يطرح الحراك الجدالي والحواري الدائر في المدة الأخيرة بملحق الأثر - الذي تصدره يومية ''الجزائر نيوز'' وعدد آخر من المواقع الإلكترونية حول المجتمع والمثقف والسلطة، محاولات إعادة ترميم تلك الفجوات بين المثقف والمجتمع في ضوء التطورات الراهنة على صعيد الإحتجاج الإجتماعي والسياسي الذي تخوضه الفئات الوسطى من الشباب في عدد من البلدان العربية على غرار ما حصل في تونس ومصر لوضع النخب العربية الحاكمة أمام محك المساءلة التاريخية بعد ثلاثين سنة أو أكثر من حكم الدولة الوطنية أو الشعبوية أو (دولة الإستقلال السياسي) دون غيرها من مفاهيم الإستقلال الأخرى مثلما يسميها السوسيولوجي الجزائري عمار بلحسن التي طرحت -حسبه- ''نفسها بديلا تبعا لرؤية شعبوية أدارت وتحكمت دائما في مقاليد الأمر والحل منذ موت عبان رمضان'' (1) كلحظة مفصلية فارقة ضمن ما كان يسمى في أدبيات الثورة الجزائرية بأولوية السياسي على العسكري هذا الذي يرى بلحسن مساره النضالي والسياسي ''تجربة مجهضة لإرادة السياسي المدني والثقافي في إخضاع العناصر القيادية والشعبوية وتحقيق ولاءها الشرعي على حساب المجتمع والثقافة والفئات المدنية'' (2) أي على حساب حاجات المجتمع الضرورية والملحة وأسئلته المتعددة سياسية كانت أو إجتماعية والحق يقال إن هذه القضايا بمقولاتها الأساسية والمطالب الإجتماعية والسياسية الملحة التي تتخذ منها حركة الشباب الخارج عن أي تأطير أرضية أو ''خارطة طريق'' لإعادة ''رسملة'' وجودنا الثقافي والسياسي داخل المجتمع الذي تنتمي إليه بعيدا طبعا عن ''أجندة'' القيم النفعية التي سادت وتسود لدى أحزاب الواجهة والمعارضة معا وعن الإستبداد السياسي والحلول الظرفية الترقيعية للنخب السياسية الحاكمة والأهداف الضمنية أو المعلنة لحكومات الشمال لشعوب الجنوب الفقير ولمختلف أشكال الهيمنة الاستعمارية ليس الحديث عنها جديدا حيث أنه سبق أن أثير في سنوات الثمانينيات نقاش مماثل دعت إليه جريدة جزائر الأحداث إثر الحوار الذي كانت قد أجرته مع السوسيولوجي الجزائري عبد القادر جغلول الصادر بتاريخ 07/01/1982 وساهم فيه عدد مهمّ ونوعي من المثقفين الجزائريين آنذاك وما خلفه حديث عبد القادر جغلول من ردود أفعال متباينة من حيث نفيه لوجود أنتلجانسيا بالمعنى الصحيح واعتبار ما هو موجود في رأيه فقط نتف أو سديم ضبابي يتشكل من مجموعة من الأفراد دون أي نسيج فكري أو ثقافي يربط بينهم وبالتالي خلوالجزائر من ''مثقفين عضويين'' بالمعنى الغرامشوي للكلمة نظرا لإرتباط هؤلاء بالمؤسسة الرسمية على صعيد المهنة أوالوظيفة التي لا تمنح لهم هامشا من الإختلاف والإستقلالية، مما جعل الراحل عمار بلحسن بعيد نشر كل تداعيات وتفاعلات هذا النقاش ضمن كتابه ''أنتلجانسيا أم مثقفون في الجزائر''، غير أن الصيغة التي يكتسيها هذا النقاش الآن، وفي هذه المرحلة بالذات يمنحانها حضورا لافتا في ريبوتوار مشهدنا الثقافي والسياسي الراكد بوحي فرضته الأحداث العاصفة والمتلاحقة التي تجاوزت مطالبها الإجتماعية سقفها المأمول أو ما كان مأمولا لتطال ما هو أبعد من غلاء المعيشة والبطالة وأزمة السكن وغيرها أي لتعيد النظر جذريا وبصورة غير مسبوقة وتراجع مختلف القيم والمفاهيم الديمقراطية التي دأبت النخب الحاكمة على إخضاعها لتوجهاتها ولفلسفة البقاء لديها بما يسمح باستخدام شكلها الصوري فقط كقناعة مبدئية لا يجوز مطلقا إبداء الرأي حولها أو الحديث عن جدواها، فظلت بطيئة الحركة لا تملك القوة والمناعة التي تجعلها قادرة على التغيير المنشود من الداخل، حيث يشهد العالم من حولنا تحوّلات مذهلة على صعيد الحريات وحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة، والسبب في ذلك يعود مثلما يحلله عمار بلحسن أن الديمقراطية ''لم يتم التمهيد لها بنقاش فكري أو نقدي أو تاريخي وظهرت وكأنها هدية الدولة إثر أحداث أكتوبر 1988 بعدما كانت مجرد ممارسة خاضعة للدولة والأجهزة'' (3)· وبعبارة أصح، فإن ما تم تداوله والعمل به لحد الآن هو فقط شكلها الهجين ودلالتها الصورية ولم تتم أية (تبيئة) لها كمفهوم، على حد تعبير محمد عابد الجباري، لدرجة أنها انتقلت إلى أروقة الأحزاب السياسية وأدرجت - يقول بلحسن (ضمن مسائل ومشكلات خطيرة كاللغة والهوية والتاريخ مما عكس هشاشة وتسرعا من أروقة السلطة إلى فضاءات المجتمع أي من السياسي إلى المثقف ومن الخطاب الحزبي إلى الممارسة الاجتماعية والفكرية) (4) وبهذا المعنى فإنه يستحيل على (دولة الإستقلال السياسي) أن تنجز ذلك الثالوث الذي أنجزته الدولة القومية الغربية في أوربا وأمريكا الذي تحدث عنه يورغن هابرماس في كتابه (الخطاب الفلسفي للحداثة ونعني بذلك (العلمنة والديمقراطية والعدالة) دون التمهيد والإستعداد المدروس والمسؤول لتبلور جملة من الشروط حدد أهمها بلحسن في (تشكل ثقافة سياسية مدنية فعالة ومتوازنة ونقدية تحول دون بروز أدوار كارثية في تدعيم التراجعات عن الديمقراطية أو تصليب الرؤية الأصولية للمجتمع أو الدفع بالشباب نحو مواقع العنف والعصيان المدني أو تكريس التمزق بين النخب المتغربة أو المفرنسة والمعربة أو الأصولية) (5) ربما ردما لمبررات بقاء المثقف في برجه العاجي وتنحيه بإرادته أو بدونها عن التعامل مع الفئات الوسطى من الشباب التي تخوض هذا النضال من مواقع المقدمة عوض (البقاء في الظل) بتعبير ميشال فوكوفي حديثه عن ''مثقف الظل'' مثلما يسميه لما يعنيه هذا الأمر من أهمية إدراك المثقف لدوره الريادي والتاريخي وموقعه الطبيعي الذي عبره يطرح أسئلة هذا الحراك النضالي المرتبط أشد الارتباط بتحولات الواقع العربي على مستوياته المتعددة للقيام بدوره العضوي بالمعنى الغرامشوي للكلمة كواجب وسلوك من واجبات الإنخراط في مقدمة القاع الشعبي والتفاعل العضوي والوظيفي معه لتحديد رؤى المستقبل المنظور على المدى البعيد ومحاوله إستشراف علاماته وحدوده الإستراتيجية لمعطيات الزمن الجديد لا الزمن الدائري أوالثابت الذي ندور فيه حول أنفسنا معتقدين أننا كنا صعودا والحقيقة التي لا نراها أننا لا زلنا نعيش على هامش الواقع العربي وعلى هامش نبض الشارع العربي نلوك مفاهيم لا تطعم ولاتكسوا ولا تمنح هامشا ولو ضئيلا من الحرية والممارسة الديمقراطية لشعوبنا ولعناصرها الثورية والحية بما تتطوى عليه بنية هذه المفاهيم على صعيد اللغة ومضمراتها والتداول الساذج للقضايا الزائفة التي ينافح عنها البعض منا وله فيها مآرب خاصة فتخفي عندئذ مفاهيم الديمقراطية والحرية في معناها الشعاراتي أو الواجهاتي وهم العناوين الكبرى والأسئلة الزائفة والمغلوطة المفرغة من وهجها وجدواها لتصير مجرد ملفوظات للعرض والطلب بعد أن يتم تجريدها من جوهرها وفاعليتها وتفقد بذلك الديمقراطية وسائر مفاهيم الحرية والإنعتاق مدلولها الأوسع وسبلها المنسية أو اللامفكر فيها حتى تصير مجرد أبنية فاقدة لأسسها وثوقية تركز على الأحادية الأقرب إلى (الممارسات الستالينية) لا بل إننا أحيانا تكتشف ولو على مضض أننا لا زلنا لم نتعد إطار البنية القبلية بإتجاه التبعية للحاكم وإعتباره كالقدر والموت والبعث والنشور علينا أن نخشى هيمنته وسحره وجبروته داخل حالة يطلق عليها علماء النفس (حالة التكيف السيكولوجي الجمعي والفردي) مما أجل عوامل الدفع الكامنة في الذاكرة الجمعية العربية وفي المخيال العربي إلى الآن عن ما كانت تشعر به الجماهير العربية دون أن تتجرأعلى الجهر به أو إعلانه لولا حادثة محمد البوعزيزي الذي أقدم على حرق نفسه وقبلها أحداث العاشر أكتوبر 1988 بالجزائر التي قيل إنها كانت من صنع أجهزة الحكم القائمة آنذاك ولا يد للجماهير فيها لتتوالي بعد ذلك محاولات الإنتحار حرقا كتعبير عن إنسداد الأفق وإتساع رقعة الخراب والفساد المالي والسياسي الذي شمل جل الاقطار العربية في ظل الإندفاعات والإرتدادات المتواصلة وهكذا يصبح الجسد أداة من أدوات المقاومة وقنبلة موقوته قابلة للإنفجار في أية لحظة وعلى من حولها فاسحة الطريق أمام عهد جديد مختلف تماما عما سبقه على الصعيد السياسي خاصة··· تلك هي إذن (الظاهرة الاستشهادية) التي أربكت الكثير من المحللين والباحثين في علم النفس والفلسفة والعلوم الإجتماعية إلى درجة أنه صار الجسد أشد خطرا وأنكى وأبعد تأثيرا من عديد الأسلحة الفتاكة الأمر الذي جعله مجالا خصبا وأرضا بكرا للمساءلة الفلسفيةوالأنطولوجية كالذي تحدث عنه الباحث فتحي المسكيني عند البحث في صفة (الجليل) (SUBLIME) و(الهائل) (Gigniesaue) (إن الجسد جسد الإستشهاديين الذين حولوا الطائرات إلى حيوانات ديجتال غير إفتراضية ليس الجسد الموضوع أو الآخر أو المريض أو المعتل أو البدائي أو الهامشي أو جسد الدعاية إنه يقع في ما وراء الإستعمالات الحديثة للجسد إنه الجسد / الآية الذي يقيم دوما في حضرة إله لا ينام وعلى ذلك فهو جسد عادي تماما لأنه لا يحمل أية علامة خاصة غير بشرته العابرة للأزمنة··· جسد كمين تدرب بشكل عدمي على تدمير كل الاجساد الأخرى) (6) المختلف تماما عن (الجسد الطيع أوالأمين ) الذي تحدث عنه ميشال فوكووعن عمليات الترويض التي مر بها كنوع من الحصر في معنى وبعد واحد هو البعد الإنتاجي (فيكون من واجب الفرد الحامل لهذا الجسد من وجهة نظر الدولة هوالعيش والعمل والإنتاج حسب أنماط معينة أحيانا يجب عليه أن يموت حتى يضاعف من قوة الدولة) (7) ليعمل الآن، وقد تحول بتعبير فتحي المسكيني إلى (جسد كمين) رغم أنه لا يستخدم أسلحة غير سلاح (العقيدة الاستشهادية) على تحويل مجرى التاريخ باتجاه نقلة نوعية تنتقل بنا من حيز الأماكن إلى الحدوث ضمن تصور عام يقوم أساسا على العدالة والديمقراطية وتحدي القيم النفعية التي سادت لدى النخب الحاكمة منذ بدايات تشكلها وإلى الآن· إحالات 1) من تسييس الثقافة إلى تثقيف السياسة - عمار بلحسن - مجلة التبيين- ص 09 08 - - العدد الرابع - 1991 - الجزائر 2) المصدر نفسه - ص 09,08 3) المصدر نفسه - ص 11 4) المصدر نفسه - ص 12 5) الحداثة المعطوبة - عمار بلحسن - مجلة التبيين - ص 13 - العدد السابع - الجزائر- 1993 6) حديث القيامة بين الجليل والهائل - مجلة الفكر العربي المعاصر - العددان- 124- 125 -2002 -ص13 7) نظام الخطاب - ميشال فوكو- ترجمة محمد سبيلا -ص75- دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 2007