لم يكن تذكري الراحل الكبير محمد بن قطاف صدفة وأنا أشاهد المباراة النهائية البديعة بين الجارين والعدويين اللدودين ريال واتليتيكو مدريد أمام جمهور أبدع مسرحيا بكل المعايير المعروفة في فن سيد الفنون. الفنان المسرحي الذي رحل في مطلع السنة الجارية تاركا خليدة تومي التي كانت تبجله يتيمة كان يتحفني بملاحظاته المسرحية الكثيرة لحظة تقاسمنا التفرج على بعض مباريات كرة القدم الأوروبية من منظور فني خالص وليس فقط رياضيا باعتباره أيضا أحد مجانين أشهر رياضة شعبية على وجه الأرض. بن قطاف الذي أصبح مخرجا بعد أعوام قضاها ممثلا وكاتبا بارعا، لم يكن يعلق على روعة الأداء الجماعي والفردي لكبار لاعبي كرة القدم فحسب كما يفعل المتفرجون العاديون من عامة الناس، بل كان يتجاوز ثقافته الرياضية بثقافة أكبر بررت حياته المهنية التي قضاها مجتهدا وناحتا مكانة فنية تحت الشمس مقصيا الغيوم المتلبدة التي تربصت لأعوام بالمسرح الجزائري. اليوم أستحضر بعض ذكرياتي مع الراحل بن قطاف لأكتب عن علاقة كرة القدم بالمسرح باعتبار هذا الأخير عصارة كل الفنون وبوتقة مثالية تذوب فيها كل تجليات التعبير المسرحي الشامل الذي يجعل من الجمهور ممثلا بارعا في حالتي الربح والخسارة على السواء ومتفاعلا صادقا لا يحتاج إلى واسطة تقنية تؤجل موقفه كما يحدث في السينما، الأمر الذي يضمن جدلية تأثير وتأثر بين جمهور ومدربين ومسؤولين ولاعبين ومشاهد ملحمية بأتم معنى الكلمة وهذا ما حدث يوم الخامس والعشرين الماضي من الشهر الجاري في العاصمة البرتغالية لشبونة. تطور تراجيكوميدي ودموع فدمار نفسي كملايين محبي كرة القدم، أجلت مساء تلك الليلة الفنية كل التزاماتي المهنية والشخصية، ورحت أتمتع وأتفاعل مع مشاهد مسرحية غنية قلما تجتمع في مناسبة واحدة عاكسة ترسانة من الحركات والإيماءات والتعابير في مدرجات تصنع فرجة شاملة ونادرة تجسد قدرة الإنسان العجبية على التفاعل الخرافي مع لاعبين يصفهم بعض المثقفين النخبويين المتعالين والمنفصلين عن الشعب الذي يتحدثون باسمه بالضاربين على كرة منفوخة والراكضين مدة ساعة ونصف من أجل المال فقط. الحقيقة الأوسع والأصح والأشمل، هي أن معظم اللاعبين الذين شاهدناهم لا يمثلون بأرجلهم فقط، بل ويبتكرون مسرحيا مثلهم مثل الجمهور المبدع وغير المجنون بالضرورة، وإن كان كذلك فهو جنون المبدع كما هو الأمر في الحالات الإبداعية الإنسانية الأخرى التي يعبّر فيها الإنسان عن ما يختلج في أعماقه وعن ما تقع عليه أعينه من جماليات أخاذة وأسرة. الفرحة العارمة التي استولت على أنصار فريق أتليتيكو حتى الدقيقة الأخيرة المميتة تحولت إلى تراجيكوميديا حقيقية بعد أن انهار أمل جمهور توقف عن أداء سمفونية الفوز القريب والشبه الأكيد دون قائد أوركسترا مدربة. الفرحة التي قضى عليها راموس بضربة رأسية في غاية الأناقة علق عليها الصحفي جان ميشال بأسلوب كوميدي كان يمكن أن يأخذ بعدا سرياليا لو كان في مكانه الزميل المبدع حفيظ دراجي الذي زاد التحاقه بالزملاء القدماء من يتم القناة الستالينية الحكومية ومن فرادة وتألق قناة الجزيرة التي أكدت للعالم أن الصحفي الجزائري يجيد اللغة العربية خلافا لما كان يتصوره الاشقاء المشارقة. انقلبت الأمور رأسا على عقب والجمهور الذي أبدع في التعبير عن سعادته وجسّد فرحته غنائيا هو نفسه الجمهور الذي غرق في بحر الحزن ووفر لمخرج المباراة التاريخية لقطات مسرحية كشفت عن دمار نفسي عكسته وجوه الألاف من الجمهور الذي أضحى عاجزا عن استيعاب الصدمة القاتلة بامتياز، وهو نفسه الإحساس الذي انتاب جمهور الريال قبل تحقيقه التعادل. تضارب المشاهد والأحاسيس في المدرجات وتحول سمفونية الفرح إلى سمفونية حزن عميق وإلى دموع سخية ذرفها الكبار والصغار وانحدرت على خدود طرية ومتماسكة وآخرى بدأت في التجعد والترهل شكلت لوحات تعبير إنساني وفني تلقائي تلقفه مخرج المباراة مجددا بمهارة فائقة أخرجتها من فلكها الرياضي الضيق وأدخلتها عالم المسرح الفسيح القادر وحده على إبراز تعبير شامل بشكل مباشر في لمح البصر. ما قلناه عن الجمهور ينطبق على مدربي ومسوؤلي الفريقين الإسبانيين وعن اللاعبين، وكما أبدع رونالدو بتسجيل الهدف الرابع وبأدائه عاري الصدر لقطة حولته إلى رومبو برتغالي، استطاع زيدان مساعد انشيلوتي أن يعبر عن فرحته دون تحفظ وبشكل غير مسبوق أنسانا صورة الرجل الخجول الذي ظهر مكفهر الوجه ويائسا تقريبا طيلة ساعة ونصف تقريبا قبل أن ينتفض حركيا في دور جديد قضى على ماضي برودته وانطوائه وسكونه وسكوته.