-1- هل بإمكاننا أن نرصد الفارق الجوهري بين واقع المجتمعات العربية، أي واقع ما يعيشه المواطن من مكابداتٍ موجِعة مرتبطة بمواجهته اليومية لتبعات الغَلَبَة الحداثية التي يفرضها عليه الغرب المُنتِج للحداثة، وبين المسارات الفكرية النظريّة التي قطعتها نُخبُهَا المتنوّرة؟ وهل بإمكاننا أن نرصد في هذا الفارق- إذا ما استطعنا أن نرصده- الروابط والصلات بين تصوّر الإنسان العربي في طبيعة اندراجه في بنية المجتمع، وفي بساطته مكابدته اليومية لمواطنته وللعوائق التي تحول دون تحقّقها حداثيًّا في الواقع الذي يعيشه، وبين طبيعة التصور الحداثي كما دونته هذه النخب في مشاريعها الفكرية والفلسفية، وكما يتجلّى نظريا في منجزها الإبداعي والنقدي؟ وهل بإمكاننا مساءلة هذه النخب المتنورة عن مستوى ما حققته خطاباتها النظرية في أرض الواقع، وعن نسبة تحقُّقه في تربته، وعن مدى إنجازيّة ما اقترحته، ولا زالت تقترحه، من مشاريع نظرية، وكذلك في ما أبدعته من أفكار حديثة في كل موجة فكرية جديدة تهبّ على المجتمعات العربية طيلة ما يزيد عن قرن من الزمن؟ وهل يمكن أن نعتقد في دواخل وعينا بالحقيقة التاريخية التي آلت إليها المجتمعات العربية أن الخطاب النهضوي كان له دور فاعل في التأسيس للتجربة التحديثية كما حققتها الأنظمة السياسية للدويلات الوطنية في هذه المجتمعات على امتداد القرن العشرين؟ -2- ينبئ مسار التصور الحداثي المتعثّر في المسلك الواقعي للمجتمعات العربية عن توجسات عديدة طالما رافقت الاستفاقة التحديثية منذ بداية هذا القرن. ولم تكن ثمة من إمكانات فكرية ومادية كفيلة بدرء المصاعب المتولدة عن السؤال الأرسلاني المشهور، وعمّا سيسميه أدونيس، فيما بعد، ب "صدمة الحداثة"، ليستطيع من خلالها المثقف الحَداثيّ المتنوّر أن يؤسّس لحركية معرفية فاعلة في بناء علاقتها مع الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، والذي من المفروض أن يكون نتيجةً حتميةً له من حيث هو إفراز مُرَكَّزٌ لرغبة المجتمع الباطنة في تمثيل رؤيته الواعية واللاواعية بما يدعو إليه المثقف المُنْتَخَبُ بعناية لتمثيل هذا التصور والتعبير عنه بعمق من خلال بناء علاقة تحترم المعطى الاجتماعي، وتؤسس للانطلاق ممّا ينتجه واقع المجتمع من أسئلة جوهرية سرعان ما تتحول- وقد تحوّلت فعلا في كثير من الأحيان- إلى مطالب مستعجلة كان على هذا الخطاب أن يتكفّل بالإجابة عنها من حيث هي ضرورة فكرية مُلحّة في واقعية ارتباطها بالحراك المطلبيّ، لا رغبةً عابرة ألِفَت المكوث الأبدي في "نظرية المعرفة"، وتعوّدت على مساءلة التراث، سلبا أو إيجابا، للبحث عن إجابة، لم تكن، في نهاية الأمر، وبناءً على ما أفرزته هذه الممارسة النظرية من انفصال بين المواطن والنظريّة، إلاّ متناقضةً مع راهن هذه المساءلة ومع جوهرها، وغير واعيةٍ بما تُحدِثُه، لكثرة إبعَادها عن مركزية الممارسة المعرفية، من عمْقٍ في مساحة الشرخ الظاهر بين المثقف كما يريد للمجتمع أن يكون، وبين المجتمع كما يريد للمثقف أن يكون. في جلّ خطاباته النظرية المؤسَّسة على التعامل مع أدبيات النهضة الأوروبية، ومحاولته تمريرها كمعادل موضوعيّ قادر على التحقّق في مساحة سوسيو- ثقافية تحمل همّا واقعيا يعيشه المواطن العربي هو على بُعد مسافاتٍ ضوئية عمّا يقترحه المثقف الحداثيّ، لم يكن هذا الأخير، وهو يجتهد في البحث عن حلّ جذريّ لمشكلة التخلف، والاستعمار، والاستعمار الجديد، والأنظمة السياسية للدولة الوطنية حديثة النشأة، وغيرها من القنابل الثقافية والعرقية والقبلية والحدودية الموقوتة المتروكة بعناية في البيت الخلفي كهدايا ما بعد كولونيالية، ليراعي واقع المجتمعات العربية، في خصوصية تكوّنها الاجتماعي، وفي ما يخبئه درسها التاريخي المأهول بالمكبوتات غير المُحرّرة، وبالمكتوبات غير المقروءة، وبالمخطوطات غير المُحقَّقة، من مكائد ومفاجآت لم تكن في يوم ما معطى ممركزا في بنية خطاباته الفكرية التي كانت تلجأ عادةً إلى القرون القديمة لتاريخه من أجل البحث عن الإجابة الجاهزة لما يعترضه من معوقات راهنة في متون التراث، في نسخته التنويرية الناجحة بوصفها مرآةً لِمَا كان عليه الأجداد من تطوّر لم يدرك الأبناء مغازيه، ولم يفتحوا رموزه المشفّرة تشفيرا دافينشيًّا. -3- هل تحوّلت الحداثة بوصفها خطابا متمركزا، نتيجةً لهذا التعامل، إلى فعلٍ تسلُّطِيٍّ قامعٍ لما يمكن أن ينشأ من و/ عن علاقة عقلانية بينها وبين المواطن البسيط بوصفه مركزا إنسانيا لتحقّق الواقع، عندما ألحت على جرّ الواقع إلى أتون النظرية، وعلى الإيغال، من ثمّة، في الممارسة النظرية التي حاول الخطاب الحداثيّ أن يزرعها في تربة ثقافية مُعبِّرة عن واقع اجتماعي، تبيّن الآن أنها كانت ولا زالت غير صالحة لتلقي بذور الدرس النظري المزروعة في ثناياها- بدون استشارة المواطن البسيط القاطن في هذه الثنايا- من طرف أبنائها المفكرين المتعالين الذين لم تعد تربطهم بها أية صِلة واقعية، لا من حيث انتمائهم الاجتماعيّ، ولا من حيث مكابدتهم اليومية لمرارة الواقع، ولا من حيث مآلاتهم الاعتكافية في معابد المعنى؟ وهل يمكننا أن ننظر إلى هذه المشاريع المتراكمة في أدراج الذات الثاوية في سُريّة تعلّقها بكل ما هو راكد، على أنها لم تكن غير خطابات استعلائية لم تحقق الهدف الأساسيّ المرجو منها، وهو المشاركة في تغيير الواقع المرير للإنسان العربيّ في خريطة جغرافية تمتدّ "من طنجة إلى جاكرتا" بتعبير مالك بن نبيّ، وفي خريطة زمنية تمتد من نهايات القرن التاسع عشر، حيث طُرِحت المساءلات الأولى للجرح النهضويّ، إلى بدايات القرن الواحد والعشرين حيث ازدادت هذه المساءلات تعقيدا وإلحاحا في البحث عن إجابات لم يكن السؤال الأرسلانيّ إلاّ صدى مفجعا لا زال يتردّد في أودية التيه النظري للممارسة الحداثيّة، وفي أرصفة المدن المزيّفة التي يبدو فيها المواطن البسيط بوصفه مركزا إنسانيا لتحقّق الواقع، غريبا في ممشاهُ الوجودي نحو تحقيق ذاته المستعصية على التحقّق في تربته الوطنية؟ ربما تكمن فجائعية السؤال الأرسلانيّ في واقعية صياغته المأساوية من حيث هو ارتداد لصورة انفصال المشتغلين على الحقل النظري من المفكرين والفلاسفة العرب المعاصرين عن الواقع الذي انتهوا إلى عدم معرفته، أي جهله جهلا تامًّا، بسبب كثرة الإلحاح على المكوث في لبّ النظرية. وربمّا انتهى هؤلاء المفكّرون إلى اليأس من ربط الصلة بينهم وبين المجتمعات التي يوجهون إليها خطاباتهم على اعتبار أن هذه المجتمعات هي في الأصل بيئةٌ مناوئة لأطروحاتهم الفكرية، ومناقِضة لمشاريعهم النهضوية، وغير متلائمة مع تصوراتهم النظرية، وغير منسجمة في نهاية الأمر مع مجمل التصورات التي يحملها هذا الخطاب عن نفسه، وعن المجتمعات التي يسعى إلى تغييرها، والتي يريد من خلالها تقديم الحلول التي يتصور أنها الأحق بأن تتحقق نظرا لثقته بعقلانية مقاربتها بغض النظر عن واقعيتها أو عدم واقعيّها. ولعل هذا ما أدّى إلى اصطدام هذا الخطاب بلا إمكانية تحقُّقِه على أرض الواقع، ممّا جعله يؤكد، من خلال انتقاله من مرحلة البحث عن الحلول والتبشير النظري بإمكانية تحقّقها، إلى مرحلة الدعوة إلى لا جدوى البحث عنها، على استحالة الانطلاقة الواعية للفعل النهضوي في المجتمعات العربية نظرا لعدم إمكانية توفّر آليات انطلاقته، وعدم القدرة على تشغيلها إذا ما توفّرت، بسبب كثرة الأعطاب الكامنة في واقع المجتمع، وليس في البنيات النظرية للخطاب النهضويّ التي لم تستطع المجتمعات العربيّة مُمثّلةً بالمواطن البسيط بوصفه مركزا إنسانيا لتحقّق الواقع، أن تستوعب معطياتها النظريّة المعقدة. -4- يعيدنا السؤال الأرسلاني بحضوره القويّ، وبقوّة صداه المتردّد في رزنامة ما يقع للمجتمعات العربية اليوم من محق ممنهج للذات، ومن تشتيت للمجهود، ومن تفكيك للبنيات، ومن تقطيع للأوصال، ومن تدمير لما أنجزته المشاريع السياسية للدولة الوطنية المابعد كولونيالية من تحديث قسري زائف، إلى حقيقة كبرى ربما تمثلت كليّا أو جزئيّا في مدى واقعية المجهود الفكري والفلسفي العربي طيلة مدّة الزمن النهضوي، وفي مدى ارتباط أطروحاته بالمكابدات الواقعية التي عاشتها وتعيشها المجتمعات العربية، وفي مدى عقلانية قدرته على الاعتراف بأن جلّ المشاريع النهضوية لم تكن- منذ ما حمله طه حسين وجيله من سؤال استفزازيّ للذات الثاوية في الحلم الكولونيالي، إلى ما حمله محمد أركون وجيله من سؤال استفزازيّ للذات المتشظية على دويلات ما بعد الكولونيالية- على علاقة واقعية مباشرة بالمجتمعات العربية التي ولدوا ونشأوا فيها، ولكنهم لم ينتموا إليها معيشيا وحياتيًّا وواقعيّا. كما لم تكن هذه العلاقة مسارا واقعيا مفتوحا على إمكانية بناء روابط متينة جديرة بالانغراس في تربة مجتمعاتهم، وبالنمو الطبيعي في ما تحمله من تفاعلات تحتية تغيب عادةً عن نصوصهم الفكرية بمقدار ما تغيب حقيقة المجتمع عن واقع المقاربة النظرية لنخبه المتنورة. ولعله لذلك، تبدو هذه المشاريع، وبعد مضيّ ما يجاوِزُ القرن من الزمن، وهو الزمن النهضويّ بطموحاته النظرية العارمة، وبانتكاساته الواقعية النافذة، وكأنها تصورات وهمية مكبوحة الحركة ومقطوعة الجناح في ما ترزح تحته من ثقل نظريّ برّاق، وغير ذي صلة عملية بالحركة التاريخية للمجتمعات العربية في عشوائية انفجارها الثوري، وهي تواجه المشاريع السلطوية التي تتعامل معها بواقعية، وتخطط بناء على ذلك لمستقبلها المعزول عمّا كانت تقترحه المنطلقات النظرية للخطاب الحداثيّ من مشاريع فكرية وفلسفية. ولعله لذلك كذلك، لا زالت هذه المشاريع تحمل بصمة الانفصال عن الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمعات العربية بمختلف توجهاتها السياسية والإيديولوجية، حتى وإن حاولت أن تُسقِط من حين لآخر في مقارباتها للفكر الغربي، وفي نتائج غطساتها العميقة في تنظيراته وتاريخه وتجاربه، أو حاولت أن تُسقِط ما تراه درسا إيجابيا في التراث العربي على الواقع العربي، وذلك نظرا لمسافة الفارق بين ما كانت تقترحه من رؤى نظرية، وبين ما كانت تحققه المنظومات الاقتصادية والممارسات السياسية للدولة الوطنية من إنجازات هشّة لا تلبّي بالضرورة طموح النخب المتشبثة بالتصورات النظرية لمشاريعها من خلال مطالبة النخب السياسية الحاكمة بتطبيقها على أرض الواقع، ولا تلبي رغبة المجتمعات في الوصول إلى حداثة مرتبطة بالحياة اليومية من خلال تحسين الوضع المعيشي في عقلانية ما تتطلّبه حركة الإنماء الاجتماعي والثقافي من توطين القيم التداولية في مجتمع تميزه حركة الدوران المغلق على الذات من خلال ترسيم الحاضر بوصفه مشروعا مستقبليا وحيدا قادرا على درء ما يكتنف المستقبل القريب من غموض. ولعله لذلك، تظهر المشاريع النظرية للزمن النهضوي وكأنها منفصلة تمام الانفصال عمّا ينتجه الواقع من تناقضات، نظرا لانشغالها بالبحث عن مسببات هذه التناقضات في الإصرار على العودة إلى الماضي لاعتقادها المطلق أن جل إشكاليات التحديث التي تعاني منها المجتمعات العربية إنما مردّها إلى الماضي بوصفه تراثا حاضرا في مسار الواقع الاجتماعي اليومي للإنسان العربي. ولعله لهذا السبب كذلك، كان ارتماء جلّ المشاريع الفكرية العربية التي شهدها القرن العشرين، التنويرية منها أو الحداثية، في التراث: - إما في محاولةٍ مندفعة للبحث عن مسببات التخلف الذي تعاني منه الذات الغائبة عن الفعل الحضاري، بقراءة آنية معاصرة تروم البحث عن الوسائل الكفيلة بإقصاء الماضي بوصفه تراثا مُعيقا لانطلاقة الحاضر، نظرا لاعتبارها أن النهضة الغربية إنما قامت على شرط معرفيٍّ وحيد وهو إحداث القطيعة العقلانية مع الماضي، وربط الذات الحضارية الغربية بما يشغل آنية وجودها وقدرته على إنتاج الفارق الفاصل بين ماضيه ومستقبله. - وإما في محاولة البحث عن العوائق التي تقف في وجه تحرر الفعل الحضاري من أثقاله الآنية في ما يختزنه التراث من إمكانيات كفيلة باستنباط رؤية عقلانية ذات معالم واضحة تساعد على تخطّي جدار المكوث في الحاضر المعزول زمنيا عن الماضي، وغير القادر فعليا عن الاندراج في المستقبل. ولعله لهذا السبب كذلك، تظهر المشاريع الفكرية العربية وكأنها مغرورة بما تحمله من طموح زائد في خضم تحمّسها لقراءة الماضي على أنه تراث، وذلك من خلال محاولاتها استنباط الإجابات النظرية من المسارات المعرفية التي تبنّوْها، والتي لا زال يبحث عنها السؤال الكبير الجامع الذي صاغه شكيب أرسلان في صياغة هي من الوضوح بحيث لم تترك أدنى شكّ في التوجه مباشرة إلى عمق الجرح الحضاري لِمَا كان ولا يزال يستحِي الكثير من المفكرين الحداثيين، كما غيرهم من المفكرين النهضويين، من مواجهته واقعيا وهو: (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟).