ما حدث في تركيا مؤخرا ليس جديدا عليها فقد عرفت هذه الدولة العريقة انقلابات على انقلابات، وعانت من ديكتاتورية العسكر منذ المؤامرة الكبيرة التي جاءت بالسيء الذكر (مصطفى كمال أتاتورك) الذي قام بقطع شرايين الدولة العثمانية وتحويل تركيا لدولة علمانية لا زالت إلى حد الساعة تحتفظ بصوره معلقة على جدران المؤسسات الرسمية حتى قيل بأن (أتاتورك هو الرئيس الوحيد الذي لازال يحكم بلاده من القبر). إلا أن هبوب رياح الديمقراطية (الحقيقية) على العالم عموما وعلى تركيا خصوصا في سعيها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أدى إلى تطور كبير في الذهنيات خاصة داخل المؤسسة العسكرية التي اقتنع ضباطها الكبار على مر التجارب والانتكاسات المتتالية الناتجة عن انعدام الاستقرار، بأنه لا مفر من الإصغاء لصوت الشعب واحترام إرادته التي كانت دوما تعبر عن ميول واضح نحو الأحزاب ذات الطابع الإسلامي قبل حزب الرفاه الذي تزعمه (أربكان) وبعده في حزب العدالة والتنمية الذي جاء بالحكم بشخصية فذة ومقتدرة هي السيد المحترم (رجب طيب أردوغان) الذي أثبت اقتدارا كبيرا في تسيير بلدية إسطنبول ثم رئاسة الحكومة وأخيرا رئاسة الجمهورية ، وهو في هذه التجارب الناجحة استطاع كسب ود ومحبة المعارضين العلمانيين ناهيك عن مؤيديه الأوفياء الذين عبروا في العديد من المناسبات عن تأييدهم اللامشروط لسياساته التي حققت أرقاما قياسيا من حيث المشاريع والإنجازات في أوقات وجيزة، وخاصة في ما يتمتع به من (كاريزما) رائعة اتسمت بحسن الخطاب وتواضع في البروز الجماهيري واطلاع كبير بحيثيات الأمور ورغبة شديدة في استرجاع أمجاد تركيا العثمانية، ومواقف شجاعة من القضية الفلسطينية ودعمه لقطاع غزة ولللاجئين السوريين في أزمتهم الكبيرة. كل هذه النجاحات التي أثارت ولا تزال تثير إعجاب السواد الأعظم من الشعب التركي وحتى الشعب العربي والمسلم والشرفاء عبر العالم كانت في نفس الوقت تثير حفيظة بل حقد وتذمر قوى عديدة في داخل تركيا وخارجها وهي تتابع بكل انزعاج انتصاراته المتتالية وارتفاع مؤشرات التلاحم الشعبي والالتفاف الجماهيري حول مشروعه الوطني الرائد الذي تجاوز فيه بشكل مقصود المنهج (الأبوي) والطريقة الكلاسيكية في الحكم القائمة على إصدار الأحكام القيمية والوعظية القائمة على إقصاء الآخر والتشكيك في وطنيته طالما أنه لا يحمل نفس الخلفيات الإيديولوجية والفكرية ، فتمكن بشكل شجاع أن يكون رئيسا لكل الأتراك بمختلف أطيافهم وتياراتهم وانتماءاتهم العرقية والدينية والإثنية وغيرها. إن تركيا الزاخرة بماضيها العظيم كانت في حاجة ماسة لرئيس من عيار (أردوغان) وبمجرد أن وجد الفرس فارسه المناسب حتى برزت للوجود قدرات شعب يستحق كل التقدير والنجاح فاندفع في سباق مع الزمن لاسترداد مجد تليد وسمعة لا تزال أحداثها ماثلة في الذاكرة الجماعية لأوروبا التي دكت حصونها جيوش تركيا وهزمت أعتى تحالفاتها ومزقت مواثيق كنائسها الكاثوليكية والأرثودوكسية تحت ضربات المدافع وحوافر الخيول العثمانية بقيادة سلاطين تركيا المتعاقبين. إنها ذكريات مؤلمة اجتهدت أوروبا في نسيانها وسعت بكل وسيلة لمحو أثارها في قلوب ودفاتر الأجيال التركية المتعاقبة منذ أن أمر الهالك (أتاتورك) مصادرة الخط العربي وإدخال الخط اللاتيني بشكل مبتذل ومنع العمائم وإدخال عربات من القبعات البلقانية وإسكات المآذن وفتح الكنائس والمعابد اليهودية وتشجيع الدروشة والصوفية الراقصة على إيقاعات الطبول في حلقات الذكر الذاهلة عن حقيقة الإسلام كحضارة وحياة. وها هي أوروبا من جديد وجها لوجه مع أحد أحفاد السلاطين العثمانيين الذين اعتقدت بأنها دفنت تاريخهم إلى الأبد، وها هي جراح أوروبا تنزف من جديد كلما اجتمعت الحشود في ساحات وميادين (تقسيم) و(أكسرا) وعبر كل مدن تركيا التي تهتف بحياة زعيمها بلسان واحد وتلهج بالدعاء له بطول العمر وسداد الرأي، فاستوعب أردوغان الطيب كل هذه الهتافات فلم يكن مجرد رئيس يحمل حلولا سياسية واقتصادية للنهوض بمقدرات تركيا الهائلة وتحريك عجلة التنمية بشكل سريع ولكنه جاء ليحرك ضمير شعب بكامله ويرفع عنه حجب الاغتراب وظلمات الاستلاب لكي يتصالح مع تاريخه القريب والبعيد. وجاء الانقلاب التعيس ليتلاشى في ساعات خمس وتتبخر معه أحلام الحالمين وأطماع المغرضين الذين يحملون أجندات أجنبية لا تزال تؤمن بعهد الانقلابات التي ولت واندثرت أمام شعب لبى نداء قائده عبر هاتف خليوي يأمره بالنزول إلى الشوارع والساحات لحماية مكتسباته والدفاع عن إنجازاته واختياراته، فكان كله سمعا وطاعة مضحيا بالنفس والنفيس عندما هجم على الدبابات والمزنجرات بأيادي العزيمة وأهازيج التحدي ومكبرات المساجد في ليلة مشهودة عرفت لأول مرة في التاريخ المعاصر اعتقال الجنود المنشقين من طرف رجال الشرطة والمدنيين العزل الذين لم يترددوا في الإلقاء بأجسامهم تحت الدبابات والدفع بسياراتهم لوقف زحفها وقطع الطريق أمامها. فتحولت المحنة إلى منحة والعسر إلى يسر. فهل سيستوعب زعماؤنا هذا الدرس التركي الرائع أم أن موعدنا مع الصبح لا زال بعيدا؟