟! كان بومدين انقلابيا.. انقلابيا مرتين، ضد الحكومة المؤقتة التي أطيح بها على يد جيش الحدود الغربية الذي كان بومدين سيده القوي، ثم انقلاب على الرئيس / الرفيق ذاته في 19 جوان 1965.. ألم تكن لحظة الإنقلابين تدشينا عن طريق القوة لهذا النظام اللقيط من البونابرتية الهجينة؟! يجمع بين نقائض شتى في الرؤى وإدارة الشأن العام، نقائض كانت بمثابة الفكر المريض الذي ولدته سياسة متوحشة اعتمدت على بطش البداوة في إدارة الصراع السياسي وحل التناقضات؟!. ألم تكن لحظة الانقلاب المزدوج إجهاضا لإمكانية أخرى من التاريخ؟! تاريخ يقوم على التوافق والتراضي، وكذلك على تكريم الحرية التي دشنتها وولدتها تضحيات الشهداء ومئات الآلاف من التضحيات التي بذلها الجزائريون والجزائريات، المغمورون.. بحيث قامت القوة بتخريب الإرادة الجماعية، وتخلى المعنى الحامل في تبدد؟؟ مشروع الأمل في إنجاز الحرية والعدالة على أساس قاعدة مشتركة حية عن دلالته ليعبث بها المتقاتلون على الحكم؟! عباس، عبد الرحمن فارس، سعد دحلب، بن خدة؟! ألم تكن هذه الوجوه، هي ذلك البديل في مثل تلك اللحظة التاريخية الهامة؟! ألم نضع الحرية وحسب، بل الثورة ومشروع الثورة التحريرية؟! نتحدث عن تاريخ كان ممكن الحدوث، لكنه لم يحدث، القوى على الأرض قررت غير ذلك التاريخ، وذلك هو التاريخ الحقيقي والفعلي، وليس تاريخ الافتراض والتمنيات.. ربما لأن هؤلاء الذين كان من شأنهم أن يلعبوا دورهم التاريخي، ترددوا وتخاذلوا في اللحظة المناسبة، لم يلعبوا الدور، فضلوا الإنسحاب، الصمت، عدم التفاني في المعركة، والتاريخ في نهاية المطاف لا يمكن أن يتشكل إلا على أيدي صانعيه، حتى وإن كان هؤلاء الصناع، هم مجموعة من الحمقى، والمغامرين والأنانيين والمجازفين غير الواقعيين.. الواقعية في اللحظات غير الواقعية قد تكون تخاذلا، خيانة، بلادة رعناء، جبن لا تغفره لعبة الأقدار الحرجة، ومن هنا تنبثق أهمية بومدين ليس فقط كشخص عسكري قاد انقلابين، عشية الاستقلال وفي فجر الاستقلال بل كرئيس جوق موسيقي، جمع بين روحية ومثالية الملاك وقذارة الشيطان المولدة لجمالية ضرورة التاريخ.. التاريخ يصنع وفق توفر الإرادة المنتصرة على جبال النوايا الطيبة والحسنة.. كانوا مجرد مجموعة حسمت أمرها على افتكاك الحكم من الرئيس أحمد بن بلة.. ما الذي حرك هذه المجموعة في تلك الفترة المحددة، الأفكار أم المصالح؟! أم مزيج من الاثنتين؟! هل فكروا لو فشل الانقلاب؟! أطلقوا عليه تصحيحا ثوريا؟! قد لا يكون ذلك دقيقا وصحيحا من حيث قراءة الفعل، لكن كان ذلك صحيحا ودقيقا بدءا من اللحظة التي انتصر فيها الفريق على أحمد بن بلة. حمل البيان 19 جوان 1965 دلالة التصحيح الثوري.. وأصبح اليوم ضمن الأجندة الوطنية كعيد وطني مدفوع الأجر، محاولة تأسيس لمحطة من محطات الذاكرة الراهنة، أثث هذا اليوم طيلة حكم بومدين بمديح بليغ، في الخطابات السياسية وفي الأغاني وفي المسرحيات، لكن ذلك بقي محدودا، مرتبطا بوجود بومدين على رأس الحكم وفي الحياة.. لم تعد الجزائر الرسمية، وهذا برغم وجود واحد من الفريق الانقلابي/ التصحيحي، اليوم على رأس الحكم، وهو الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.. استعادة الغائب... على أي صعيد؟! لنعترف أنه كان منبوذا، لم يكن وجهه مثيرا للارتياح، بدا وهو يتلو بيان مجلس الثورة على شاشة التلفزيون كالديكتاتور القادم من الكهوف، الذي سيلقى كراهية متبادلة، نحن في العام 1965، ردود أفعال من الخارج كانت رافضة للانقلاب، كان وجه أحمد بن بلة مقبولا، محبوبا عند الجماهير، وبدت المهمة شبه مستحيلة لأن يتحول هذا الكولونيل وجها مألوفا، كل شيء في الرجل كان لا يشجع ولا ينبئ بذلك، وجهه العظمي المخيف والمريب، عيناه غير المساعدة على إشاعة الاطمئنان، أسلوبه ولكنته الغارقة في المحلية والمثيرة للضحك، هندامه الشاحب ثم إلى جانب ذلك كله مجهوليته وعربيته غير المشجعة على الاطمئنان. في تلك الفترة راح الكثير من المعلقين يصفونه، بالرجعي، المتخلف، المحافظ، المعادي للاشتراكية، أما هو فلقد طرح مسألة الخصوصية، المحلية الجزائرية، الإشتراكية غير المتنامية والثقافة العربية الإسلامية وكان الاختبار اختبار استمرار الكولونيل في الحكم ظاهرا وسريعا بشكل صاخب. محاولة انقلاب فاشلة، محاولة اغتيال فاشلة، وأظهر الرجل رباطة جأش، لكنه فهم أنه رجل غير مرغوب فيه، لذا اختار لعبة التوازنات داخل الفريق نفسه، بعد معركة المعارضة الراديكالية، غيّر بومدين الوجهة، إلى أين؟! إلى المشاريع الكبرى، إلى الشعب.. كان يريد تكرار لعبة أول نوفمبر، أن ترمى الثورة إلى الشارع، وعندئذ إذا ما كانت هذه الثورة أصيلة صادقة مصممة على الذهاب إلى آخر المطاف، فعندئذ دون شك يلتقطها الشعب. لكن من هذا الشعب الذي كان يريد هواري بومدين أن يكون حاضنه ولسانه وملجأه في الأوقات العصيبة؟! بدون التواء أو تلكؤ حدده بومدين في طبقة الفلاحين، أي العودة إلى مسألة الأرض، ألم يقم فرانز فانون نظريته في الثورة، على أساس القوة الرئيسية، وهي طبقة الفلاحين. الفلاحون هم طليعة الثورة في المجتمعات الكولونيالية.. الطبقة الثانية، العمال، ثم المثقفون ويقصد هواري بومدين بالمثقفين، ليس فقط المنتجين الثقافيين، بل الآلاف، من الثانويين والطلبة وخريجي الجامعات... العمال، الشباب، الفلاحون، النساء، كانت تلك هي القوى التي يصفها بومدين في كل خطاباته بالقوى الحية، وهاته القوى هي التي فاجأت خصومه يوم رحيله، عندما خرجت تبكيه بقوة وشدة وحب ومرارة، وكأن هذه القوى خرجت من تحت الأرض.. كانت هذه القوى تبدو في لحظة الغياب، كجموع اليتامى. انتصر بومدين عاطفيا وكان ذلك ظاهرا وبينا، وسياسيا، هل حقق ذات الانتصار؟! لم يرتب بومدين مسألة خلافته، لأن الموت فاجأه، لكن عندما اتجه بإعلان الميثاق الوطني والانتخاب على الدستور، طرحت مسألة الخلافة دستوريا، وكان ذلك الأمر يؤرق بومدين، لأن الصراع اندلع من بين مقربيه، وكان على بومدين أن يحافظ على انسجام الجماعة / الفريق الذي بدأ أفراده يشعرون أن الرجل راح يبتعد عنهم شيئا، فشيئا، وأن الرجل يريد الانتقال من مرحلة الجماعة إلى مرحلة أكثر رحابة واتساع... لكن كيف يمكن أن يحدث ذلك، ووفق أي سيناريو؟! هل كان.. يريد هواري بومدين أن يتخلى عن فريقه الذي بدأ عقده ينفك، مثل تخلي كاسترو عن شي غيفارا، ورفاقه الآخرين، ليتحول مع الوقت إلى ديكتاتور آخر.. على طريقة، ماو.. أو ستالين أو كاسترو..؟! هل كان هواري بومدين يريد السعي نحو دمقرطة النظام الذي تشكل في جزئه الرئيسي على يديه خلال أكثر من عشر سنوات، لكنه كان يبحث بشكل أليم عن حلفاء حقيقيين، بإمكانهم أن يحدثوا النقلة النوعية التي تجنب البلاد السقوط في مغامرة غير محمودة العواقب؟! الاقتراب من اليسار، ماذا كان يعني؟! لكن ما اليسار الذي كان يريد التعامل بومدين مع رجاله، وأنصاره وممثليه وقواه؟! لم يكن هواري بومدين شيوعيا، هذا أكيد.. لكن جاذبية الماركسية التي راحت تدغدغ أحاسيسه وخواطره، حتى وإن كانت تلك الجاذبية متأخرة، هل كان يدل ذلك، على إمكانية ميلاد بومدين جديد، بومدين ثانٍ؟!