انجذاب نحو اليسار أم تجاذب متعاظم الحيوية بين الكولونيل هواري بومدين الذي راحت بزته العسكرية تختفي من أمام الأنظار ليحل محلها الزعيم الجديد، السياسي الوليد، أو بومدين الثاني وبين اليسار.. لكن ما اليسار الذي نتحدث عنه؟! هل ظل ثابتا على عقيدته وخطابه؟! ومرجعيته منذ أن كان على ذلك الحال الايديولوجي في الستينيات المبكرة، وبعد تحوله إلى حزب ينشط في السرية عشية الانقلاب بدءا من منتصف الستينيات؟! لقد تحوّل هواري بومدين واليسار أيضا.. من علاقة الخوف والشك والحذر، والكراهية المتبادلة بين بومدين واليسار إلى هذه العلاقة المسكونة بساندروم الجلاد والضحية، وبالعلاقة السياسية الشبقية بين كائنين كلاهما عاشا الاغتراب الخفي المزدوج، الكولونيل وهو يضع موطأ قدمه في غابة السياسة، والمناضل الشيوعي وهو يضع موطأ القدم على أرض الاشتراكية "المسلمة"، المؤمن المحافظ يقترب من قلعة المادية التاريخية، والمادي التاريخي يلج إلى منطقة الإيمان.. الشيوعية والإسلام؟! هل يمكن التوليف بين النقيضين؟! هل يمكن وضع يد الشيوعية في يد الإسلام لإعادة ابتكار اشتراكية ما، اشتراكية لا تعاني من غربة الروح ولا من لوثة الإيمان والتقوى.. في لقاء المفكر الشيوعي روجيه غارودي بالشيخ البشير الإبراهيمي واقترابه من المنجز الجزائري على الصعيد الثقافي، توصل إلى مثل هذه الإمكانية من خلال إقامة حوار منفتح مع الآخر، أطلق عليه فيما بعد، حوار الحضارات.. وعلى هذا الأساس كان ذلك البحث المضني والطريق الطويل، المعقد والملتوي لعدد من اليساريين الذين شعروا أن البون قد يكون واسعا وفسيحا بينهم وبين الطبقات الاجتماعية المعشوقة المعوّل عليها أن تكون المادة الحية للثورة ولعملية التحرر عن صلة وفاق، صلة تواصل قادرة على تجريد الاشتراكية من ماديتها التي تكون مزعجة في ظل ظروف تاريخية معينة تعاني من الحدود التي تمنعها من تحقيق التجاوز لإرثها الميتافيزيقي والديني.. إن هذه الاشتراكية التي سعى كل من هواري بومدين واليسار لصياغتها على ضوء معطى حرب التحرير، يمكن أن نسميها باشتراكية ما بعد الكولونيالية، وهذه الاشتراكية المابعد كولونيالية هي التي حاول البعض أن يطلق عليها اشتراكية ذات خصوصية، تتميز عن الاشتراكية العلمية التي نادى بها ماركس وسعى إلى تطبيقها فلاديمير لينين ومجمل الدول التي أصبحت تسمى دول المعسكر الاشتراكي قبل انهيار الأخير في نهاية الثمانينيات مع تداعي جدار برلين.. اشتراكية ذات خصوصية؟! كونها نابعة من تربة خاصة، تجعلها لا تندرج ضمن السلع المستوردة من ذوات القيمة غير المادية.. كان هذا التبرير محاولة مستميتة من قبل المنخرطين في عملية الإنشاء السياسي والنظري للاشتراكية ما بعد الكولونيالية على إضفاء الطابع التاريخي والهوياتي للإشتراكية، والنقاش لم يكن متعلقا فقط بالحالة الجزائرية، بل كان سائدا داخل وخارج مختلف البلدان التي خاضت بشكل أو آخر تجربتها في بناء الاشتراكية كنهج ونظام.. فالصين الماوية وهي تشق طريقها الخاص بها، والمشكل لحالة من الاعتراض على التجربة الاشتراكية الروسية الستالينية راحت تطرح نظرتها في السوق النظري والإيديولوجي متكئة على إرثها الكونفوشيوسي، وكذلك الأمر ليوغسلافيا تيتو بل حتى على صعيد نظري محض انبثقت دعوات تحرص على الجانب الخاص المتعلق بالشيو - أوروبية، حدث ذلك مع القراء الجدد لفكر أنطونيو غرامشي، وارنست ماندل المتحمس لفكر الخصوصيات.. هل كان ذلك تعبيرا عن حيوية الاشتراكية من حيث هي حركة منطوية على قدرة لا حد لها في التنوع والاختلاف والتجدد، أم كان ذلك يعني في نهاية المطاف محاولات كان محكوما عليها منذ لحظة الانطلاق بالموت السريع والفناء الظاهر؟! إن ورثة هواري بومدين سرعان ما سيعلنون في الوقت ذاته عن وفائهم للاشتراكية وللنهج الذي سار عليه بومدين، لكن في الوقت ذاته سيشيرون في البداية وبشكل محتشم وموارب أنهم سيقومون بإعادة صياغة لكل الجوانب الناقصة من التجربة التي خاضها بومدين، وذلك من خلال إصلاح التجربة الاشتراكية بتعديلات ليبيرالية، انطلقت من إعادة النظر في القطاع العام الذي تحول إلى عقبة بيروقراطية، ثم إعادة النظر في الميثاق وذلك ما سمي في تلك الفترة من منتصف الثمانينيات بعملية إثراء الميثاق الوطني. وكانت النتيجة ليس التخلص من البومدينية غير الناجزة بل الانتهاء أصلا من المغامرة الاشتراكية التي تبناها نظام الدولة الوطنية منذ اللحظات الأولى من الاستقلال.. ما الذي حدث بالفعل لأن نصل اليوم إلى هذا المأزق التاريخي؟! إجابتان: الأولى تركز على أن الانحراف والانحطاط نابعان من الخطيئة الأصلية، أو بتعبير آخر ناتجة عن أم الخطايا التي حدثت مع استيلاء جيش الحدود على الحكم بقوة السلاح وإبعاد البديل الآخر المتمثل في النهج غير الاشتراكي الشعبوي.. وعندئذ كانت الفرصة التاريخية لها كل شروط النجاح والانبثاق، وبلغة أخرى أن الحل الأمثل، وهو الحل الليبرالي كان بين أيدي الجزائريين، ولم يكن يشكل أي نشاز في عملية بناء المجتمع والدولة الجزائريتين.. بحسب أصحاب هذا الرأي، كانت الدولة قائمة كإرث كولونيالي ببيروقراطيتها وكوادرها وترسانتها القانونية وكان يكفي أن تتم عملية الانتقال بسلاسة، خاصة وأن تجربة حكومة روشي نوار كانت تدل على إمكانية هذا النجاح لو تم التسليم السلس للسلطة إلى الحكومة المؤقتة الشرعية والتي كان على رأسها يوسف بن خدة المعتدل والذي كان قادرا أن يلعب دورا تاريخيا في ظل تلك الظروف لإنجاح العملية الانتقالية.. كان ذلك من شأنه أن يطمئن الأوروبيين الجزائريين من أصحاب الكفاءات والممتلكات ألا يغادروا الجزائر، وأن يتوفر التنوع والسلم، وهذا ما كان سيجعل الجزائر تحظى بالرعاية والمساعدة ليس فقط من فرنسا بل من أوروبا والعالم الحر، وإلى جانب ذلك، فإن ميل الجزائريين إلى الإسلام والممارسة الدينية كان يساعد على إشاعة جو التسامح الديني ويوفر الحرية في ممارسة الشعائر لليهود والمسيحيين الذين كانوا على الصعيد الانتمائي القومي، مواطنين جزائريين.. وكان كل الشر بحسب أصحاب هذا الرأي يكمن في التوجه المتسرع الذي تم تحت قوتين سيئتين وكان لهما آثارهما الوخيمة على تطور الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في الجزائر، وهما قوة الشعبوية التي سرعت ميلاد ظاهرتين شكلتا مرض النظام الجزائري، التسلطية والنزعة العسكرتية بحيث قوضتا كل إمكانية لبروز التعددية وسيادة الديمقراطية كثقافة وممارسة والالتزام بالاشتراكية التي لم تكن في نهاية الأمر إلا عبارة عن هجنة من الستالينية والماوية... بحيث ترتب عنها تنامي سطوة البيروقراطية المتضخمة ودخول الجزائر في تجربة الفشل المفتوح والمتجدد والمنتج للأزمات المتناسخة بشكل مدمر ومقوض يصعب الخروج من دوامتها والتحرر من سلطتها الجاذبة نحو الأسفل.. إن هذه الإجابة تصطف خارج التاريخ بحكم افتراضيتها اللاتاريخية وهي تسعى إلى التعاطي مع ما هو موجود من نظرة إيديولوجية غير متصالحة مع نفسها ولا مع السرد الحقيقي للواقع كفعل، وتشكل تجل للحظة تاريخية قائمة وخطاب.. إن كلا الخطابين المنضويين تحت سقف أنصار هذه الإجابة، يمكن أن نشير إلى أنصار الحل الليبرالي أو النيوليبرالي من غير الإسلامويين، وإلى الإسلامويين أنفسهم الذين كانوا يضعون أنفسهم خارج الخيارين، وهما الخيار الاشتراكي الليبرالي ويقترحون أنفسهم كقوة أو كحل ثالث.. لكن ظل ذلك على مستوى الافتراض أو القول الخيالي.. لكن أليس على هذا الأساس تم خوض التجربة الجديدة وعلى أنقاض تجربة هواري بومدين بدءا من عشرية الثمانينيات؟! وسمحت الأطر الزمنية لمثل هذه الدعاوى أن تختبر أفكارها ومشروعها ككل، بحيث كانت الفرصة متاحة تاريخيا بعد أحداث 5 أكتوبر 1988 التي شجعت على تحرير الفضاء السياسي والاجتماعي، ودشن بذلك انتقال الجزائر من لحظة الاشتراكية إلى اللحظة (الليبرالية) وزمن اقتصاد السوق وانبثاق التعددية السياسية والحزبية، وتميز هذا الانبثاق أساسا بصعود قوة الإسلام السياسي وتمظهره كهيمنة اجتماعية وثقافية بشكل خاص، ونزوع نحو الهيمنة السياسية، إلا أن ذلك أدى إلى انفجار تناقضات حادة بين الإسلام السياسي والليبرالي أدت في لحظة من لحظات التنافس الحاد بين الطرفين إلى حالة التمزق الدراماتيكي والذي عبر عن نفسه من خلال حالة الحرب، التي وصفت لدى البعض بالحرب الأهلية تارة، ولدى القوة الغالبة المحتكرة للشرعية بسنوات مكافحة الإرهاب.. أين بومدين.. أو إرثه، أو البومدينية من كل هذا؟! هنا، وانطلاقا من محاولة الاقتراب من التساؤل، تظهر الإجابة الثانية أو الأطروحة الثانية، التي تحاول أن تقدم هي الأخرى تفسيرها لانحطاط الدولة الوطنية وأفول شمسها وتأويلها لراهن الأزمة الجزائرية.. بحسب الجواب الثاني، فإن هواري بومدين وهو برغم انسكانه بالسلطة باعتبارها أعلى مستوى من مستويات التعبير المكثف عن القوة فإنه نجح في أن يكون تمظهر من التمظهرات الحية لسيرورة التاريخ الناشئ والجاري المتشكلة في بوتقته السردية السياسية للذات الجزائرية الجديدة.. لقد تشكلت هذه السردية السياسية كمعنى في قلب الحركة المشكلة للتاريخ الجديد للأمة الجزائرية مع انبثاق السياسي بشكل واضح وعلى مستوى الكناية النوعية للذات أو الإنية كما يصفها الفيلسوف الجزائري مولود نايت بلقاسم وحدث ذلك مع رجل كانت قصة نهاية لعبته طريفة في وجهها الدراماتيكي، وهو مصالي الحاج، الرجل لم يكن فقط كاريزماتيا.. بل كان ممثلا من طراز خاص، ممثلا في ساحة السياسة اليومية ذات الملمح الزائل وفي ساحة التاريخ ذي الملمح الدائم وكان على الرجل أن يكون في الوقت ذاته للقبض على روح تلك اللحظة الخفية والمدججة بالمفارقة الصارخة الحاملة لبذرتي الزوال والديمومة بهلوانيا.. أجل أن يجيد تقمص دور البهلوان في سيرك التاريخ الجاري، والذي يتحول في لحظات خالدة إلى نهر هادر وجارف لنستعيد صورة مصالي الحاج أمام أعيننا اليوم؟! الرجل اسبوتين أم نبي الوطنية المغدور، من قبل التاريخ ومن قبل عربدات تاريخه ذاته؟! يحيلنا الهندام الذي كان يلقي عليه تلك الصورة المليئة بالمفارقات، ولحيته الكثة الطويلة، ونظراته التي تخفي في أعماقها ذاك الامتداد المشع في روح كل تلك العبارات التي ستتحول لدى الورثة إلى ترسانة الخزان الشعبوية، أو اللغة الجديدة، الآسرة للسلطة الثورية والسياسية الناشئة.. لقد كان مصالي الحاج ينظر إلى نفسه على أنه منشىء الوطنية الجزائرية الجديدة، وهذا في جانب من الجوانب يعتبر صحيحا إذا ما انطلقنا من ظاهرة مصالي صاحب البرنامج الوطني الثوري الأول المدشن للخطاب الاستقلالي كنقطة نهاية لفصل من فصول المقاومة المندرجة داخل المنظومة الكولونيالية وفي الوقت ذاته نقطة انطلاق جديدة لانطلاقات أخرى أكثر وأشد نوعية باعتبارها لحظة تواصل وقطيعة معا.. انتهى مصالي الحاج في محطة لم ينتبه لأهميتها التاريخية، ولأهمية جدتها وكانت تلك اللحظة تالية لما يسمى بأزمة حركة انتصار من أجل الحريات الديمقراطية، تعامل المتصارعون مع الأزمة كمجرد فاعلين حزبيين، وكمجرد متنازعين على من يمتلك القوة داخل الجهاز (الحزب الوطني) الذي اندلعت داخل سوره تلك التجاذبات بين سلطة البيروقراطية وسلطة الزعيم الذي تحول ليس فقط بالنسبة إلى أنصاره وأتباعه بل إلى نفسه إلى ميتازعيم.. هنا صار الصراع مكشوفا وتحت الأضواء في الساحة السياسية الحزبية بين البطريرك والأولاد المتنازعين إرثه، بل بين الميتازعيم ونفسه، بين الإله الجديد وذاته داخل المملكة الآيلة للانهيار، في مثل تلك اللحظة كان على الميتازعيم أو الذي انتهى إلى إله غير مصدق لألوهيته المنبثقة والمندثرة في الوقت ذاته الانسحاب من الساحة.. لأنها ببساطة تحولت إلى ساحة أخرى.. ساحة ستحفل بميلادها الجديد ولاعبيها الجدد.. هل يمكن النظر إلى بومدين، كواحد من هؤلاء الذين انبثقوا ضمن الساحة الجديدة المحتفلة بميلادها وبموت الميتازعيم معا..؟!