كلما أذهب إلى المطار أرى عجبا.... المودعون يبكون، والمستقبلون يبكون.... القادمون ينتحبون، والعائدون ينتحبون.... بكاء ودموع....هل الحياة مثل المطار، قادمون وذاهبون؟ هل الحياة مثله مليئة بالدموع ...ربما هي كذلك.... هنالك من يبكي من الفرح، أعرف كثيرين بكوا من الفرح لما أخبرتهم الممرضة بميلاد طفل...أو طفلة جميلة....كما بكوا لما نعوا إليهم أو عاينوا وفاة أبائهم أو أماهتهم! بكى من خسر امتحان البكالوريا، وأيضا رأيت الكثيرين يبكون لما أبلغوهم بالنجاح.. وسالت الدموع من أعينهم... وسمعت الكثيرين يقولون دموع النجاح ما أروعها وأصدقها! أمي تبكيها المواقف الدرامية المؤثرة من مسلسل مصري أو فيلم هندي، غير أني كثيرا ما رأيت الدموع تملأ عينيها مختلطة بالقهقهة وهي تتفرج على بوبقرة أو وردية.... بكى من تعرض للخيانة من طرف زوجته أو غدر من صديق قريب، وكثيرا ما تتحجر الدموع في المقلتين ولا ندري بماذا نجيب وكيف نشكر من أحسن إلينا، وأننا ما توقعنا الإحسان منه! وكلما أرى الناس يبكون ...أتذكر أعظم دمعة.... وأشد دمعة إيلاما لي في حياتي كلها... دمعة جرت من عيني والدي وهو الذي لم أره حزينا أبدا، وطالما كان يخفي ألاما بسبب تقلب الأيام! لما عدت منهزما من مدينة وهران، وأخبرته أني توقفت عن الدراسة الجامعية، وأني لا أرغب في الدراسة أصلا....وقد كنت أمله في أن أحقق بعض أحلام شبابه! وأنا لم أعلم بتلك الدموع إلا بعد سنين، إذ أخبرني أحد أصدقائه، لما قال لي: إن والدك يحبك كثيرا... ولقد صرخ في وجهنا في تلك الليلة، ورأينا الدموع تنهمر من عينيه، وهو الذي عهدناه منبسطا، ولم نره باكيا أبدا أو شاكيا... يا ليت ذاك الصديق لم يخبرني! شعرت بعظم الذنب ليس في حق نفسي فأنا أعرف أن كل شيء يعوض ما دام في العمر متسع! ولكن بسبب الألم الذي سببته لوالدي.... واستطعت أن أتجاوز كل المحن وسنوات الفراغ والضياع، وفتح الله علي ...والله دائما مع الصابرين...وتحصلت على عمل ...وتزوجت... واستمرت حياتي كباقي البشر بين البيت والعمل والذكريات والطموحات التي لم تتحقق! وتوفي والدي، في الشهر الأخير من الشتاء، وأنا بعيد عن الديار، وفي طريق العودة بالتاكسي تحجرت الدموع في عيني ولم ترد النزول، منعتها الذكريات الجميلة التي قضيتها مع والدي، والاحترام الذي خصني به طيلة حياتي، وحتى في سنوات التبطل والفراغ وقف معي رغم أن الجميع تخلى عني واعتبرني فاشلا...ولما عدت إلى البيت حبست دموعي لأني الإبن البكر، علي أن أسند أخوتي وأخواتي، فلا يجوز البكاء أمامهم.... لكن دموع أخي مسعود، وهو واقف وحده جانبا، بعيدا عن المعزين، مرتكزا بكامل جسمه على حائط جارنا المقابل، هزتني بقوة، أخي لم يستطع أن يحبس دموعه فتركها تسيل.... وبعد أربع أيام أو ثلاث، تزلزل كياني كله وأنا أرى خفية دموعا سجينة ترغب في أن تتحرر من عيني أختي رقية .... كنت جالسا على الكرسي البلاستيكي بجانب المدفأة، ويقابلني عمي رشيد وابنته سكينة وأحفاده الثلاثة ....وهو يلاعبهم ويقبلهم وأختي رقية تنظر إليهم ....لا أستطيع أن أصف صورتها وملامحها الحزينة بشكل خاص يختلف عن حزن الفراق....لم أستطع التحمل فقلت لها كاذبا بأن أمي في المطبخ تناديها...ثم نهضت وقلت لعمي: لنخرج...ونجلس مع المعزين قليلا.... فقال: لا ...أحبذ أن أجلس مع ابنتي وأولادها ...فأنا مشتاق إليهم... سكينة ستبقى عندنا أربعة أيام، حتى نقيم السبوع الحقاني ..... الله الحليم...الرحيم...يعلم ضعفنا، فخلق الدموع لكي نبكي، رغم يقيننا أن الدموع لن تعيد حبيبا، أو ترد قضاء...البكاء نوع من الوفاء...كما أسعدنا والدنا في الحياة وتحمل من أجلنا، وربانا ودرسنا وقلق علينا، نبكيه بالدموع...لكن علينا أن نسعده بأن يكون هذا الوفاء حقيقيا لا ينتهي بتفرق المعزين، بأن نبقى إخوة متكاتفين، ونطيع أمنا كما كنا نطيعه هو، ونصل أصدقاءه وجيرانه، وندعو الله له...وأن نسمي أحفاده باسمه عبد الرزاق....هذا ما أردت أن أقوله لإخوتي وأخواتي لكن لم أستطع لأنهم سينفجرون بالنحيب ...يتذكرون أبا حنونا توفاه الله....