-1- وسيتحوّل ما ينتِجُه وقع الحادثة التاريخية من مثقفين يسعون إلى تحديث المجتمع الشرقي المتخلّف إلى واقع ما سيسمى فيما بعد ب (جيل الانبهار بالغرب). كما سيتحوّل المأزق التاريخي الذي وقع فيه المثقف الشرقي عموما في ذلك الوقت إلى "رغبة استلابية" يسعى هذا المثقف الشرقي، في صورته التي رسمها عن نفسه في فترة ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى ترسيخها في واقع الذات الشرقية المرتبطة، في بعدها التقليدي، بما يمثله الشرق من تخلف وارتداد ونكوصية، والمرتبطة في بعدها المنفتح، بالصورة الحالمة المنبهرة بالغرب كما يجب أن يكون عليه الإنسان الشرقي لو أنه أبصر حركيّة ما يجري أمام عينيه المغمضتين من تغيّر رهيب في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات الغربية. ربما كان رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) في كتابه المشهور (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) أحسن من يمثل الاتجاه الانبهاري بالغرب بما هو رؤية متشكّلة ونظام متمكن وغاية مُنتِجَة لوسائل الوصول إليها ستصدم الإمام الأزهري وهو يكتشف اكتشاف المشدوه أمام واقع المجتمع الفرنسي ما اقترحته عليه حادثة "المطبعة الشرقية"، كما أراد لها نابليون أن تكون في مشروعه التوسعي الهادئ، بما هو عليه من وعي سياسي وتنظيم اجتماعي وتطور اقتصادي وإبداع ثقافي. وهي العناصر الأساسية للنهضة التي لم يجد ما يحاجج بها مرآة ذاته العاكسة لتخلف المجتمعات الشرقية في هذه المجالات بالذات، غير ما كان ينتقده في المجتمع الفرنسي من انحلال للأخلاق كما يتصورها الشرق العاجز على النهوض، وكما يجب أن يسجل إمام أزهري الفرق الشاسع بين تحققها في ذاته الشرقية غير الواعية بانحطاطها النهضوي، وبين الآخر في انحطاطه الأخلاقي الذي لا يدرجه هذا الآخر في منظومة ما هو شرط من شروط النهضة نظرا لاختلاف سلم القيم الناظمة للأخلاق ولمفاهيمها بين المجتمع الشرقي المتخلف والمجتمع الغربي المتطور. وربما عكس كِتاب (تخليص الإبريز)، في حفره المعرفيّ غير المقصود للدهاليز المظلمة للذات الشرقية من خلال تسجيله الدقيق لحياة الباريسيين وتوثيقه للمسارات المتنورة للآخر، أكثر من غيره من الكتب والمشاريع الفكرية والفلسفية، حالة المثقف الشرقي وهو يكتشف بأم عينيه الفوارق الجوهرية بين ما يعانيه من حالة تخلفٍ في مجتمعه الأصلي، وما يعاينه من حداثة يعيشها الإنسان الغربي في آنية إنتاجه لها، حتى أن الطهطاوي يصف الباريزيين فيقول مخاطبا القارئ الشرقي: "اعلم أن الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل، ودقة الفهم وغوص ذهنهم في الغويصات [..] وليسوا أسراء التقليد أصلا، بل يحبون دائما معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه، حتى أن عامتهم يعرفون القراءة والكتابة "(تلخيص الإبريز. ج: 2 . ص: 147، الهيئة المصرية للكتاب 1993)، وكأنما في وصف الطهطاوي لما يتميّز به الباريسيون (خاصة ذكاء العقل!!) الدليل القاطع الذي يمكنه من وضع اليد على ما لا تتميز به المجتمعات الشرقية من عناصر ضرورية لأية نهضة لم يجد أثرها في مجتمعه، فينبهها عن طريق هذا الدليل، أي عن طريق ما يتميز به الآخر، إلى ما يعتمل في عمق الذات الشرقية من غفلة عميقة أدت بها إلى ترك العقل، والفهم، والمعرفة، والاستدلال، والدخول، من ثمّة، فيما سيسمى في وقتنا الراهن بدائرة التخلف. إنها العناصر نفسها التي لا يمكن أن تتحقق في عامة من يشكّلون مجتمعا ما من دون أن تكون هذه العامة عارفة للقراءة والكتابة، الأمر الذي سيمكنها بالضرورة من سلوك طريق التقليد الذي لا طريق له أصلا، ولزوم "الإتباع" الذي يبعدها عن "الإبداع" بتعبير أدونيس الذي سيلح من خلاله على هذه الإشكالية الأساسية في عقدة النهوض الحضاري من خلال إعادة صياغة ما طرحه روّاد النهضة في بداية القرن الماضي، من زاوية مختلفة وبرؤى أكثر اندراجا في التصور (الباريسي) للنهضة، كما يحلو للكثير من المفكرين استعارة مفاتيح مفاهيمها الجاهزة من صندوق الادخار الحضاري الغربي. -2- ولعل هذه العناصر التي حدّدها الطهطاوي في توصيفه لعقلية الباريسيين، هي نفسها التي سيبني عليها الخطاب النهضوي العربي جلّ منعكساته الشرطية في مشاريعه الفكرية المؤسسة أصلا على فكرة غياب العقل، وسوء الفهم، وقلة المعرفة، وغياب الاستدلال في الحياة العامة للمجتمعات الشرقية المسلمة خاصة، أو ما ستختصره كلمة "العقلانية" التي سيستعملها هذا الخطاب بكثافة في محاولاته التفكيكيّة، بمختلف آليتها المنهجية ومنطلقاتها الإيديولوجية، لحالة الإنسان الشرقي، لأنها مصطلح جامع لكل هذه المعاني، ومحيل في متن هذه الخطابات إلى مرجعية العقلانية الغربية كما أسست لها مرحلتا التنوير والحداثة الغربيتين فيما أنتجاه من زخم معرفي وتحقق واقعي في حياة الإنسان الغربي وهو يعبر مرحلة الانحطاط إلى الأنوار والتحديث بوعي عميق بذاته، وبفهم مؤسس لما يمكن أن يعترضها من تحديات حضارية. وستبقى المرجعية العقلانية التي أنتجتها الذات الشرقية في مرحلة من مراحل تاريخها، في نظر هذه الخطابات، لا أنموذجا فعليا لإمكانية نهضة الإنسان الشرقي من جديد من خلال البحث عن الآليات الفاحصة لمكونات الذات الشرقية وهي في أوج ازدهارها الحضاري الذي لم يكن ليتحقق وينتشر زمنيا ومكانيا لولا توفر شرط "العقلانية"، ولكن مجرد احتمال معرفي وتاريخي لا بد من العودة إليه بوصفه تراثا، نظرا لما يمكن أن يوفره من إمكانات تفكيكية قادرة استنباط الأسباب التي أدت إلى انهياره، وتحليل المعوقات التي حالت دون بقائه، وذلك كله بسبب الاعتقاد الراسخ باستحالة تحقيق عودته، بمرجعياته التي مكنته من التحقق وبإحداثياته التي ساعدته على الاستمرار، في راهن الممارسة الحضارية الراهنة بما تنتجه من قيم مستقبلية تملك قدرة فائقة على إعمال العقل، وترسيخ الفهم، وتكريس المعرفة، وتغليب البرهنة وبالاستدلال، وبما تملك، تبعا لذلك، من قدرة على تحييد الآخر عن الالتحاق بركبها التحديثي. ذلك أن الذي سيرسخ في هذه خطابات مفكري عصر النهضة ومثقفيه بصورة جذرية ونهائية، من خلال سعيهم للتحقيق فكرة النهضة بتوفير الرؤية التحديثية التي لازمت خطاباتهم، هو التأسيس للأنموذج الحضاري الغربي بوصفه حالة مستحيلة المحاكاة من طرف الذات النقدية للمثقف الشرقي بكل اتجاهاته الفكرية ومشاربه الإيديولوجية، لا لأنه الأنموذج القادر على تحقيق ما فقدته الذات الشرقية من بريق حضاري لا يمكن أن نسترده إلا ب (تقليد) الغرب الغالب في تفكيره وفي تحضره، على غرار ما كان قد أشار إليه ابن خلدون قبل ستة قرون في تاريخه المشهور من قاعدة أصبحت مشهورة، وهي أن المغلوب مولوع بتقليد الغالب، ولكن لأنه الأنموذج الذي يحقق للإنسان الشرقي إمكانية الحلم بتحقيق حداثة غربية هو متأكد أنه لن يستطيع بلوغها لأنه لم ينتجها بكل بساطة. -3- ربما لم يكن رفاعة رافع الطهطاوي، وهو يكشف للشرق النائم على ما تختزنه قصص ألف ليلة وليلة من تشويق سردي يجدد إحداثيات التفكير الرومانسي في ما يمكن أن تحققه الذات الثاوية على مجد زائل، محاسن باريس- مدينة الجن والملائكة بتوصيف طه حسين، ومدينة النور بتوصيف الكثير من مثقفي مرحلة التنوير العربي-، مهووسا بفكرة النظام، أي الدولة، الذي لاحظه في هذه المدينة الغربية فحسب، ولكنه ربما كان مهووسا أكثر بفكرة ما يمكن أن تعكسه تمظهرات الدولة في الواقع من أنظمة متناسقة تنعكس مباشرة على حياة مواطينها. وهو الأمر الذي لاحظ الطهطاوي أن المجتمع الذي ينتمي إليه، مصر وسائر العالم الإسلامي، يفتقد إليه جذريا، وذلك على الرغم من توفر الإمكانات النظرية لتحقيقه. ولعله لذلك، كان الطهطاوي يؤسّس، من دون أن يدري، لفكرة ترسيخ مرآة الآخر / المستعمر في عمق الذات الشرقية والتأكيد على عيوبها من خلال مواجهتها بما يعيشه الغرب من نهضة بإمكانها أن تبرز ما خفي داخلها من درن غامر و قابلية مرسخة مشفوعان باستبداد متجدّد، لا تريد هذه المجتمعات أن تتخلّص منها، من خلال تجديدها النظر في مرآة ذاتها، بما تحمله من عيوب وما تكنزه من قدرات، نظرة وجود لا نظرة جحود. إنها مرآة الكولونيالية، كما أرادها نابليون وهو يجلب معه لمصر بالذات ما لم يجلبه بعد ذلك لغيرها، من مطبعة ومن علماء ومؤرخين وأدباء ورجال دين يدعم بهم عقلانية طرحه المنطلق من العناصر التي سيمجّدها الطهطاوي بعد مرور قرن من الزمن، في الإنسان الغربي، والآخر يرسّخ بذلك فكرة استحالة تحقيق خلق مسافة الوعي الضرورية التي تفصل بين مجتمعه المتخلّف وبين الغرب المتطوّر الذي لا يمكن أن ترى الذات الشرقية وجهها الحقيقي إلا في مرآته. فهل كانت الكولونيالية هي مرآة الشرق الناصعة؟ وهل المشروع النهضوي التحديثي، بما هو رؤية فلسفية وفكرية ومشروع دولة قوية قادرة على الديمومة، هو هذا (الآخر) الذي لا يمكن أن يكونه الشرق نظرا لما تنتجه مجتمعاته من ثقل تخلفي كثيرا ما ساعد هذه المرآة على إبراز عدم قدرة الشرق المطلقة على الخروج من الإطار الكولونيالي الذي وجدت صورتها فيه وأصبحت تلح على بقائها داخله بقوة وقع ما تُنتِجُه التغييرات الزمنية والتقنية التي تلحق عادة بمفاهيم الحداثة والدولة والعمران من معوقاتٍ لا تزيد هذه المجتمعات إلا تخلفا على تخلفها، ولا تزيد مثقفيه إلى انبهارا بالأنموذج الغربي بوصفه أنموذجا غير قابل للمحاكاة. وهل سيحيلنا هذا الاندراج الجماعي في النأي بالذات الشرقية عن إمكانية تحقيق الفعل الحضاري إلى الاقتناع النهائي بعدم قدرة مشاريع التحديث والمشاريع النهضوية بكل توجهاتها الإيديولوجية وفي كل ما حققه مفكروها من منجز فلسفي وفكري خلال ما يفوق القرن من الزمن، على بلورة مشروع نهضوي يستخلص الدرس مما أنتجه من تراكمات القراءة السابقة للحظة الحضارية كما تجلت في سيرورة ما جادت به تعاملات المثقف الشرقي المنبهر بالأنموذج الغربي، وعلى تجاوز أسر تقليد الغرب في حداثته التي تمنعنا من إنتاج حداثة خاصة بنا، وعلى الانتباه إلى خطورة البقاء في دائرة المحاكاة البهلوانية للحداثة الغربية بوصفها منتجا مستوردا غير قابل للمحاكاة يمكن مفكريه من تجاوز عقبة المكوث الأبدي أمام المرآة الغربية العاكسة للظل الأعوج؟