بوغالي يستقبل وفدا عن لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بمجلس الشورى الإيراني    تبسة: افتتاح الطبعة الثالثة من الأيام السينمائية الوطنية للفيلم القصير "سيني تيفاست"    القرض الشعبي الجزائري يفتتح وكالة جديدة له بوادي تليلات (وهران)    مذكرتي الاعتقال بحق مسؤولين صهيونيين: بوليفيا تدعو إلى الالتزام بقرار المحكمة الجنائية    "رواد الأعمال الشباب, رهان الجزائر المنتصرة" محور يوم دراسي بالعاصمة        ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 44211 والإصابات إلى 104567 منذ بدء العدوان    العدوان الصهيوني على غزة: فلسطينيو شمال القطاع يكافحون من أجل البقاء    الكاياك/الكانوي والباركانوي - البطولة العربية: الجزائر تحصد 23 ميدالية منها 9 ذهبيات    الجزائر العاصمة: دخول نفقين حيز الخدمة ببئر مراد رايس    أشغال عمومية: إمضاء خمس مذكرات تفاهم في مجال التكوين والبناء    الألعاب الإفريقية العسكرية: الجزائرتتوج بالذهبية على حساب الكاميرون 1-0    "كوب 29": التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغير المناخ    مولوجي ترافق الفرق المختصة    الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    قرعة استثنائية للحج    الجزائر تحتضن الدورة الأولى ليوم الريف : جمهورية الريف تحوز الشرعية والمشروعية لاستعادة ما سلب منها    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    المخزن يمعن في "تجريم" مناهضي التطبيع    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    معرض وطني للكتاب بورقلة    دخول وحدة إنتاج الأنابيب ببطيوة حيز الخدمة قبل نهاية 2024    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    السلطات تتحرّك لزيادة الصّادرات    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    المحكمة الدستورية تقول كلمتها..    الأمين العام لوزارة الفلاحة : التمور الجزائرية تصدر نحو أزيد من 90 بلدا عبر القارات    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسرح لمعارك سياسية بين "العثمانيين الجدد" و"أحفاد أتاتورك"
ميدان "تقسيم" بقلب إسطنبول
نشر في الخبر يوم 28 - 06 - 2013

الشيوعيون يقودون الاحتجاجات والشرطة تسيطر على "جيزي بارك" "نحن أحفاد العثمانيين".. جملة قالها رجب طيب أردوغان على الملأ، وترددت على ألسنة الملايين من الأتراك، تعكس مدى إصرار حزب العدالة والتنمية الحاكم على إحياء الإرث العثماني. لكن مقابل هذا المسعى يصطدم أردوغان بإرث أتاتوركي لا يقل أنصاره حماسة عن أحفاد العثمانيين، وأحداث ميدان تقسيم" إحدى تجليات هذا الصراع. "الخبر" انتقلت إلى ميدان "تقسيم" باسطنبول الذي انطلقت منه شرارة الاحتجاجات التي امتدت إلى أنقرة، وإلى العديد من المدن التركية الأخرى، وذلك لمعرفة حقيقة الأوضاع هناك وخلفياتها، وكيف تعاملت حكومة أردوغان معها، وتداعياتها أيضا.
كانت ساحة “تقسيم” في الزمن العثماني تحتضن قلعة شيّدت سنة 1790، في عهد السلطان سليم الثالث (1789/1807)، لكن هذه القلعة كانت تقع خارج سور مدينة إسطنبول، مركز الباب العالي وعاصمة الإمبراطورية العثمانية، وسكن “تقسيم” ومحيطها أقليات من المسيحيين، خاصة الأرمن واليهود والعلويين النصيريين، بالإضافة إلى المسلمين.
غير أن ميدان “تقسيم” تحوّل إلى مقبرة للإمبراطورية العثمانية، عندما انطلقت منه شرارة الأحداث التي أدت إلى عزل السلطان عبد الحميد الثاني. ولذلك فميدان “تقسيم” يعتبر رمزا للقوى العلمانية والأتاتوركية التي أطاحت بالخلافة الإسلامية في 1924، وتجلى ذلك عندما قام مصطفى كمال أتاتورك بهدم القلعة العثمانية في 1940، وإزالة كل ما يرمز لذلك العهد في ميدان “تقسيم”، وهيّأ مكان القلعة حديقة سميت “جيزي بارك”.
وأصبح ميدان “تقسيم” أشبه بقلعة لحماية النظام الأتاتوركي، وتم محو كل ما يرمز للدولة العثمانية أو للإسلام، وخاصة المساجد بالرغم من وجود كنيسة كبيرة مطلة على الميدان، كما شيّد في “تقسيم” مركز أتاتورك الثقافي، بينما حوّل الشيوعيون والقوى اليسارية والعمالية ميدان “تقسيم” إلى مكان للاحتجاجات الكبرى التي شهدت عدة صدامات دموية.
وعندما تمكّن حزب “الرفاه” الإسلامي، بقيادة نجم الدين أربكان رحمه اللّه، من الفوز في انتخابات 1996 وتشكيل حكومة ائتلافية مع حزب “تانسو تشيلر”، حاول بناء مسجد في ميدان “تقسيم”، لكن القوى العلمانية واليسارية عارضت ذلك بشدة، بالرغم من أن التركيبة الديموغرافية لميدان “تقسيم” بدأت تتغيّر لصالح المسلمين، كما أن “تقسيم” (وشارع الاستقلال الشهير الذي يطل عليه) صار مفترق طرق ومكان سياحي يجذب يوميا الكثير من الزائرين والسياح، خاصة من منطقة الخليج العربي، وهذا ما كان يضغط على حكومة أربكان من أجل تشييد مسجد كبير يسع المصلين في “تقسيم”، خاصة في صلاة الجمعة، غير أن الجيش حامي حمى الأتاتوركية في البلاد وقف بالمرصاد لأربكان، واتهمه بتهديد العلمانية ونزل بدباباته إلى الشارع، وأرسل لرئيس حزب “الرفاه” مجموعة مطالب تتضمن محاربة ما وصفه بالمدّ الأصولي في تركيا، وكان من نتيجة ذلك أن قدم أربكان استقالته من رئاسة الحكومة، في 1997، تفاديا لانقلاب عسكري.
وبعد خمس سنوات من سقوط أول حكومة تركية يقودها رئيس حزب إسلامي، سطع نجم شاب يدعى رجب طيب أردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية الذي خرج من عباءة “المعلّم”، وتمكن من الفوز في انتخابات 2002، رغم حداثة حزبه والعوائق التي وضعت أمامه من أجل منعه من الترشح لتلك الانتخابات، ووعد أنصاره في التشريعيات الأخيرة ببناء مسجد في ميدان “تقسيم” وإعادة بناء القلعة العثمانية التي هدمها أتاتورك.
وفاز أردوغان بالانتخابات، وقرر الوفاء بوعده في إعادة تشييد القلعة وبناء المسجد وتهيئة ميدان “تقسيم”، وإنجاز النفق الخاص بالسيارات، ومرّت الأمور بهدوء في البداية، فجميع الأحزاب الممثلة في مجلس بلدية اسطنبول، بما فيها المعارضة، وافقت على هذا المشروع، وبالإجماع، وانطلقت الأشغال وتمّت تهيئة النفق بنسبة 80 في المائة، وكذلك بالنسبة للمسجد الذي هيئت له مساحة مطلة على الميدان، لكن نسبة الإنجاز به تبدو محدودة.. غير أنه وبمجرّد بدء أشغال تهيئة الأرضية المخصصة لبناء القلعة العثمانية، والتي تتطلّب إزالة الحديقة أو جزء منها حتى انفجرت أحداث “تقسيم”.

الشيوعيون ينقضّون على قضية.. بريئة
انتفض مجموعة من سكان “تقسيم” في 31 ماي ضد إزالة حديقة “جيزي”، التي تضم 600 شجرة، في حين أكد حزب العدالة والتنمية أنه لن يزيل الحديقة، وإنما سينقل 15 شجرة من الحديقة إلى مكان آخر، لكن الشرطة تعاملت مع المتظاهرين السلميين بشدة، ما أجّج الاحتجاجات في ميدان “تقسيم”، لتمتد شرارة الاحتجاجات، بسرعة غريبة، إلى نحو 50 مدينة تركية، من بينها العاصمة أنقرة.
ووصلت الاحتجاجات إلى ذروتها ليلة الأحد 9 جوان، بعدما انضم عشرات الآلاف من أنصار ثلاثة فرق رياضية هي الأكبر في اسطنبول إلى المحتجين، وكذلك طلبة الجامعات والثانويات والأكراد والعلويين النصريين، وأنصار حزب الشعب الجمهوري أكبر الأحزاب المعارضة، فضلا عن أحزاب شيوعية محظورة هي الأكثر عنفا وتطرفا في تركيا، كالحزب الشيوعي التركي والحزب الشيوعي اللينيني وحزب المضطهدين (العلوي النصيري)، بالإضافة إلى المجموعات المنحرفة والرافضين لتقييد شرب الخمر والتدخين، وحتى ممثلي الأفلام التركية، على غرار الممثل الذي أدى دور “السلطان سليمان” في مسلسل حريم السلطان، كل هؤلاء وقفوا جبهة واحدة في وجه أردوغان، الذي كان في زيارة مغاربية إلى كل من المغرب والجزائر وتونس.
واستغلت الأحزاب الشيوعية الأكثر تطرفا هذا الزخم الجماهيري لرفع شعاراتها السياسية ومطالبة أردوغان بالرحيل، كما قام المحتجون بالهجوم على مركز للشرطة وحرق السيارات والمحلات التجارية، بل وتكسير زجاج مسجد “تقسيم” الصغير، واقتحامه وتدنيسه بأحذيتهم، بل أكثر من ذلك معاقرة الخمر داخل المسجد وكتابة رموز بذيئة وشعارات سياسية على الجدران الخارجية للمسجد وكذلك على مدخله، ما أثار استياء الكثير من الأتراك واستفز المتدينين وأنصار حزب العدالة والتنمية في إسطنبول وخارجها، وحتى أحزاب يسارية لم تؤيد هذا التصرف.
وحسب شهود عيان، فإن كثافة الغازات المسيلة للدموع التي استعملتها الشرطة لتفريق المحتجين في ميدان “تقسيم” امتدت، بسبب الرياح، إلى غاية منطقة الفاتح الهادئة، والتي يفصلها عن “تقسيم” خليج إسطنبول أو أقل من ثلاثة كيلومترات، وقالت جميلة (جزائرية مقيمة بإسطنبول)، ل”الخبر”: “لو وصلتم إلى إسطنبول قبل هذا اليوم لما تمكنّتم من الوقوف هنا، بسبب الغازات المسيلة للدموع”.
ونظرا لحدة المواجهات اضطرت الشرطة إلى الانسحاب من ميدان “تقسيم” وتركه للمحتجين، الذين وضعوا المتاريس حول الميدان وأعاقوا حركة المرور واعتصموا بحديقة “جيزي”، غير أن هذا الزخم لم يدم طويلا، فقد تراجعت حدة المواجهات شيئا فشيئا، بعدما سيطر الشيوعيون المتطرفون على المشهد في “تقسيم”، واختطفوا أحداث “تقسيم” من بين أيدي المتعاطفين مع “حديقة جيزي” والرافضين لإزالتها، لتتحوّل مطالب المعتصمين إلى الدعوة لرحيل أردوغان، ووقف التدخل التركي في سوريا ورفض الهيمنة الأمريكية والأوروبية على تركيا، ورفض بناء مسجد في “تقسيم” وعدم الاعتراف بقرارات اتخذتها الحكومة، على غرار منع فتح الحانات بعد العاشرة ليلا أو بالقرب من المدارس والمساجد، ومنع تبادل القبل في الأماكن العامة، ومنع بث صور أو أفلام تشيد بالخمور والسجائر.
ورفع المعتصمون في ميدان “تقسيم” صور أتاتورك وأوجلان ولينين ورسم لسيدنا علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، ما يعني أن الشيوعيين والعلويين هيمنوا على المشهد السياسي في “تقسيم”، وتمكّنوا من تمييع قضية المحتجين الرئيسية المتعلقة برفض إزالة حديقة “جيزي”، ما قلّص حجم المعتصمين في “تقسيم” من عشرات الآلاف إلى بضعة مئات فقط.
أنقرة تنتزع مركز الاحتجاجات من إسطنبول
“الخبر” وصلت إلى ميدان “تقسيم” في إسطنبول ظهر الخميس 13 جوان، وكنا نعتقد أننا سنجد آلاف المعتصمين في حديقة “جيزي” وحركة المرور مغلوقة والأوضاع مقلوبة رأسا على عقب، لكننا صراحة لم نجد الأوضاع في “تقسيم” بالسوء الذي كنا نتصوره، أو كما كنا نقرأ عنه في وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية ونشاهده في الشاشات التلفزيونية.
ورافقنا في هذه المهمة شاب تركي يدعى “محمد يعقوب”، حيث تكفّل بالترجمة الفورية من التركية إلى العربية. وأول شيء صادفنا بنايات قديمة يتم ترميمها أحرقت واجهتها، كما أن جدران المحلات التجارية والبنايات مملوءة بكتابات تدعو أردوغان للرحيل وتصفه بالديكتاتوري، وأن حزب العدالة والتنمية قاتل، كما تمت كتابة أسماء أحزاب كردية وشيوعية وأخرى علوية محظورة على جدران منزل من طابقين حُرق بالكامل.
وفي الطريق إلى ميدان “تقسيم” تقابلك العديد من الحانات والمحلات التي تفوح منها رائحة الخمر، وعندما وصلنا إلى شارع الاستقلال الشهير، الذي يشبه شارع العربي بن مهيدي في الجزائر أو شارع بورڤيبة في تونس، كانت هناك حركة هادئة للناس، ولا شيء يوحي بأنك في مكان شهد أسوأ الاحتجاجات في تاريخ تركيا، إلا إذا استثنينا بعض الكتابات السياسية على الجدران، أو من خلال ملابس بلاستيكية صينية رخيصة يمكنك أن تميّز من خلالها المحتجين عن بقية الناس، فالأمطار حينها كانت تهطل بغزارة، بالرغم من أننا تركنا الجزائر تلتهب حرا.
وأول ما واجهنا من مشروع تهيئة ميدان “تقسيم” نفق السيارات الذي توقّفت به الأشغال وجدرانه مدوّنة عليها الشعارات نفسها المعادية لأردوغان وحزبه، أما الطريق إلى الميدان فهي مقطوعة ولا يسمح إلا لسيارات الأجرة الصفراء بدخول الميدان، الذي تمكّنت الشرطة من تحريره من المتاريس وعزلت بقية المعتصمين داخل حديقة “جيزي”.
واحتشدت قوات الشرطة ومكافحة الشغب
والعديد من الشاحنات المصفحة في الجهة المقابلة لحديقة “جيزي” تراقب الوضع عن كثب، وذلك بالقرب من المسجد الصغير ل«تقسيم” المختبئ خلف بنايات قديمة وفوق مطعم صغير، والذي لا تكاد تعرفه إلا من خلال منارته الصغيرة المطلة من فوق المباني باحتشام.
أما على يسار الحديقة فكان هناك بناية ضخمة، قيل لنا إنها مركز أتاتورك الثقافي، الذي قرر أردوغان تحويله إلى أوبرا، حيث وضعت صورة عملاقة على البناية وسط علمين تركيين كبيرين، وبالقرب من المركز فندق فخم، ووسط الميدان نصب تذكاري، وحوله مساحات خضراء تعجّ بأسراب الحمام.
وعلى مدخل حديقة “جيزي” وضع المعتصمون سيارات محروقة، من بينها سيارة شرطة كحواجز ضد أي محاولة لاقتحامها، وفي الداخل تتراءى لك مئات الخيم الصغيرة ومتوسطة الحجم منتشرة وسط الحديقة. وبسبب الأمطار فإن الكثير من المعتصمين بقوا مختبئين داخل خيمهم، لذلك لا يمكنك إحصاؤهم ولو بشكل تقريبي، ولكن يمكن القول إنهم بالمئات، ولكنهم لا يتجاوزون ثلاثة آلاف شخص على أكثر تقدير.
والمعتصمون مقسمون إلى عدة مجموعات، لكن أغلبهم من الأحزاب الشيوعية الصغيرة، سواء كانت قومية أتاتوركية أو كردية أو علوية نصيرية، وحتى حزب العمال الكردستاني كان حاضرا بشعاراته وصورة زعيمه عبد اللّه أوجلان، رغم اتفاقهم التاريخي مع أردوغان لإنهاء الحرب التي دامت نحو 30 سنة. والغريب أننا لم نجد شعارات كثيرة لحزب الشعب الجمهوري، الذي يتهمه أردوغان بالوقوف وراء هذه المظاهرات، بالمقابل وجدنا شعارات لفئات من المنحرفين، بالإضافة إلى طلبة وفئات مهنية كالأطباء والمحامين الذين اعترضوا على الاستعمال المفرط للعنف ضد المتظاهرين.
ولم نشاهد شبابا يحملون قارورات خمر بكثرة داخل المتنزه، مثلما أظهرته بعض وسائل الإعلام، لكننا وجدنا أكياسا مملوءة بقارورات الخمر، ما يدل بأن هناك الكثير من الشباب من يتعاطى الخمور داخل الخيم، أما بالنسبة للسجائر فوجدنا أحد المعتصمين يوزّعها بالمجان، وأطفال لا يتجاوزون 14 سنة يدخنون السجائر مثل الكبار.
كانت إسطنبول هادئة هدوء حذرا، والكل يترقب ما قد يحدث في أي لحظة، وعلى العكس من ذلك كانت العاصمة أنقرة، الواقعة في قلب الأناضول في الجانب الأسيوي، تغلي بالمواجهات الساخنة بين المحتجين وقوات الشرطة التي كانت تردّ بالغازات المسيلة للدموع ومدافع المياه.
ثلاثة مساجد على الأقل في “تقسيم” ورابع في طور البناء
خلال تجوّلنا في مدينة “تقسيم” وضواحيها اكتشفنا أن هذه المدينة تحتوي على ثلاثة مساجد صغيرة تؤدى فيها الصلوات الخمس، من بينها مسجد واحد موجود بالقرب من ميدان “تقسيم” وحديقة “جيزي” واثنان آخران أحدهما في الطرف الشرقي والآخر في الطرف الغربي للمدينة، بالإضافة إلى مسجدين في طور الإنشاء، أحدهما صغير يوجد في شارع الاستقلال ونسبة الأشغال به قاربت على الانتهاء، والثاني بالقرب من ميدان “تقسيم”، وهذا الأخير يفترض أن يكون أكبر مسجد قريب من ميدان “تقسيم”، لذلك يعترض بعض الشيوعيين المتطرفين على بنائه.
وقد شهدت “الخبر” المعاناة التي يواجهها المصلون في مسجد “تقسيم” الصغير، خاصة في صلاة الجمعة نظرا لصغر المسجد، بل هو في الأصل بناية سكنية ليست مخصصة للصلاة، لذلك يضطر المصلون إلى الصلاة في الأزقة القريبة من المسجد، وهذا ما يستفز غلاة الشيوعيين والقوميين والملحدين الأتراك الذين يعتبرون “تقسيم” مركزا لهم ولا يحق لغيرهم من المسلمين الأتراك إبراز مظاهر الإسلام والتدين، كالمساجد ذات القبب الكثيرة والمنارات العالية في قلب “تقسيم” أو حتى في محيطها، لكنهم لا يجدون حرجا في وجود كنيسة كبيرة مطلة على الميدان.
غير أن أنصار حزب العدالة والتنمية وفئات أخرى من المتدينين غير المتحزبين أو من المحافظين أو العلمانيين المعتدلين يرفضون هذا المنطق، ويشددون على أن “تقسيم” ملك لكل الأتراك، ولا يحق لأي فئة، مهما بلغ شأنها، احتكار قطعة من هذا الوطن دون بقية الفئات.
والعديد من المصلين، الذين قابلتهم “الخبر” عقب صلاة الجمعة في مسجد “تقسيم” الصغير، أعربوا عن رفضهم لهذه الاحتجاجات، ووصفوا المعتصمين بالمنحرفين، وأنهم جعلوا من حديقة “جيزي” مركزا لانحرافاتهم، حتى قبل اندلاع أحداث “تقسيم”.
أحد أعضاء لجنة مسجد “تقسيم” كان واقفا أمام صندوق زجاجي شفاف ويدعو الناس للتبرع لبناء مسجد. أخبرني المترجم أن المسجد يوجد في روسيا، وعندما سألت الرجل عن مصير هذه التبرعات أجابني بالنفي، وبعدما لاحظ حديثي مع بعض المصلين، جاء وطلب مني أن أتبعه فدخلنا المسجد، وصعدنا إلى مقصورة الإمام، حيث كان هناك ثلاثة رجال في المقصورة، وكانوا متحفظين جدا معي، وربما خائفين، باستثناء شاب يدعى زكريا كان يضع سلسلة رقيقة حول عنقه، قال لي: “في تركيا هناك 50 بالمائة مؤمنون و50 بالمائة منافقون”. وهو ما أثار حفيظة الإمام الذي قاطعه، ولمح لي أن الوضع حساس جدا في “تقسيم” وقال لي إن “أي تصريح يدلون به قد يسبب لهم مشاكل”. كان خائفا وطلب مني وقف أي تسجيل معه أو التقاط أي صورة، لكنه وافق أن يريني مكان بناء المسجد الجديد المحاذي لمسجد “تقسيم”، والمطل على الميدان في الجهة المقابلة لحديقة “جيزي” التي كانت تعج بالمعتصمين. وتفاجأت عندما شاهدت في قناة تركية، بعد عودتي إلى الفندق، أن مجموعة من المعتصمين تصلي الجمعة جماعيا في الميدان، وتساءلت كيف تكون صلاة الجمعة دون خطبتين.

أردوغان يبدأ هجومه المعاكس
رغم أن خطاب الرئيس التركي، عبد اللّه غول، ورئيس بلدية إسطنبول، وحتى نائب رئيس الوزراء، كان هادئا ومسالما، إلا أن خطاب أردوغان كان صداميا واستفز المعتصمين في منتزه “جيزي”، كما أقلق رجال المال والأعمال. ومع ذلك كانت الأوضاع تتحسن شيئا فشيئا في الفترة ما بين الخميس 13 جوان وإلى غاية مساء السبت 15 جوان، حيث بدأت أسعار الليرة في الارتفاع أمام العملات الرئيسية، بعد أن وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ شهور يوم الثلاثاء 11 جوان.
وأخبرني مرافقي، محمد يعقوب، أن والي إسطنبول أعلن بأنه سيزور حديقة “جيزي” يوم الأحد 16 جوان، وسيلتقي المعتصمين بها في بادرة طيبة لتهدئة المعتصمين، كما أن رئيس الوزراء، طيب رجب أردوغان، التقى وفدا من المعتصمين، وأعلن احترامه لقرار المحكمة التي أمرت بوقف الأشغال في ميدان “تقسيم”.
كانت الخيارات السلمية مطروحة بقوة، ولكن المعتصمين رفضوا فضّ اعتصامهم، رغم تجميد مشروع تهيئة ميدان “تقسيم”. وردّ أردوغان بحشد نحو 600 ألف من أنصاره في أنقرة، حسب قنوات تلفزيونية تركية مساء يوم السبت 15 جوان، للردّ على من يطالبونه بالرحيل بأن أغلبية الأتراك يؤيدونه، وفي الوقت نفسه وجّه تحذيرا أخيرا للمعتصمين بفضّ اعتصامهم.
وفي ذلك الوقت كنا في ساحة “تقسيم” كانت الأمور تبدو عادية، باستثناء شيء واحد، فالشرطة عززت قواتها بكثافة أكثر من الأمس، كما أن السبت كان صحوا وفرصة للمعتصمين لتنظيف الحديقة، بعد أن أغرقتها مياه الأمطار، وكذا وجدنا محلا تجاريا داخل الحديقة قيل لنا إنه احترق منذ ثلاثة أيام.
وأغرب من ذلك أن السياح عادوا باحتشام إلى ميدان “تقسيم”، من بينهم آسيويون وأوروبيون وحتى سعوديون كانت ترتدي زوجاتهم الجلباب والبرقع وتتجوّل في الحديقة، وكأنها أصبحت معلما سياحيا، وكذلك بالنسبة لشارع الاستقلال السياحي الذي شهد إقبالا للسياح، وعادت حتى حافلات النزهة السياحية إلى قلب ميدان “تقسيم”، ولكن إقبال السياح لم يكن كثيفا كما كان الأمر في السابق.
كل شيء كان يبدو عاديا في ميدان “تقسيم”، باستثناء تعزيزات الشرطة. عدنا إلى الفندق، لمتابعة التجمع الشعبي لأردوغان في أنقرة على شاشات التلفزيون التركية، التي أبدعت في تصوير الحشود حتى عبر طائرات الهيلوكوبتر والرافعات. وبعد ساعتين من خطاب أردوغان الذي وجه فيه تحذيرا أخيرا للمتظاهرين، بدأت الشرطة كما كان متوقعا هجومها على المعتصمين في حديقة جيزي، وتمكنت خلال ليلة واحدة من طرد جميع المعتصمين من ميدان تقسيم.
وفي الوقت نفسه خرجت مظاهرات صغيرة للمعارضة تجوب شوارع المدينة القديمة في الفاتح وتنادي برحيل أردوغان لكن دون حوادث تذكر، إذ إن المظاهرة كانت سلمية ولم تحدث مواجهات مع الشرطة.
وفي صبيحة الغد عدنا إلى ميدان “تقسيم” وكنا نتوقع أن المظاهرات ستجدد، ولن يستسلم المحتجون بسهولة، ولكن ما شاهدناه أثار استغرابنا مجددا، فالأوضاع كانت هادئة هدوء حذرا، لكن الشرطة وقوات مكافحة الشغب كانت متواجدة بكثافة، وفي كل مكان من المداخل التي تؤدي إلى الميدان، سواء بلباس رسمي أو مدني، وسمحت لنا الشرطة بدخول ميدان “تقسيم” بعد أن استظهرت بطاقتي الصحفية، لكنهم منعونا مرتين من الاقتراب من الحديقة التي كانت تعجّ بأفراد الشرطة وعمال النظافة، حيث تكفلت بلدية إسطنبول بتنظيف وتجميل الميدان والحديقة، وخلال يوم وليلة تغيّر وجه ميدان “تقسيم” بشكل مخالف.
ومساء ذلك اليوم (الأحد 16 جوان) حشد أردوغان أكبر عدد من أنصاره منذ اعتلائه السلطة في 2002. البعض قدّر الحشود التي توافدت منذ العاشرة صباحا إلى السادسة مساء بتوقيت تركيا بنحو مليون شخص، وذهب المتفائلون إلى القول بأنهم مليونين، أما وسائل الإعلام الغربية فقالت إنهم بعشرات الآلاف، فيما وقعت قناة “سي.أن.أن” الأمريكية في سقطة مهنية عندما وصفت الحشود المؤيدة لأردوغان بأنها من المعارضة، وقد تعرّضت، صبيحة الغد، إلى نقد لاذع وسخرية من الصحافة التركية. وطيلة يومين كان هدوء حذر يسود الأوضاع، باستثناء أنقرة التي كانت تشهد مواجهات قوية مع الشرطة، فيما لجأ عشرات المحتجين في “تقسيم” إلى أسلوب جديد من الاحتجاج، حيث جاءني اتصال هاتفي مساء الثلاثاء (18 جوان) يؤكد لي بأن أنقرة وإسطنبول تغليان بالاحتجاجات حسب التلفزيونات العالمية، وكنت حينها في الجانب الآسيوي من إسطنبول في مدينة إيسكيدار، فأسرعت مع مرافقي للعودة إلى الجانب الأوروبي عبر سفينة نقل إلى بيسكتاش، ومنه عبر الحافلة إلى كاباتاش، ثم صعدنا مشيا على الأقدام إلى “تقسيم”، وسألت صحفيا تركيا في الطريق عن الاحتجاجات في “تقسيم”، فقال إن الأمور هادئة، وعندما وصلنا إلى الميدان وجدناه يعجّ بالسائحين أكثر من الأيام السابقة. أما المحتجون فكانوا واقفين في صمت، ومتوجهين بنظرهم صوب صورة أتاتورك العملاقة، فيما كانت الشرطة تراقبهم بحذر، وعدد كبير من الصحافيين والمصوّرين من مختلف وسائل الإعلام التركية والعالمية تعجّ بالمكان.
ومع أن الاحتجاجات تمكّنت من حشد، طيلة ثلاثة أسابيع، 2,5 مليون محتج، في 79 ولاية من أصل 81، إلا أن أردوغان مازال يحظى بدعم غالبية الشعب، أما المعارضة فمشتتة ومنقسمة بين لبيراليين وشيوعيين وبين قوميين أتراك وآخرين أكراد، وبين غالبية سنية حنفية وأقلية علوية نصيرية شيعية. كما أن حزب العدالة والتنمية تمكّن من إحداث إصلاحات عميقة في الجيش والأمن والعدالة، بشكل مكّن من تحييدها بشكل كبير عن الصراع السياسي. ومع كل ذلك خسرت تركيا كثيرا على الصعيد الاقتصادي والدولي، فعدد السياح تراجع بشكل محسوس، وكذلك العملة التركية، وعلاقات أنقرة بالاتحاد الأوروبي، وخاصة ألمانيا، في أسوأ أحوالها، إلا أن حزب العدالة والتنمية مازال يتصدّر نتائج سبر الآراء قبل أشهر من انتخابات مارس 2014.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.