-1- هل كانت تفكيرات مفكرّي الشرق وملاحظات مجتهديه ممن توفرت لديهم فرصة الإلحاح على فهم الغرب/ الآخر، وهم يبحثون عن صورة واضحة لهم في مرآته- أو ربما عن مكان دافئ لهم في خدر المرآة كما يبلورها الطرح اللاّكاني-، مجرد حلم رومانسي لم يجد له طريقة في ترسيخ ما لاحظوه، أثناء إقامتهم الواقعية أو الافتراضية في الغرب، من انتظام للذات ومطالبها الواعية، ومن صرامة في العمل العاكس لحقيقة الإنجازية، ومن حرص على التنظيم باعتباره منهجا مؤديا بالضرورة إلى النتيجة العقلانية التي اندهشوا من قدرتها على الإقناع عن طريق البرهان كلما توغلت هذه النتيجة في فرض رؤيتها المنطقية وصورتها العقلانية على الذات الغربية بوصفها ذاتا منتجة للفعل الحضاري، وعلى الآخر الشرقي بوصفه ذاتا قابلة للاقتناع وليس للانبهار الذي أصبح من خصوصيته، بالفعل الحضاري كما تحققه دقة الطرح وصرامة المنهج والقدرة على الانجاز غير المتوفرة في الممارسة الحياتية للإنسان الشرقي بوصفها عناصر فاعلة قادرة على توفير شرط التحقق الوجودي في آنية اللحظة التي ينتجها الغرب الحاضر زمنيا في الواقع وفي المخيال، وفي تراجعية ما يمكن أن يتصوره الإنسان الشرقي من صعوبة تجاوز العقبات التي يختلقها لنفسه أمام ما يراه من صرامة غربية قادرة على تفكيك ما يعيشه من فوضى في مقاربته لوجوده ولحياته ولما يضيع بهما وفيهما من سيولة زمنية مهدورة لا ينتبه إليها إلا عندما ينظر إليهما وهما في يد الغرب/ الآخر أداتان تحقّقان للإنسان الشرقي ما أصبح يكنه من دهشة وانبهار بالمنجز الحضاري الغربي؟ -2- قد لا يلاحظ الدارس المطلع على أدبيات الخطاب النهضوي العربي الذي تحقق في القرن العشرين والذي يبدو أقرب إلى الفعل المنهجي الغربي في الذات الشرقية منه إلى ما نصر على تسميته نهضة عربية نظرا لارتباط هذا القرن بما رسخته الكولونيالية من رؤية نافذة اعتمدت على حفر منهجي دقيق للذات الشرقية، ومن تفكيك استشراقي منتور لجوانبها المظلمة المتبقية من مرحلة ما اصطلح على تسميته بالانحطاط، غير ما يمكن أن يؤدي إلى نتيجة حتمية تظهر مقدار الفارق الكبير بين الرؤية الشرقية كما يمثلها المثقف الشرقي المتنور، والساعية إلى محاولة مساءلة الذات في ما حدث لها تقهقر بالنظر إلى ما يلاحظه من تقدم عند الآخر، وبين ما يحققه هذا الغرب / الآخر من قفزة فارقة في آنية إنجازه للفعل الحضاري لا بوصفه تجاوزا للذات فحسب، ولكن كذلك بوصفه اندراجا في فعل الكينونة المركزي الذي يحاول أن تحتوي العالم داخل ما توفره سعة الذات من رحابة صدر تمكّن من فهم الآخر ومن رجاحة عقل تمكن من استيعابه? لأن كل العالم هو جديد في نظر الفعل الحضاري النهم- عن طريق: - احتواء العالم عن طريق التنوير الروحي والمعرفي للشرق القابع في دهاليز الذات المظلمة من خلال إعادة توجيهه إلى اكتشاف أبجديات القراءة والكتابة اللتين تخلى عنهما، وذلك عن طريق إدراج المطبعة بوصفها أداة ضرورية لتهيئة الإنسان الشرقي للدخول في عالم المعرفة الغربية، ومن ثمة عن طريق ما يمكن أن توفره المطبعة من إمكانية الاكتشاف الاستشراقي المحقق من طرف الآباء البيض المكلفين إيديولوجيا بنشر رسائل نبوءات الغرب الحضارية بأرض الشرق الثاوي على ماضوية ما يتبناه من أطروحة فكرية ذات وجهين تمظهرا في سؤالين مِلحَّيْن هما: أحقية التفكير بالتراث، أو أحقية التفكير دون التراث، من دون التركيز على إمكانية الانتباه إلى أحقية التفكير مع التراث، وذلك من أجل تحقيق النهضة المنشودة. - واحتواء العالم عن طريق الاكتشاف العلمي الفيزيائي الذي يحقق عقلانية البرهنة ومنطقية الحجاج في علمية ما يطرحه من صرامة منهجية، وفي قدرة ما يوفره من أدلة تجريبية ترسخ آلية الانبهار في الذات الشرقية وتقطع بالشك المنهجي كبرى "اليقينيات الشرقية"، كما توارثها الإنسان الشرقي من قرون الانحطاط مما احتوته من مرويات البيدر الزير والحمام، ومن حكايات ألف ليلة وليلة بما رسخته من صورة ثابتة عن الذات الشرقية وما تحمله من قيمة ماضوية ناصعة حجبت رؤية الواقع الحياتي وهو يتغير بصورة رهيبة أمام أعين المجتمعات الشرقية المنبهرة أمام ما ترمز إليه الآلة المرافقة للآخر من قوة وهو يغزو الشرق الهش المريض ويخضعه إلى ذاته الحضارية المتمركزة. -3- وإذا كان رفاعة رافع الطهطاوي العابر لإكراهات ما أفرزه القرن التاسع عشر من رؤى فكرية ومعرفية في مجتمع تسيطر عليه القيم التقليدية، كما غيره من ممثلي التيار المحافظ في الفكر التنويري العربي الذين سيؤثثون فراغات القرن العشرين الفكرية، قد ركّز في كتاباته التوصيفية للمجتمع الفرنسي على ما يمتاز به الإنسان من قدرة على الانضباط والتنظيم والتأطير واحترام القوانين، ومن وعي بأهمية الاندراج في مجتمع مدني منتظمٍ داخل قيم سياسية وأخلاقية تركز على ترجيح العقل والمنطق في تعاملاتها الحياتية التي تفضل تطبيق القوانين واحترامها، وهو بذلك قد جعل من الاتصال المباشر بالحياة الغربية للمجتمع الفرنسي ميدان تجربة وملاحظة في صياغة رؤيته الشرقية للإنسان الغربي- على ما في هذه الرؤية من تصور معكوس يخفي ولكنه يكشف الرؤية الغربية للمجتمع الشرقيّ-، فإن مفكرا مصريا آخر يحمل رؤية مناقضة تماما للرؤية الطهطاوية، وهو سلامة موسى (1887-1958)، سيحاول أن يعكس صورة الانبهار نفسها التي أكدها الطهطاوي في كتابه المشهور، وذلك انطلاقا مما حمله عن الغرب من صورة راسخة حتى قبل رحلته إليه لغرض الدراسة. كما سيحاول أن يرسخ درجة هذا الانبهار في كتاباته التنويرية التي حملت في بنيتها الفكرية وفي طرائق حجاجها مقدار الهوة المعرفية إلى تفصل بين المثقف الشرقي وبين الحداثة بوصفها مشروعا متكاملا لا بد أن تتحقق كل عناصر مكوناته في الواقع الشرقي العصي على التغيير، من أجل أن يشهد هذا المجتمع حالة النهضة التي عاينها بأم عينيه هو كذلك، والتي حاول أن يصوغ مشروعا لها، في ما بعد، في كتابه المشهور (ما هي النهضة؟) الذي طرح فيه ? كما في غيره من كتبه المثيرة للجدل- إشكالية العلاقة بين المجتمعات المتخلفة وبين النهضة بوصفها فعلا نقيضا للتخلف والانحطاط بما يوفره من شرطية الاندراج في تقويض شروط التخلف التي لاحظها جاثمة في واقع المجتمع المصري كما رآها غائبة في واقع المجتمع الانجليزي الذي عاش فيه لفترة. وهو بذلك يحاول أن يضع اليد على الجرح النازف الذي سبب ما تعانيه المجتمعات الشرقية من تخلف من خلال تعداد أسباب ما مرّت به الحضارات القديمة من حالات تخلف أودت لمنجزها الحضاري الذي حققته في فترات سابقة إلى الحضيض، وكذلك من خلال تعداد ما يجب أن يتوفر في المجتمعات ذات القابلية للتطور من إمكانية تجاوزها للرؤية الماضوية التي أعادت العديد من الحضارات إلى دائرة التخلف وكانت سببا في سقوط الغرب في ظلامية القرون الوسطى، وفي سقوط العرب في جهل عصر الانحطاط، وفي سقوط الأتراك في عصر (الرجل المريض) على الرغم مما قدمته هذه النماذج الثلاثة للإنسانية من فعل نهضوي شارك لا محالة في التفريش لما وصلت إليه الحضارية الغربية الحالية من نهضة غير مسبوقة. ولذلك، يحاول سلامة موسى أن يربط شرط النهضة بشرط التفكير من دون التراث من خلال إقصاء الاحتمالين الآخرين، أي الانفصال النهائي عن كل ما يمكن أن يذكر بالتمسك بالماضي رديف التخلف بسبب ما يشوب هذا الأنموذج من تقيد بالنصوص التي في الكتب الموروثة دون مباشرة العقل"، ومن "سيادة العقائد على المعارف والتليد على الطريف"، ومن "الاكتفاء بالثقافة الدينية دون الثقافة الدنيوية"، ومن سيادة "ثيوقراطية الدولة". وسيؤدي كل هذه العناصر في نظره إلى "سيادة الرجعية" و«معنى هذا الجمود والوقوف عن التطور" (سلامة موسى. ما هي النهضة؟ موفم للنشر.2000.الجزائر. ص: 121). -4- وللمتأمل في ما يقدمه الطرح الموسوي- على عكس الطرح الطهطاوي ولكن ربما بحدة الانغلاق نفسها- من قراءة مغلقة على أنموذج الآخر أن يتصور، بعد مضي نصف قرن عما حمله من أفكار منقولة حرفيا من أدبيات المشروع السياسي والاجتماعي الغربي كانت تبدو ثورية في وقتها، مقدار ما يعلق بالقراءة المُحيّنة لما يسميه التيار التنويري المحافظ بالمشروع التغريبي من صدى تتبدّل تسمياته الظاهرة من التخلف إلى الأصولية ومن النهضة إلى الحداثة، وتنتهي خلاصة التجربة النهضوية الغربية، من خلال الإصرار على مركزة مفهومه في صلب الذات الغربية، إلى اقتراحات تنظيرية تسكن في بنية المتن النهضوي العربي بصورة تقريرية تؤسس في جوهرها للتصور الاستبدادي بوصفه تكريسا لمستلزمات ما قامت عليه النهضة الغربية في بنية التفكير الشرقي. ذلك أن تجربة سلامة موسى لا يمكن أن تقدم نفسها ?بعد مضي أكثر من نصف قرن على رؤيته الفكرية المقترحة في مجتمع مغلق مصري فكريا ومعرفيا- على أنها القراءة الأكثر موضوعية والأكثر وعيا بالذات وبالآخر في التأسيس لخطاب نهضوي قادر على تمثل مجمل الإكراهات الحضارية التي كانت تطرح نفسها بإلحاح أمام سلامة موسى وهو يحاول أن يدبج ما كان يراه ضروريا بالنسبة للمجتمع المصري لكي يخرج من دائرة التخلف ويدخل في دائرة (النهضة) كما كان يراها بعيون الطالب المنبهر بالغرب وبالمجتمع الانكليزي أولا، وبعيون ما استطاع أن يرصده من خلال دراسته لتاريخ النهضة الأوربية، من أسس تنظيمية كان يرى ? تماما كرفاعة رافع الطهطاوي- أنها غائبة عن المجتمعات الشرقية وعن ممارسات الإنسان العربي التي تُرّسخ، في نظره، نتائج وعيه السطحي بالراهن المتغيّر في حياته اليومية، وتعيد إنتاج التصور الشرقي المغلق الذي لا يمكنه أن ينفتح على جديد لا يكون في هذه الحالة إلا آتيا من الغرب بوصفه قوة قادرة -بفعل ما تمتلك من أداة نافذة لتفكيك ظاهرة التخلف- على اختراق هذه البنيات المغلقة واستغلال هشاشة ما تحمله من مقاومة تقبل فكرة الآخر عن النهضة وعن التحديث كما سيحاول الغرب أن يمررها بقناعات كولونيالية لا يمكن أن تكون بريئة ولا مجانية، ولا من أهدافها تحرير الشعوب الشرقية من سطوة التخلف وتوعيتها بأهمية التخلي عنه بوصفه ممارسة متمركزة في الذات الشرقية لدرء الضعف الملم بها من جميع الجوانب نتيجة ما يعانيه مثقفوها من استلاب.