تحوّلت حقبة ما بعد الإرهاب وعلى مدى عقد بكامله إلى مساحة للأفكار المتصارعة التي لم يسبق لها أن أعلنت عن نفسها بشكل فصيح، ولذا اتخذت أشكالا معقدة ومتشابكة وتمظهرت في صراعات ذات طابع محلي وثقافي وديني واجتماعي، إلا أن السلطة المحلية والمركزية ظلتا تحتاطان من التعامل مع هذا المعطى الذي خرج من تحت الرماد السميك للكبت والصمت الثقيل والجارح في الوقت ذاته لا بعقلانية ولا بوضوح ولا بجدية منخرطة ضمن نظرة استراتيجية شاملة وذات خطوات إجرائية وخريطة طريق عملية، وحقبة ما بعد الإرهاب جاءت كمؤشر يدل على انبعاث عدد من القضايا التي طالما وئدت تعابيرها تحت أصوات الرصاص وتحت العناوين الكبرى المستغلة بما سمي بإنقاذ البلاد من مجانين الدين والمغامرين وحوصرت أصواتها وتم تجنب الإشكالات والتساؤلات والمخاوف التي كانت تبديها من حيث الشكل، أي الدلالات والمضمون لتلك القضايا، وكانت هذه الأخيرة سرعان ما تواجه بالإرتيابات والإتهامات والخلفيات الجاهزة والنظرات المسبقة التي تعمل على إجهاض مشروعية النقاش منذ لحظة البدء... فعندما انتفض شباب القبائل في ربيع 2001 والذي سمي بالربيع الأسود، ارتفعت الأصوات المناوئة مشككة في نيات الشباب الغاضب ودفعت تلك الأحداث باتجاه العنف والشعبوية المضادة المساعدة على خلط الأوراق وبالتالي تجريد الأحداث من دلالتها الفعلية والحقيقية والتي كانت تطالب إلى جانب احترام الخصوصية الثقافية باستعادة الكرامة عن طريق توفير حياة كريمة للفئات المهمشة والدنيا وفتح المجال لانبثاق جديد لممارسة الحرية من خلال التأسيس الخلاق للمواطنة.. ولقد رأينا كيف قام التعامل مع هذه الأحداث من قبل السلطتين المحلية والمركزية والذي قام على الاحتقار وإبداء اللامبالاة واللاهتمام، بحيث تم تشجيع كل الإنحرافات والمناورات التي قادت إلى وضعية اتسمت بالإنسداد وزرع اليأس وذلك الشعور العام بالإستقالة والرغبة في تحقيق الحد الأدنى في الحماية لما فتح الباب على مصرعيه لإنتشار اللأمن الذي تم تبنيه من قبل السلطة المركزية كأسلوب في إدارة الأزمة، ولقد تمكنت السلطة في إطفاء نيران الغضب بعد حصيلة من القتلى، وبعد هجرة إلى مناطق آمنة للبلاد والتجار الذين أصيبوا بضرر كبير إثر تلك الإضرابات الشاملة وحالة الخوف واللأمن واللإستقرار .. كما تمكنت السلطة من تجريد حركة المواطنة وممثلي حركة العروش عن صدقيتهم عندما زجت بهم في مفاوضات أظهرتهم في نظر الرأي العام كمتعاملين مع السلطة.. وكانت نتيجة ذلك خلق حالة فراغ كبيرة أو تأجيل لكل القضايا العميقة التي كشفت عنها أحداث الربيع الأسود.. ولقد دفع مثل هذا الوضع بالبعض من الفاعلين إلى انتهاج سلوك التشدد الداعي إلى الحكم الذاتي ورفض استراتيجية السلطة المركزية والذي قد يؤدي بدوره في حالة الانقاش والامبالاة من قبل السلطة المركزية بأنصار الحكم الذاتي إلى الاقتراب من الطروحات الأكثر تشددا، وهذا ما أصبح يلوح به أنصار حركة "الماك" التي أسسها الناشط فرحات مهني.. لكن حقبة ما بعد الإرهاب التي رفعت الستار عن موجة الإنتحارات التي أصبحت تشكل ظاهرة خطيرة ومثيرة، كشفت أيضا عن الوجه الخفي والبائس لمنطقة الجنوب، الذي ظل طيلة السنوات التي أعقبت الإستقلال يعيش على الهامش، على هامش الحياة الوطنية، وعلى هامش اهتمامات السلطة المركزية، وبتعبير أدق على هامش الوطن.. وبرغم التعابير ذات الطابع النفاقي لم يحظ سكان الجنوب بأي اهتمام جدي من قبل الذين تداولوا على الحكم في الجزائر.. ولم يتمكن الجنوب من القفز إلى الواجهة، إلا عندما انتقل ثقل العمل المسلح للجماعات المسلحة الجهادية من الشمال إلى الجنوب، خاصة في العشرية الأخيرة، وحدوث مثل تلك العمليات ذات الطابع الدعائي التي انتهجتها الجماعات السلفية المسلحة، من اختطاف للرهائن الأوروبيين، ولمحاولة استيلائهم على الحكم في مالي، ولاتساع رقعة نشاطهم الذي أصبح يشكل خطرا للمصالح الفرنسية، وللسيادات الهشة في منطقة الساحل، طبعا، وتناغم هذا التطور الصاخب مع قضايا شائكة لم تجد حلا طيلة العشريات التي تلت الإستقلال، وهي قضايا مرتبطة بخصوصية اثنية، ثقافية، ودينية، وسياسية في نهاية المطاف.. وما الأحداث التي اشتعلت في منطقة بني ميزاب بين العرب المالكيين والإباضيين إلا تعبير مقلق عن إفرازات هذه الحقبة التي وصفناها بحقبة ما بعد الإرهاب والتي تتميز بأجيالها الجديدة التي لم تلق تفهما من قبل النخب الحاكمة والمهيمنة، وبمشاكلها الجديدة في محيط متغير ومتشنج، لها علاقة بقضايا نفسية وثقافية واجتماعية وجيوسياسية... وكذلك بملابسات وضع يتصف بالهجانة لم تتمكن المؤسسات والسياسات الراهنة بالتعاطي معها.. وهذا ما أدى إلى حالة حوار الطرشان وإلى الرفض السري المتبادل.. نحن اليوم في حاجة إلى الجرأة والصبر والحكمة لطرح قضايا حقبة ما بعد الإرهاب، هذه الحقبة التي أصبح يتنازعها تياران، تيار يريد أن يندرج في خط ما بعد الوطنية، أي التحرر من سلطة الثقافة والإيديولوجية اليعقوبية التي تدين بالمركزية المتشددة وعدم الاعتراف العميق بالخصوصيات وبالتالي الاعتماد على تحقيق الهوامش التي توفر حالة الاستقلالات الذاتية وذلك دون وضع أسس الدولة الوطنية في حالة الخطر والزوال.. والتيار الثاني هو التيار الذي يعتبر أن الدولة الوطنية في حاجة إلى الإصلاح، لكن هذا الإصلاح يعمل على إعادة الاعتبار لمركزية الدولة وتوطيدها وعدم التنازل على تلك الصورة المتوارثة منذ الإستقلال عن مفهوم وآليات الدولة خاصة في ظل تداعيات الربيع العربي، إقليما وعربيا ودوليا. ويرى هذا التيار أن ما يحدث في ليبيا، وسوريا كفيلان بتنبيهنا من المخاطر التي أصبحت تهددنا وتقربنا بالاستسلام لدعاة الإستقلال الذاتي والإنفصالي... بالنقاش وتوسيعه على نطاق عريض يمكننا مواجهة التحديات التي أصبحت مطروحة بحدة، ليس فقط على النخب السياسية، بل على النخب الثقافية بمختلف مشاربها وتصوراتها وانتماءاتها.. ونسعى من وراء هذه الورقة، فتح نقاش حقيقي، حول راهننا لكن أيضا حول كل القضايا التي لا يمكن أن نفهمها وبالتالي معالجتها إذا ما فتحنا النقاش على بعده التعددي...