كانت التحليلات الخاصة بسقوط المعسكر الشرقي ذات مصداقية كبيرة لأنها اعتمدت على ظروف واقعية عاشها الاتحاد السوفياتي في نهايته، بعد فشل الإصلاحات الداخلية التي قام بها ميخائيل غورباتشوف، غير أن تلك التحاليل لم تكن لتتنبأ بعودة الجار الشرقي في ثوب جديد سنوات بعد ذلك، وهو الأمر الذي يقوم به بوتين الشاهد الأخير على سقوط الاتحاد السوفياتي. تختلف القراءات المتعلقة بالخطوة الجريئة التي قام بها بوتين في القرم، غير أنها تتفق حول عنصر هام في السياسة الخارجية لرجل الكاجي بي السابق، وهو أن روسيا ليست مستعدة للخسارة أكثر مما خسرت سابقا، ولهذا يعتقد بوتين أن سقوط الاتحاد السوفياتي أو تفككه كان الخسارة الأكبر في تاريخ إمبراطورية القياصرة. ولما يتعلق الأمر بالقرم نستطيع القول إنها تشكل نموذجا مهما لمشكلة الأقليات التي ترمي بثقلها في التاريخ الحديث، فقد كانت هذه المنطقة تابعة لروسيا ثم ضُمّت في عهد خروتشوف باعتباره أوكراني الأصل، غير أن ساكنيها كانوا يعتبرون أنفسهم روسا أكثر من كونهم أوكرانيين، وقد اختلطت الأهمية الديمغرافية للمنطقة بأهميتها الجغرافية، فقد كانت المنطقة مسرحا لحرب القرم الشهيرة، وتعتبر مناطق بحر أوزوف وميناء سيباستبول مناطق هامة للدولة العثمانية التي تنازلت عنها تباعا نتيجة تراجع قدراتها في المواجهة رغم المساعدة الأوروبية، كما كانت المنطقة شاهدة على مؤتمر يالطا الذي أعاد ترتيب المناطق المحررة من السيطرة النازية بين ستالين وروزفلت وتشرشل. يكاد التاريخ يعيد نفسه وعلى مستويات مختلفة، يذكرنا مشهد ردود الفعل الأوروبية المحتشمة بمقولة تشرشل غداة مؤتمر ميونيخ الذي عقد قبل الحرب العالمية الثانية، وهو المؤتمر الذي اضطر فيه الحلفاء إلى قبول توسعات هتلر الذي ضم تشيكوسلوفاكيا والنمسا، حيث صرح قائلا ".. كان على الحلفاء في المؤتمر المذكور الخيار بين أمرين، الحرب أو الخزي، فاختاروا الخزي لتلافي الحرب لكنهما تحملا بمرارة الخزي والعار وعجلاّ باندلاع الحرب العالمية الثانية.."، فخلال هذا المؤتمر استسلم الحلفاء لرغبات هتلر وقبلوا توسعاته أملا في إبعاد شبح الحرب غير أن هذا الأخير كان مصمما على الحرب ذاتها. واليوم يُظهِر موقف أوربا تجاه الأزمة الأوكرانية حالة التيه التي تسود الموقف الأوربي الذي ظهرت فيه حاجة أوربا لأمريكا رغم المسيرة المهمة التي قطعتها الوحدة الأوروبية، كما تتزايد الضغوط على أوربا في ظل الحديث عن حقوق الأقليات الروسية في تقرير مصيرها ومطالبة بعض الأقاليم الناطقة بالروسية الانضمام إلى روسيا. ولهذا تحتاج أوروبا إلى نفس عميق لتحدي بوصلة السياسة الخارجية، خاصة أن دولا في الاتحاد ليست مستعدة لتخسر أكثر، والحال هنا ينطبق على ألمانيا التي ترتبط بعلاقات اقتصادية مهمة مع روسيا، إضافة إلى تأثرها بالسياسة الجماعية للاتحاد والتي جعلتها في مقدمة المساهمين في المساعدات المالية لدول مثل اليونان وإيرلندا والبرتغال، ولذلك يبدو الموقف الألماني مترنّحا إلى حد ما، وهذا ما ينطبق على أغلب الآراء الأوروبية التي يبدو أن بوتين كان متأكدا منها، الأمر الذي جعله في موقف قوة، خاصة أمام الزيادات الأخيرة لروسيا في سعر الغاز الذي ارتفع سعره مرتين في ثلاثة أيام، مع مطالبة روسياأوكرانيا بدفع ملياري دولار كديون مستحقة عليها، الأمر الذي يوضح حضور العامل الاقتصادي في الأزمة الأوكرانية. وعلى المستوى الإقليمي تبدو تركيا في موقف قوة من حيث أن القوانين تسمح لها بغلق ممر الدردنيل أمام السفن الروسية، وهو ما من شأنه تقوية فعالية العقوبات الاقتصادية المزمع فرضها على روسيا، وهنا يمكننا أيضا الوقوف على قرار تركيا بغلق الممر أمام المساعدة الأمريكية لجورجيا في حربها السابقة ضد روسيا، كما تظهر الصين على مسرح الأحداث وهي التي يهمها أمر آسيا الوسطى، ومن هنا تجد نفسها أمام ضرورة أخذ موقف من روسيا كما يأمل الأوروبيون الذين استقبلوا الرئيس الصيني مؤخرا بحفاوة، خاصة إذا علمنا أن سقوط الاتحاد السوفياتي ساهم في بروز زعامة الصين على المستوى الآسيوي على أقل تقدير. ونتيجة لهذه التطورات تجد أوربا نفسها أمام ضرورة اتخاذ الخيارات التي تسمح لها باستعادة مصداقيتها في الدفاع عن جزئها الشرقي الذي يبدو أن روسيا لم تستسغ أبدا نزوعه نحو الغرب، وهو ما تجلى في خطة بوتين الذي يكاد يكرر ما قام به هتلر سابقا متجاهلا مواقف الأوربيين ".. كتلميذ غير مبال في آخر الصف.." تماما كما وصفه أوباما. *مدرسة الدكتوراه، جامعة وهران. لخضر سعيداني*