''مناخ فرنسا''، كانت التسمية في الخمسينيات، تاريخ بناء الحي، تتماشى مع طموح السلطات الاستعمارية في ترقية آفاق ومنح طابع مدني جديد لسكان البيوت القصديرية المحيطة، ولا شيء أحسن من التشبه بفرنسا، ولو من خلال الإسم، غير أن هذه الآفاق في جزائر الاستقلال باتت تتقلص مع كل يوم يمضي، مع اضمحلال آمال شباب وعائلات هذا الحي العاصمي الذي يتذكر أبناؤه كيف تحول من حي للطبقة المتوسطة المحترمة إلى حي تحوم حوله شبهة الإجرام· كيف لا، وقد أصبح موقعا منسيا لا يكاد يصل صوت مآسيه للمعنيين، ليجد القاطنون بالحي أنفسهم رهائن غيتو البؤس· ''لا داعي للتحدث عن سبب الإنفجار، لو لم تكن قنبلة أو غاز، لكنا انفجرنا نحن، سكان الحي هم الذين يعانون من ظروف المعيشة القاهرة''، بهذا القول بادرنا ''سليم'' قبل أن يعبر عن امتعاضه من الصحافة التي لا تقوى على التغيير وتكتفي بالحديث· وبالرغم من هذه القناعة يصر على مرافقتنا في الحي، فهو من أقدم سكانه، أكثر من ذلك إبن واحد من أقدم السكان· فقد تسلم والده مفتاح الشقة من يد السلطات الفرنسية، يذكر الحادثة بكثير من الفخر، فذلك يجعله يستحق عن جدارة تسمية ''ولد الحومة''· ''لو لم تنفجر العمارة، لانفجرنا نحن'' إلا أن ''ولد الحومة'' قارب عقده الرابع وما زال يعيش رفقة والديه وإخوته في ذات الشقة، الفرق الوحيد كونه أصبح أبا لأربعة أطفال· معاناة السكن هذه امتدت إلى شقيقه الذي قرر الزواج في ذات الحي، لكن بدلا من العيش في شقة الوالد التي لم تعد تستوعب المزيد من الأشخاص، قرر تعمير غرفتين فوق سطح العمارة، لم لا وهو أولى من غيره بتلك المساحات، على حد تعبير الأخ· ظاهرة تعمير أسطح العمارات بدأت مطلع التسعينيات، يقول سكان الحي بدأنا نشاهد ضحايا الإرهاب القادمين من خارج العاصمة هربا من العنف، فكانت مبادرة أبناء الحي في التعمير قبل أن يكتسح المكان الغرباء· من هنا كانت البداية، فكل من كان يرغب في الزواج من شباب الحي صعد للسطح، بل حتى بنات الحي من المطلقات وجدن في أسطح منازل عائلاتهن الملاذ الذي لم تحظ به غيرهن، فقد اعتبرن محظوظات آنذاك· غير أن للأسطح مساحة محددة، عند تشبعها توجهت الأنظار إلى أقبية العمارات وكل أنواع الفتحات التي يمكن للفرد أن يتصورها وفي كثير من الأحيان لا يتصورها· فقد باتت العائلات تتوسع من خلال الحفر، بات الحديث عن قنوات تصريف المياه القذرة وقنوات التزود بالماء وغيرها من التجهيزات العمرانية التي لا يصح السكن دونها حديث أقل من ثانوي، ما دامت المساحة كافية لاحتواء سرير، تلفزة وثلاجة أساسيات الحياة بالنسبة للجزائري· وما زاد الطينة بلة، هو تواطؤ السلطات المحلية الموافقة، ولو ضمنيا على مثل هذه الممارسات من خلال منح عدادات الكهرباء لكل من يطلب منها ذلك· من هنا تكرس اعتقاد سكان الحي بتخلي السلطات العمومية عنهم، لم يتبق أمامهم سوى تدبر حياتهم اليومية بالطرق التي تسمح بها ظروفهم، وما من أهمية إن كانت مشروعة أو إنسانية، المهم عدم ازعاج السلطات بمشاكلهم· على هذا النحو تحول الحي الذي كان من المفترض أن يأوي 30 ألف شخص، فأصبح يأوي أضعاف هذا الرقم في ذات الوقت الذي تضاعفت فيه مشكلاته· في مثل هذه الأجواء مرت العقود، اعتاد خلالها سكان الحي على العيش في ظروف أقل ما يقال عنها أنها غير إنسانية، ولا عجب في ذلك لمن يعيش في مساحة لا تتجاوز 30 متر مربع وأقل، سيما إن كان عدد الأفراد في ذات المساحة يتجاوز السبعة في معظم الأحيان· على هذه الخلفية، استفاقت العاصمة على وقع حادثة انفجار عمارة بحي مناخ فرنسا، ليتهافت الإعلام والمسؤولون يوم وقوع الحادثة، ليتذكر الجميع مدى المعاناة التي يعيشها سكان هذا الحي في قلب العاصمة· معاناة جعلت الوالي المنتدب لباب الوادي يعبر ببلاغة لا تليق بمن يملك القرار ويمثل السلطات العمومية بقوله: ''وكأني في ''سويتو''، في إشارة لغيتو جنوب إفريقيا العنصري، غير أن سويتو نجحت في تغيير صورتها في العالم، ها هي تستعد لاحتضان كأس العالم لكرة القدم· في حين أن ''سويتو'' ''مناخ فرنسا'' يزيد من حجم معاناته وليس آخرها تلك التي حكمت على شباب الحي بأن يكتسبوا سمعة ذائعة الصيت في المتاجرة بالمخدرات· أولاد فاميليا··· وتجار ممنوعات كان الحديث عن هذا الموضوع مع عدد من شباب الحي بمثابة خرق للمحظور، بالرغم من إدراكهم لهذه السمعة، إلا أنهم لم يبدوا الرغبة في الحديث بشكل علني، وإن لم يثنهم ذلك عن مواصلة نشاطهم التجاري اللامشروع في وضح النهار بعيدا عن الأنظار المتطفلة· كان التقرب من البائع ''س'' لا يخلو من التشويق، فقد كان لتردده ومحاولة فرضه لطريقة التفوق، ما يثير الانتباه، سيما بعد تجمع العديد من شباب الحي· لم يكن ليقبل على نفسه أن يكون المتاجر الوحيد من بين كل ذلك الجمع، فما كان منه إلا تغيير الأنظار لصديق آخر، على أنه متاجر في المخدرات· الواقع كان كل ذلك الجمع الذي يفوق تعداده العشرة يمارس بشكل أو بآخر المتاجرة في الممنوعات· بعد حديث عن الانفجار ومعرفتهم لعدد الضحايا وظروف العيش في هذا الحي العاصمي، استرسلت الألسنة وحدث نوع من التعارف سمح للحديث باكتساب طابع الصراحة، صراحة دفعت بالشاب ''س'' إلى الاعتراف بمتاجرته ''بالممنوعات'' على حد تعبيره دون أدنى شعور بالخجل: ''عادي أبيع المخدرات لأبناء الحي وللغير، لا يمكن للشرطة أن تأتي إلى هنا وأنا بدوري أحترم حدودي لا أخرج من المكان''· لم يكن الشاب ''س'' الوحيد الذي قدم هذا الاعتراف، فقد زاد عليه رفيقه الذي أكد أنه يبيع ما يكفيه للإنفاق اليومي له ولعائلته، بالإضافة إلى ادخار مبلغ من المال يسمح له بتوفير مصاريف الهجرة، ''س'' الذي أكد أن السلطات متواطئة فيما بلغه الوضع في الحي: ''تجارة واستهلاك المخدرات حالت دون التفات الشباب إلى الكم الكبير من المشكلات التي تواجهه، ودون قيام انتفاضة بمناخ فرنسا للمطالبة بتحسين الأوضاع، ولأنهم لا يريدون مشاكل معنا، يتركون لنا الحرية في المتاجرة والاستهلاك''، يضيف صديقه بقوله ''يعتبروننا ثلة من الرعاع التي لا هم لها سوى استهلاك المخدرات، مع أن الواقع أن أقل واحد فينا يملك شهادة تكوين مهني، إلا أننا لا نقبل العمل في ظروف استعبادية بأبخس الرواتب، التي لا تغني ولا تسمن من جوع· لسنا كسالى ولا محبي للأعمال غير الشرعية، بالرغم من تورط الكثيرين منا في المتاجرة بالممنوعات إلا أننا أولاد فاميليا، اضطرتنا الحياة لسلوك طريق المخدرات سواء للاستهلاك ونسيان المشكلات أو المتاجرة لتجميع أموال الهجرة''· المعذبون في الأرض وما أكثرهم في الجزائر، ينتظرون حادثة ما لتسلط الأضواء عليهم مثلما سلطت على سكان حي مناخ فرنسا· فقد كان الانفجار الذي أودى بحياة خمسة أشخاص بمثابة الزوم الذي أعاد للأذهان العذابات التي يتكبدها عشرات الآلاف من السكان: تدهور الظروف الصحية، ضيق المساكن، غياب أدنى مرافق الحياة الضرورية··· كلها مسائل ظلت عالقة، قرر السكان الانتفاضة عليها والمطالبة باسترداد ما تبقى لديهم من كرامة· هذا ما أكده أهالي العمارات الثلاث المتضررة من الانفجار في دعوة لبقية سكان الحي للتضامن من أجل إيجاد حل فعلي للمشكلات الراكدة والمتراكمة منذ عقود، وهو ما ذهبت إليه السيدة منقلات وردية، التي فقدت بيتها بين عشية وضحاها جراء الانفجار: ''لا يمكن أن أقبل ببيت خشبي شاليه، أقضي فيه بقية حياتي بعد أن كنت أملك شقة تحفظ كرامتي· لماذا لا يمكنهم فهم بساطة الوضع، فقدنا شققا ولا بد للتعويض أن يكون شقة''، قالتها السيدة وردية بكثير من المرارة والحسرة بعد قضائها يومين في الشارع، وهو ذات الحال بالنسبة لجاراتها، اللاتي فقدن بيوتهن· هن إذن ما يقارب 35 عائلة مصرة على المطالبة بحقها في الحصول على شقق بدل تلك التي تم اعلانها خطرا على حياة سكانها· سكنات لطالما أكد القاطنون بها مدى خطورتها، فالأساسات الداعمة للعمارة تم الاستغناء عنها في محاولات توسيع سكان الأقبية، هذا إلى جانب الوزن الزائد المضاف من طرف ذاك الكم الكبير من البيوت القصديرية فوق الأسطح، كلها عوامل باتت تؤدي لنتيجة واحدة تتمثل في إمكانية تحول عمارات حي مناخ فرنسا لمقابر جماعية في حال حدوث أي نوع من الكوارث أيا كان حجمها· فتحة تحت سلم العمارة تتحول إلى سكن···! من استفاد من مشروع مليون سكن؟! قد يبدو الحديث عن أزمة السكن من المشكلات العامة في الجزائر على اعتبار أنها تمس شخصا من بين اثنين في الجزائر، غير أن مفهوم هذه الأزمة قد يظل مبهما لغاية أن يتجسد في حالة معينة· وحالة حي مناخ فرنسا من أكثر الحالات التي يمكن أن توضح مدى تأزم المشكلة، ونحن نقوم بهذا الروبورتاج في الحي العاصمي، تزاحم الأشخاص وتصاعدت الأصوات في محاولة للفت انتباهنا للمشكلات الفردية، فكان من بينهم حالة سيدة في مقتبل العمر، وبالرغم من ذلك تعرف عن أزمة السكن ما يسمح لها بتأليف دراسات، إذ لا تتجاوز مساحة بيتها المترين عرضا ومترين طولا، والحال أنها تتقاسم هذه المساحة رفقة زوجها وأربعة من أبنائها· في الواقع لا يمكن تسمية هذا المكان بالسكن، على اعتبار أنه مساحة مفتوحة تحت سلم العمارة، يقول السيد أعرب حكيم الزوج، إنه اضطر لإيجاد عمل في الليل حتى يسمح لأبنائه النوم ليلا، لأن المساحة الإجمالية لا تسمح لهم بالتجمع في ذات المكان، في إشارة إلى أنه لا يمكن أن يتحمل مصاريف الكراء والتكفل بمصاريف أبنائه بالنظر لراتبه الزهيد· هذه الوضعية التي باتت تهدد صحة زوجته وأطفاله، يقول بخصوصها ''كل السلطات المحلية تدرك حجم معاناتنا، إلا أنه ما من أحد يحرك ساكنا لتغيير الأوضاع، الكل يتحدث عن المليون سكن ولا نعرف من استفاد منها، لا أعرف أحدا من معارفي استفاد من سكن، بالرغم من معاناتنا من هذا المشكل''· مناخ فرنسا هدية شوفاليي للمعدمين جاء بناء حي مناخ فرنسا عام 1954 بعد طلب رئيس بلدية العاصمة الفرنسي آنذاك جاك شوفاليي من المهندس المعماري فرناند بيون، تصميم حي بأقل التكاليف موجه لسكان البيوت القصديرية من الجزائريين في ضواحي العاصمة· وقد كان المشروع بمثابة التحدي للمهندس المعماري الذي ذكر في مذكراته أن قلة الميزانية الممنوحة له دفعته لابتكار أساليب جديدة في البناء بأقل التكاليف مع الحفاظ على سلامة البنايات· وقد كان من المقرر بناء 5000 شقة تضم ما لا يقل عن 30000 شخص·