قلت، مرارا وتكرار، أنه لا يمكن للكلمة أن تحافظ على بقائها وثباتها إلا إذا اعتمدت على مرجعيات، في البدء لم تكن الكلمة إنما كان الشيء، يؤكد سامويل جونسون في قاموسه أن الكلمات هي بنات الرجال، أما الأشياء فهي بنات السماء، إن اختلاف الكلمة عن الجملة أو النوتة الموسيقية ما هو إلا محاولة لإيجاد، من خلال حركات الفم، الشكل الذي يعطي للظواهر الخارجية رمزا·· تتضمن هذه الظواهر الخارجية أحاسيس ومشاعر جد داخلية، هناك شيئان في هذا العالم، اللغة وكل الأشياء التي ليست كذلك، لا زلنا لا نعلم فيما إذا حاولت اللغة إيجاد مقابل إيكينوجرافي لمعطيات المعاني· لا نملك إلا القليل من الكلمات التي تحاول أن تعطي للمعطيات المعاني الخاصة بها مثل كلمة القمر التي تريد أن تعبر عن الدوران وطول الجسم السماوي، أغلبية الكلمات حسب سوسور soussure، هي عبارة عن كلمات جامدة إعتباطية جامدة، لأنها لا تستطيع مقاومة التغيير الإعتباطي لأن هيكلها لا يستطيع الحفاظ على العلاقة الأساسية مع مرجعياتها· ما إن نخضع لاستعمال اللغة حتى نقوم بتقليد أصوات جامدة إعتباطة، إتفق المجتمع الذي نعيش فيه على أن لها مدلولات لأشياء ومشاعر وأفعال، فكلمة الجمال مثلا هي كلمة إعتباطية، شأنها شأن كلمة رقم، حكم، أخلاق، جماليات.. الكل يعلم أن اللغة في خدمة واقع لما قبلها، يحاول المجتمع المصطنع أن يعطي للكمات واقعا خاصا· بعض أعضاء حركة تحرر المرأة يرون أن الرجل هو الذي ابتدع كلمات الميز ضدهن، غير أنهن نسين اعتباطية وجمود تلك الكلمات التي اتهمن الرجل بانتداعهن· إقترحت، إحدى النساء الأمريكيات، إستبدال كلمة شاهد لأنها تراها من الناحية الإيتيمولوجية ذكورية جدا، لذا طالبت بإيجاد المقابل الأنثوي لها· إكتشفنا أن علم الإشتقاق اللغوي يشرع لغويا للجنسين، إن الحكام المعروفون بالهروب يحسنون جيدا التلاعب بالجهل دون الإغراق في الإتيان بالمدلولات لعباراتهم· إن الأدباء الذين يدعون أنهم يتعاملون مع الكلمات، تعاملا جديا يستعملون في الكثير من الأحيان الجمل المجازية التي ليست سوى عبارة عن وشم، مثلا هم يكذبون عندما يقولون أن شهر أفريل هو شهر متوحش، وعندما يقول سويني sweeney أن الحياة هي الموت، فهو هنا يتوفه بحمقات· لكن هناك معاني تجعلنا مجبرين على النظر للواقع نظرة جديدة عندما نقبل بالمتناقضات مثل ''فينجاس واك'' الذي يقترح علينا أن الحياة عبارة عن دائرة نقطة، بدايتها هي نقطة نهايتها، من هنا نقول أن عملية الإنبعاث تعني موت القديم· الحياة هي الموت لأنها تتحرك باتجاه الموت إنطلاقا من المنطلق نفسه، بعض الشعراء إحتفوا بدائرة الحياة، مبرزين أنه من الممكن التعبير عن الأشياء بألفاظ متناقضة، ما أدى بهم إلى تبني جمالية يعبرون من خلالها بتعبيرات جد خاصة، إذا كانت الحياة هي الموت، فمن الممكن أن تكون هذه الحياة عبارة عن سلة فراولة أو سيارة أو ريح أو كلب أسود.. وحتى نذهب بعيدا نقول أن الحياة هي عبارة عن وحدة· ليس من السهل أن نكتب كتابة عبثية لأن الكل مرتبط بالكل، فالملعقة والقبعة تشتركان في كونهما غائرتين فصفة ''الغائر'' هي التي تجمع بينهما، فإذا لم تكن هذه الصفة تجمعهما، فستجمعهما صفة أخرى· إذا أصبحت العبثية شيئا غير ممكن، فإن هذا قد يتسبب في يأس الكاتب في تبني نوع من الكتابة، أقصد بهذا الكلام أن الكاتب قد يشعر بالغيرة من الموسيقي الذي يضع اللحن معتمدا على مرجعياته الموسيقية نفسها، فيتمنى أن يصبح موسيقيا حتى يتخلى عن الكلمات ما تعنيه، كما قلت الحياة عبارة عن وحدة والكلمات تفكك هذه الوحدة، فاللفظ هو عبارة عن دال شيء والجملة المبنية بشكل جيد تثبت الواقع الخارجي، فلا أحد من الكتاب بإمكانه أن يختار لفظ إعتباطيا ليحرر اللغة من العالم الخارجي· من الواضح أن الشعر السوريالي بإمكانه أن يحرر الخيال من فكرة السبب والمسبب، مثل الحلم أيضا لا تستطيع الكلمات أن تتحرر من مرجعياتها،و غير أن المرجعيات ممكن جدا أن تصبح غامضة· إن كتابة الرواية تقتضي مقاربة مع اللغة بعيدا عن عالم الخطاب العادي، يتطلب شكل الرواية مراقبة صارمة للوسط اللغوي، يجب أن تكون اللغة شفافة وليست غامضة، لأن القارىء يركز على الأشخاص وعلى حيثيات السرد، يفرح كثيرا إذا ما سمع بأن الكتاب الذي يقرأه سيتحول إلى عمل سينمائي، متمنيا من الكاتب أن تقف اللغة موقف الوسط بين القصة والفيلم· إستطاع فيلندج Fielding أن يجعل القارىء يتابع حركات أشخاصه بشكل مقنع، حيث بدا أنه قد تجاوز اللغة. إن ديكنز المنتمي إلى السوريالية (الكثير لا يعترف له بهذا الإنتماء) إستطاع أن يبتدع ''كاركتر'' Caractere حيث لا فرق بين الأمثلة التي ساقها وحرفية النص· في ''عوليس'' لجويس نلاحط اهتماما بالغا باللغة، لدرجة أن النقاد أجمعوا على أنه في الوقت الذي كان يحق للقارىء أن يستمتع بسرد واضح، تعمد جويس الغموض أكثر· غالبا ما يشعر القارىء بالقلق عندما يلاحظ أن الروائي يعمد إلى أن تبتعد اللغة عن مرجعياتها· ''ويليم بلاك'' يدفع بأبطاله إلى وضع رؤوسهم في النار، ثم ينكر الخيال، مدعيا أنه كان يمزح مع القارىء، أما لورنس شتيرن في ترستام تساندي TRISTAM SHANDY فإنه يصور لوفرف LE FEVRE يغمض عينيه ليموت، ثم يفتحهما ''هل أواصل؟ لا''· كلا الكاتبان يعلمان أن اللغة هي أحد أشكال المناورة، لذا يعمد الروائي إلى الدخول في لعب نظيف معها· إستطاعت فرجينيا وولف Virginia Woolf التي تنتمي إلى مدرسة الرواية الحرة في عملها ''أورلاندو'' أن تجعل بطلها يعيش ثلاثة قرون ويغير جنسه· أما خورخي لويس بورخس فقد قام في قصته القصيرة ''ابن رشد'' بوصف الفيلسوف الإسلامي وصفا دقيقا حيث تنقل للحديث عن أصدقائه ليعود إلى بيته، ويواصل العمل حول التعليقات الخاصة بأرسطو، يقول ''يوجد الكثير من التراجيديا في القرآن''، ينتهي المشهد بسرعة: يعترف ابن رشد بأنه لا يعدو أن يكون سوى عبارة عن شكل لفظي Structure Verbal حيث بإمكان المؤلف نفسه أن يحطمه، لقد فقدنا الثقة في ابن رشد بصفته موسوعة، الأفضل أن نفقد ثقتنا فيه كوحدة· يمكن أن يحدث هذا إذا أراد المؤلف ذلك، ولكنه لا يفعل ذلك لأنه قد أبرم اتفاقا مع القارىء، ألا يحدث هذا· جمالية بورخس تكمن في توظيفه للخيال أو في التظاهر بتوظيف الخيال، فالخيال كذبة، والكذبة يجب استغلالها· حسب أفق بورخس، لا يستطيع القارىء أن يتعرف فيما إذا كان الشخص حيا أم لا، في الزمان والمكان عندما يقول مثلا ''جزار العائلة أعور''. من سنوات كتبت رواية حيث أن البطل لاعب هاو، قلت عنه ''صعد أو نزل تحت الكرسي'' مثل هذا الكلام حيّر القارىء والنقاد، ربما أرادوا أن يجمعوا الصور المتناقضة تحت تأثير فكرة الشاعر السوريالي· ينتظر القارىء من الرواية أن تقدم لغة شفافة يستطيع من خلالها أن ينظر إلى عالم عادي لا لبس فيه· يريدون من كتابي أن يشبه الفيلم. يجب أن تتحول الروايات التي تخلق مشاكل للقارىء إلى أفلام، فالرواية التي تتحول إلى فيلم بسهولة يمكن أن ندرجها ضمن روايات الدرجة الأولى· قبل مرحلة ''عوليس'' لم تكن هناك ضرورة لأي تصنيف· إن اللغة في الرواية درجة 1 هي لغة شفافة، غير مغرية، الإحالة والغموض منعدمان فيها· أما الرواية درجة ,2 فإنها تستغل وتستثمر غموض اللغة، بإمكان الهيكل أن يمتلك المعاني خارج حيثيات السرد وخارج الإقتباس المرئي· إذا كانت الرواية درجة 1 قريبة من الفيلم، فإن الرواية درجة 2 قريبة من الموسيقى· الروايات التي تباع يوميا في الأكشاك تنتمي إلى الدرجة .1 ''عوليس'' تنتمي إلى الدرجة ,2 فاللغة مهمة في حد ذاتها، كما أن هيكلها العام يخدم أهدافا رمزية، مليئة بالتقنيات، منعت هذه الرواية بسبب مضمونها الإباحي ولغتها الوسخة، ثم تحولت إلى رواية كلاسيكية تنتمي للدرجة ,1 نفس الشيء يمكن أن يقال عن ''لوليتا'' Lolita لنابوكوف، رواية من الدرجة 2 بامتياز، بها توظيف للجنس جد مدروس، خيبت أمل الأدباء· هاتان الروايتان تحولتا إلى فيلم بذكاء، لكن لم تستطع الشاشة أن تنقل مميزاتهما كونهما تتنتميان إلى الدرجة .2 في ''عوليس'' إختفى الرمز، أما في ''لوليتا'' فلم يجد الهوس الجنسي الذي صاحب الهوس اللغوي موطىء قدم، مليوبولد بلووم، لم يكن عصريا أما أومبرت أومبرت، فهو شخص عادي مثل كل الناس، ومنحرف بعض الشيء· لا نعرف فيما إذا كانت شخصية كلار ''كويتلي'' في ''لوليتا'' موجودة في الواقع أم أنها مجرد مشروع لهوس القاص· حول ''كوبريك'' رواية لي إلى فيلم يمكن إدراج هذه الرواية ضمن الدرجة ,2 إنها عبارة عن دردشة لعنف الشباب، تشجيع القارىء على الإستمتاع بالعنف تصرف غير أخلاقي لا يمت بصلة إلى الفن· لا يستطيع الفيلم أن يفعل الشيء الكثير إزاء اللغة، أصر الفن السينمائي على تقديم العفن بشكل ساذج قضيت سنوات طويلة وأنا أدفع عن نفسي تهمة التحريض على العنف من قبل أولئك الذين شاهدوا الفيلم·