وقفت وسط محطة السيارات الفارغة أحمل المحفظة على ظهري..... نظر إلي الشاب... نظرت إليه... تبادلنا النظرات.... نظراته هادئة.... أما نظراتي فالأكيد أنها زائغة خائفة... كنت أفكر في الهروب إلى أقرب مقهى... التفكير في الدفاع عن نفسي... يعتقد أني أحمل في المحفظة نقودا، أو حاسوبا غالي الثمن... لا شيء سوى عددين من مجلة العربي... وقاموس ألماني... السيارات لا وجود لها! قالوا لي الحركة تتوقف في هذه المدينة باكرا... نصحوني أن أنتظر إلى الغد... لكني متشوق إلى أمي... الشاب يثير شكوكي... أتحفز للهروب... يقترب مني... تتأكد مخاوفي... هل لا تزال تحكي لزملائك في الجامعة الحكايات الخرافية كما كنت تفعل في الثانوية؟ -قصص خرافية... الثانوية... لم تعرفني!؟ لا...من تكون؟ لن أخبرك حتى توافق على المبيت عندي الليلة... تسارعت دقات قلبي.. وارتفع خوفي... هذا لا يريد السرقة فقط... وإنما يريد أن يداري سرقته بجريمة... لن أستطيع المبيت عند شخص لا أعرفه بدأت في تشغيل ذاكرتي المتعبة بالدروس ومحاضرات الأساتذة عن هيرمان هيسه وشيلر وهيدغر... لكن لا شيء عن قصص خرافية كنت أسردها على زملائي... حسنا! هل لا زلت تستطيع أن تنسخ كتابا ضخما في أسبوع؟ ... كما كنت تفعل في الماضي ؟ الكتاب الذي نسخته في أسبوع أمسكته ذاكرتي بسرعة! لأني استعرته فرحا من عند صديق عزيز وأهديته متألما لصديق آخر، أيضا عزيز! كتاب بدائع الزهور... عن قصص الأنبياء... سحرني أول ما لمحته بين يدي صديق في المرقد لما كنت طالبا داخليا في الثانوية... قصص رائعة عجائبية تشبع فضول طالب مراهق لا يزال قلبه معلقا بقصص المغامرات السينمائية والكرتونية... كتاب أدهشني كثيرا وتأسفت كثيرا لما قيل لي إنه مليء بالإسرائيليات! كانت معلوماتي عن الأنبياء بسيطة جدا. فأغراني ذلك الكتاب ذو الأوراق الصفراء فتعلقت به... وترجيت صاحبه أن يعيره لي، رفض في البداية... لأن الكتاب ليس كتابه وإنما كتاب والده الإمام.... وألححت عليه حتى وافق بشرط أن لا أتجاوز الأسبوع... كنت لا أراجع الدروس في حصص الدوام وإنما أنهمك في نسخ الكتاب على كراس 120 صفحة اشتريته خصيصا لذلك... قصص الأنبياء من بدء الخليقة إلى بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم... ولما عدت إلى البيت لم أخرج إلى الشارع يومي الخميس والجمعة وإنما استمررت في النسخ حتى الساعات المتأخرة من الليل... حتى خافت جدتي وأمي على عيني... وما أغضب والدي أن ما أكتبه ليس واجبا مدرسيا.... لكن الكتاب المنسوخ أهديته إلى صديق من مدينة سيدي بختي... ترجاني لأيام وليال... ملامحه تشبه ملامح هذا الشاب الواقف أمامي.. يا الهي إنه هو... عيب... لقد نسيته.... أرجوك يا ذاكرتي العزيزة ...لا تخذليني.... اقترب مني واحتضنني..... كيف حالك يا مراد بلهادي؟ لا زلت تحتفظ باسمي... كنت طالبا مميزا في الثانوية... وكل الطلبة الداخليون لا يزالون يتذكرون قصصك لما كنت تتوسطهم في المرقد قبل النوم...... شعرت بالخجل الشديد بيني وبين نفسي لأني لم أهتد لا إلى اسمه أو لقبه... واستحييت أن أسأله.... لمحتك من بعيد لما نزلت من السيارة القادمة من وهران.... أنا أحضر رسالة ماجستير في اللغة الألمانية.... لكن أنت كنت تسكن في مدينة سيدي بختي، كيف انتقلت إلى مدينة تيارت؟ بعد أن فشلت في الحصول على البكالوريا... انتقلت إلى هنا وافتتحت دكانا... المدينة الكبيرة مدينة التجارة... والحمد لله... لي سكني الخاص وتزوجت، لي بنت صغيرة.... ولا يزال الكتاب المنسوخ الذي أهديته لي بين كتب وكراريس الدراسة... وأمنع أي أحد أن يمسه، فأنت نسخته بالحبر... ورغم أنك أنفقت عليه الكثير من كرتوشات الحبر، فإنك أهديته لي وأنا الليلة أرد لك الجميل عشاء فاخرا... لا داعي لذلك...تدبر لي فقط سيارة أجرة وهل تريدني أن أحلف!... وتحكي لابنتي القصة الصينية الجميلة التي كنت تحكيها لنا.... كيف صار ماء البحر مالحا... فهي تحبها كثيرا.... أي قصة يا صديقي العزيز؟... وأي بحر... لقد نسيت كل شيء، وإنما رأسي مليء بالألمانية فقط... الألمانية؟.... تهلل وجه صديقي من الفرح ثم قال: إذن تحكي لي أنا وابنتي... قيل لي إن القصص الشعبي الألماني ثري وممتع......