مر علي أكثر من أسبوعين لم أغادر البيت ولم أر مساءات المدينة التي تعودت أن أقضي بعضا منها مع الأصدقاء في ذلك المقهى الشعبي.. مقهى محاد الصغير المقابل لبزار العقيد ومحلاته التجارية الكثيرة.. مقهى صغير دافىء يؤمه الفقراء وباعة الخضر والفواكه بعد أن يفرغوا من البيع والشراء أنا أحب هذا المقهى بالذات خلافا للمقاهي العصرية التي انتشرت كالطحالب على طول المدينة وعرضها لقربه من السوق المغطاة التي تتراص داخلها محلات بيع اللحوم الحمراء في مدينة سهبية شبه صحرواية هي كل ما تملك من ثروة حيوانية وللمشروبات التي يقوم بطهيها على موقد من الحطب الأكثر شعبية وانغراسا في ذاكرة المدينة... أشعر بنكهة المكان وأريج الذكرى عندما يقدم لي النادل فنجان قهوة الفرارة أو كأس من الحار أو الزعتر الجبلي أبلل به ريقي الجاف فأستعيد جزءا من حيويتي ومن مذاق الزعتر وطاسات اللبن الريفي المعجون بالزبدة الذي كنت أتناوله في قريتي زنينة * من يد والدتي معصورا بيديها المحناة من فم شكوة اللبن محشوة برائحة الشيح.. أكثر من أسبوعين وأنا داخل البيت لا أغادره مطلقا.. أردتها أن تكون عزلة مؤقتة حتى مواقع النت وفضاءات التواصل الاجتماعي صرفت نظري عنها وبدأت أتخلص تدريجيا من سحرها لئلا تتحول إلى إدمان يأخذ كل وقتي وطاقتي وجهدي.. فضلت البقاء في البيت أقرأ ما تراكم لدي من كتب ظللت أؤجل موعد قراءتها يوما بعد آخر كنت لا أفرغ من كتاب إلا وأفتح الثاني أغوص بين ثناياه وفي أجوائه.... أنفصل عن العوالم التي أعرفها لأدخل مدن التاريخ والخيال.. أخترق سمك الأحداث.. أفتح الأبواب المغلقة والستائر الفضية لأرى أطياف من رحلوا وعذابات شخوص قدت من خيال.. أستمع إلى لغة الجن والطير والأساطير القديمة... أصيخ السمع إلى هوميروس في أوديسته الخالدة وهو في جزيرة إيتاكا عائدا إليها من طروادة يغني لها وصوته يملأ أطراف جزيرة أجداده فرحا بعودته... أجوس في أنواء الروح تتلقفني المواجيذ.. أجد نفسي وجها لوجه أمام صوت السهر وردي أنشد مخطوفا دون وعي مني بعضا من مزامير مقاماته الصوفية لعلي أستجلي بعض رؤياه وإشراقاته ورسائله أستأنس بقول مولانا جلال الدين الرومي "ربي زدني تحيرا" وعندما أشعر بالتعب والإرهاق الذهني أستلقي في فراشي قليلا لأتأمل ذاتي.. أعيد قراءة شريط شقاوتي وظلالها البعيدة.. أستعيد وجع الذكرى.. أمسك بكثافة الأيام والسنوات الخوالي عندما كنت طفلا ألهوا مع منهم في مثل سني في حارة الزيقم بقريتي زنينة قريبا من قبة الولي الصالح سيدي أمحمد بن صالح أو بين الفدادين في بساتين زنينة التي لم يبق منها إلا الإسم... أقرأ في اللوح المحفوظ بعضا من آيات الذكر الحكيم في محضرة جدي سي عمر غير بعيد عن "لاصاص" الذي تحول إلى مقر للحرس البلدي ثم أنصرف بحثا عن صديقي شارلو أو هكذا يحلو لنا أن نناديه لوجود عناصر شبه كثيرة بينه وبين الممثل الكوميدي الشهير شارلو شابلن أتوسل إليه أن يقص علي بعض قصصه الجنسية الكثيرة المليئة بالتهكم والسخرية يرويها بدعابته وروحه الخفيفة ودماثة خلقه ثم أيمم وجهي شطر البيت أمسك لأمي العجل الصغير لتتمكن مع حلب ضرع البقرة ثم أنصرف إلى غرفتي أتسمر أمام الشاشة لجهاز البث المصور الذي اشتراه لنا والدي بإلحاح مني بعدما باع تيسا كان يحتفظ به للمهمات الصعبة عندما لا تتبدى له إمارات الخصوبة لعنزاتنا الثلاثة الرابضة وسط الاصطبل... أتابع حلقات مسلسل مصري يدعو للانخراط في النهج الناصري ويعتبره قضية مقدسة لا جدال فيها... ثم أدبج بعض رسائل الحب وقصائد الشعر الرديئة لزميلتي في القسم الدراسي "النخلة"... أتشوق لرؤيتها صباحا في مدرستي البيضاء.. أتملى في وجهها الناصع البياض وظفيرة شعرها ووميض عينيها السوداوين.. وصدرها الدائري بشكل بديع... أستمع لصوتها الشجي وهي تسألني "أمك سدات المنسج" لا درس لي غيرها.. هي المادة الوحيدة التي كنت أواظب على حفظها والامتلاء بها لا تصرفني عنها سوى العطلة المدرسية فأبحث عن صديقي شارلو أبذر وقتي معه في الضحك والثرثرة والتهكم لأنسى قليلا أمرها وأمر العطلة المدرسية الثقيلة علي كليلة شتاء طويلة وقد تطورت علاقتي معه عندما بدأنا نتجاوز بقليل سن العشرين فقدمني إلى أصدقائه من السكارى والصعاليك الذين كانوا يجتمعون كل مساء لتناول كؤوس الخمر المعتقة في بيت مسعودة الحديبية وهي إمرأة طيبة ساذجة حشايشية مثلما يقال لا تشبه نساء اليوم.. كانت عندما تسكر وتغيب عن الوعي تقوم لتعد لنا ما لذ وطاب من موائد اللحم الشهية ثم تصرخ قائلة "الليلة السكرة خالصة لا أحد أريد منه دينارا واحدا" فتغني وترقص على أنغام الأغنية الصحراوية المفضلة لديها بأداء خليفي أحمد "يا مسعودة بيتكم خيمة جودة // ومن سماك عرف الحبق راجل ماهر"... لا أدري حقا لماذا حين أخلوا إلى ذاتي تهجم علي أصداء الطفولة دفعة واحدة.. أجد نفسي عاجزا على مواجهتها أو تجاهل صورها... تجوس بداخلي كطيف لا شيء يحمله معه غير كتاب الماضي وصخب الذاكرة ونداء الأقاصي.. أردت الهروب من وجع الذكرى وظلالها بدأت أشغل نفسي قليلا بالبحث في القنوات الفضائية عن أجواء جديدة.. شعرت بالارتياح ثم أخذت أتفرس في وجوه السياسيين والحمقى أقهقه من شدة التعجب على منسوب الكذب والنفاق السياسي الذي لا ينضب معينه لديهم والوعود التي لا يملون من ترديدها والنفخ في بالون لغة الدعاية التي لا يحسنون غيرها.. لم أنس بالطبع أن أتناول وجبتي اليومية المفضلة طبق حساء الفريك مع قليل من لحم الخروف أدسها في جوفي.. أقضمها بقطع من خبز المطلوع وعندما أنتهي من تناول وجبتي أتطلع من نافذة بيتي لأرى منظر الشارع.. أفواج من الرجال والكهول يجرون بأرجلهم قوارير غاز البوتان وآخرون يحملون على أكتافهم أكياس القمح والمطر يغسل وجوههم وجلابيبهم البالية تساءلت ماذا لو وقع هذا المشهد أمام أعين مصور فوتوغرافي محترف؟ كيف سيكون سحر هذه الصورة وأثرها الإعلامي؟.... ثمة صور كثيرة تافهة لا تحمل أي معنى أو دلالة لكن الآلة الغربية والخدع السينمائية صنعت منها أيقونة كبرى... من جديد تلوح لي المدينة والمطر يغسل الشوارع والعمارات والمباني الحكومية والطرقات والأشجار وعلى مسافة قريبة من رصيف الشارع نساء مع أبنائهن يختبئن داخل حياكهن يلتمسن الطريق نحو مكان يقيهن من التعرض لزخات المطر وصوت الرياح الصرصار العاتية.. هالني المشهد من جديد ورحت أتأمل في مساماته وظلاله... كانت الجلفة كلها مدعوة لأن تغتسل من أدرانها... تمنيت لو أن هذا المطر أيضا غسل قلوب البشر.. قلوب الرجال وقلوب النساء معا.. خيل إلي أنني في حلم.. لا أدري لماذا أنشغل عادة في ليالي الشتاء الباردة إلى التطلع من نافذة بيتي والوقوف أمامها طويلا لا شيء لدي أريد أن أطمئن عليه أو أتأكد منه أو لعل أن ما أراه من شعور بالأمان ليس في محله.. ربما.. لست أدري منذ سنوات وأنا أحتفظ بهذه العادة.. لم أستطع التخلص منها مطلقا وأحيانا أمد بصري نحو شرفات العمارات دون أن أغادر بيتي... أضبط أذني مع إيقاع ثرثرة النساء عن آخر الألبسة الجاهزة والأواني المنزلية التي دخلت السوق وأتطلع من جديد إلى تنوراتهن الزرقاء والحمراء والخضراء وألبستهن الداخلية المعلقة فوق حبال الغسيل وشرفات العمارات ثم أنسحب عائدا إلى خلوتي.. تأخذني نوبات من القهقهة متذمرا من نفسي ومما أنا عليه.. أشعر بالقلق والذهول من عاداتي الذميمة وبانكماش في صدري... أتململ في فراشي لأهدأ قليلا وأدرب نفسي على الاستماتة والاستسلام لصوت مختلف عن عاداتي الذميمة لعل السكينة تلج أعماقي فأعود إلى عالمي المفضل أشرئب لشهد الحرف والوجد ووميض المعنى ثم أنام هادئا. * زنينة الإسم الروماني لمسقط رأس الكاتب وهي تعرف الآن باسم الإدريسية الجلفة في 27- 12- 2013