بسم الله، و الحمد لله، و لا إله إلّا الله، و الصّلاة و السّلام على مُحمّد رسول الله، و على آله و صحبه و من اتّبع هُداه. ثمّ أمّا بعد: فلقد عرفت خلال رحلتي البحثيّة المُستمرّة، من طريق السّماعات الّتي رُوّيتها، و من غيرها؛ شخصيّة علميّة مغمورة، كانت ذات بال، استوطنت و عاشت ببلدة سيدي خالد العريقة و النّائليّة بامتياز، بالجنوب الشّرقي الجزائري، و اتّصلت و تواصلت مع جهات قريبة منها، و منها ما كان تابعا لمنطقة الجلفة الواسعة الّتي حُدودها تتعدّى حُدود الولاية المعروفة (الإداريّة)، إلى الولايات المُجاورة كالمسيلة و بسكرة و ورقلة و غارداية و الأغواط. و إلى عهد قريب جدّا لم يُكتب عنها ما يلزم التّعريف و التّنويه بها[1]، حتّى ظهر إسمها ضمن متن المولود الجديد لجمعيّة الوحدة الثّقافيّة بمدينة سيدي خالد؛ المُدبّج ب " الظّاهرة الثّقافيّة في سيدي خالد إبّان عهد الاحتلال الفرنسي "[2]، لكاتبه الأديب الشّاعر مُحمّد العربي حرز الله الحركاتي، ثمّ النّايلي، بترجمة يسيرة يغلب عليها الأسلوب الأدبي لا العلمي، تحدّث فيها مُسوّدها بطابع ثقافيّ عام، و ليس وفق إحداثيات التّرجمة المُقرّرة و المعروفة، الّتي وضعها عُلماء السّير و التّراجم، و هو مشكورٌ لذلك مقدورٌ لجهده و عمله هذا. و شخصيتنا هذه هي مُحمّد بن محمّد[3] (فتحا) بن عيسى بن زهانة الرّحماني الهلالي الخالدي، المعروف بحمّة قدّور[4]. ولد خلال سنة 1327 ه / 1909 م، ببادية بلديّة أمّ الطّيور، و هي إحدى بلديات ولاية وادي سُوف، و قيل بمدينة سيدي خالد، التّابعة لولاية بسكرة. تلقّى تعليمه الأوّلي من والده المذكور، فتعلّم عليه مبادئ القراءة و الكتابة، و حفظ عليه الأجزاء الأُولى من المُصحف الكريم، ثمّ انتقل إلى حلقة الشّيخ العالم الحاجّ بن عمر بن حرز الله الحركاتي، ثمّ النّايلي (ت 1366 ه / 1947 م)[5]، أين لازمه و أخذ عنه شيئا من الفُنون الشّرعيّة المُتداولة، في حلّه و ترحاله[6]، و قد أصهر إليه فيما بعد بابنته عائشة. لم يقف عند هذا الحدّ؛ فقد توجّه إلى الزّاوية الحملاوية[7] بوادي سقان بولاية ميلة بالشّمال القسنطيني، حيث حظي بالتّلمذة لجلّة من أكابر أهل العلم كانوا حينها يُدرّسون بالزّاوية المذكورة، على غرار العالم المُشارك الفقيه الفرضي المُفتي أحمد بسطامي أو بصطامي الرّحماني الهلالي الخالدي، ثمّ الخُروبي القسنطيني، المعروف بابن شليحة ( ت 1400 ه / 1980 م )[8]، الّذي تفقّه على يديه مالكيّا[9]، و درس عليه بعضا من الحديث و التّفسير و الفرائض و غيرها[10]، و أخذ بالزّاوية عن غيره عُلوم اللّسان العربي (نحوا و صرفا و بلاغة...). كرّ راجعا إلى بلدة سيدي خالد، و تولّى بها مهمّة التّعليم العتيق ردحا مع الإفتاء، و التفّ النّاس من حوله، و صار له شأنٌ بينهم، و بالتّوازي مع ذلك كان كثير التّردّد إلى الجزائر العاصمة؛ بُغية المعرفة و التّعارف و جمع الكتب الّتي تُعنى بفنون الشّريعة الإسلاميّة، و التّاريخ و الأنساب و الجغرافيا، و غيرها، و لم يكن يرغب في أخذ الأجرة على هذه المهمّة النّبيلة، فاختار تجارة قطع غيار مُحرّكات السّقي الفلاحي، و اشتهر بذلك بين سُكّان سيدي خالد، و حتّى بين أهل بسكرة، و اكتسب منها خيرا كثيرا، و لم ينقطع عن مُزاولة التّدريس و إقامة الحلق العامة و الخاصّة، بالمساجد و بالمساكن الخاصّة بالبلدة المُشار إليها أنفا، و كانت له شروحٌ ماتعات على المُختصر الخليلي، بالمسجد العتيق، و اهتمّ كثيرا بتدريس متن الرّحبية لأبي عبدالله محمّد بن عليّ الرّحبي، المعروف بابن المتقنة، في المواريث، و كان آية فيها. و قد أخبرني تلميذه الصُّوفي الخلوق المُلتزم بالكتاب و السُّنّة الحاجّ عامر بن مُحمّد الرّحماوي، ثمّ النّايلي (حفظه الله) أنّه رأى و لمس أثارة علم و معرفة و فهم، وكفت على أسارير مُحيّا الشّيخ حمّة قدّور، و سحّت بالإجابات و الفوائد و الفرائد و النُّتف و اللّطائف و المُلح على لسانه سحّا. و قال لي لقد حضرت عليه بعض دروسه، و استمعت و استفدت منه كثيرا، ثمّ ذكر لي أنّه كُلّما تذكّره أجهش باكيا و وكف على وجنتيه الدّمع، و أنّه لا يُحب أن يمرّ على مسكنه؛ لكي لا يتذكّر مرّة أخرى مرارة فقده. و في سياق آخر حدّثني الأُستاذ الأريب الخذير بن عليّ مهنّي السّاسوي، ثمّ النّايلي (حفظه الله)، الّذي عرف مُترجمنا عن قُرب و مُشاهدة، أنّ الشّيخ حمّة قدّور كانت تربطه بالجلفة و بأهلها علاقة محبّة و ودّ، و قد وفد على مدينة الجلفة غير ما مرّة، و له بها فضلٌ و إحسانٌ، و كانت له علاقة متينة و قويّة بالشّيخ الفقيه المُفتي عامر بن المبروك محفوظي لخضري الملخوي، ثمّ النّايلي (ت 1430 ه / 2009 م)[11]، كما كانت له أيضا علاقة ودّ و احترام و تراجع مع الفقيه المقاصدي جعفر أُولفقي القبايلي، المعروف و المُكنّى بأبي عبد السّلام[12]، و كان هذا الأخير يعود إليه في كثير من المسائل المُستعصية في الفقه المالكي المُتعلّقة منها تحديدا في إفتاء النّوازل و المُستجدّات، و في المواريث (التّرائك أو الفرائض) أيضا، و كان كُلّما حلّ الشّيخ أبو عبد السّلام بمدينة سيدي خالد نزل ضيفا على الشّيخ حمّة قدّور، و كان دائم الذّكر له و الثّناء عليه. و حدّثني[13] أيضا عنه أنّه كان صاحب دُعابة و فُكاهة و كان اجتماعيّا بامتياز، و من مفارده أنّه كان يطلب شيئا ما يشتهيه هو، من المُستفتي إذا كان من أهل اليسار (المياسير)، مُقابل أن يُفتيه[14]. لقد كان الشّيخ حمّة قدّور (مُحمّد زهانة) صُوفيّا فاضلا فقيها مُفتيا فرضيّا نسّابة شغوفا بجمع الكُتب و مُطالعتها قليل التّدوين صاحب نكات و حكايات. مارس التّدريس و الفُتيا ردحا من الزّمن، و لم ينقطع عنهما إلى أن تُوفّي و قد عُمّر (103 عاما)، سنة 1430 ه / 2009 م، و دُفن في إحدى مقابر مدينة سيدي خالد. و لكن الّذي يُؤسف عليه حقّا أنّ علمه و تُراثه لم يُدوّن. هذا ما لزم عرّفتكم به حول هذه الشّخصيّة الكُبّارة، الّتي كانت إلى زمن يسير من الأغمار، و سأُفرد لها في قابل، ترجمة غنيّة إن شاء الله، تُوفّي المنشود و الموعود. و الله أسأل التّوفيق و السّداد و الصّلاح، و صلّى الله و سلّم على سيّدنا مُحمّد و على آله و صحبه أجمع. هوامش 1 كُتب التّواريخ و التّراجم و المُعجمات (أي في فنّ التّاريخ و التّراجم)، لم يشهد القطر الجزائري، لدى عُلمائه و أُدبائه؛ الكتبة منهم في ما نعلم من لدن الفتح الإسلامي، عناية و اهتماما بها، و بضاعتها نزِرة جدّاً، قليلة التّأليف فيها، في حين أنّها قد عرفت رواجاً كبيراً في المشرق، و الأندلس (قبل السّقوط)، و المغرب الأقصى، و بقية دول الجوار؛ تونس و مُوريتانيا. و لم تكن كُتب هذه الصّنعة وحدها؛ هي الّتي عُوملت بهذا الإهمال و هذا النّقص، فكذلك كُتب علوم الحديث (رواية و دراية و رعاية)، شهدت هذا المثيل. و الحديث عن أسباب ذلك يطول جلبه، و سنفرد له إن يسّر الله الأمر فصلاً خاصاً ..... و قد عرفت الجزائر بخصوص هذا العلم المُهمّ في هذه العُقود المُتأخّرة أعني نهاية القرن الرّابع العشر و بداية الخامس عشر الهجريين شيئاً من التّحسّن، و خرج منها باحثون كتبوا و قيّدوا، و وضعوا لبنات متينة في تأسيس هذا الفنّ، و أرجو أن تكون لها مثيلات في فنّ الحديث و معارفه . وأمّا العناية بالوفيات فقد عُرفت في الجزائر بشكل لافت و مُبتكر، يكمن في الاقتصار على تاريخ الوفاة و ضبطه، دون التّرجمة لصاحبها، إلّا لماما على يد الإمام المُفسّر المُحدّث الفقيه المُفتي القاضي الرّحّالة أبي العبّاس أحمد بن قُنفذ الخطيب القسنطيني (ت 809 ه) . أو (ت 810 ه)، في كتابه المشهور "الوفيات". و هي بادرة مُمتازة في حينها نأمل أن تتكّرر في هذه العقود، و قد قُمت بحمد الله بتكملة كتابه المذكور من 808 ه إلى 1437 ه (تكملة الوفيات) . يقول العلّامة مُحمّد بن عبد الرّحمان الدّيسي ( ت 1339 ه / 1921 م ) : ( و ممّا يجب أن يعلم أوّلا، أنّ غاية ما يعلم من أحوال بلادنا و ما قاربها من علم التّاريخ أمور إجماليّة يتلقّاها الخلف عن السّلف، و يرويها الأصاغر عن الأكابر، بعضها بطريق الاستعاضة، و بعضها بطريق الآحاد، أمّا التّقييد بالكتابة فقلّما يوجد لما كان عليه حال البلاد قبل استيلاء فرنسا على القطر الجزائري من الاضطرابات، و تغلّب البعض على البعض بالنّهب و السّلب و شنّ الغارات، و لهذا السّبب ضاع الكثير من أخبار علمائها و فضلائها و رؤسائها، فلم يحفظ إلّا الشّاذ النّادر، إذ من المعلوم أنّ العلوم و المعارف إنّما يتّسع نطاقها حيث وفور العمران و استتباب الرّاحة و تعاضد السّكّان، و لا يتمّ ذلك على الوجه الأكمل إلّا بالعدل و الأمن على النّفس و المال.) اه . ص ( 34 )، تُحفة الأفاضل في نسب سيدي نايل، شرح و تعليق عبد الكريم قذيفة الفرجاوي النّايلي، الطّبعة الأولى 1433 ه / 2012 م، نشر الجمعيّة الثّقافيّة للعلّامة الشّيخ مُحمّد بن عبد الرّحمان الدّيسي بالمسيلة. و أُضيف إلى كلامه أن الاستعمار الفرنسي حين دخوله الجزائر مارس سياسة الأرض المحروقة، و منها حرق و نهب و سلب المكتبات العامّة و الخاصّة. و الله أعلى و أعلم . 2 ص (726 728)، طبع 2015م . جمعيّة الوحدة الثّقافيّة، سيدي خالد، بسكرة . 3 و يُكتب عند الكثيرين و هو المشهور امحمّد، و العرب لا تبتدئ كلامها بحرف ساكن، و إن لزم تُضيف قبل السّاكن حرف الألف. و الله أعلى و أعلم . 4 تكملة الوفيات (1428 ه 1437 ه)، و طبقات المالكيّة الجزائريين خلال المئة الهجريّة الأخيرة، الطّبعة الثّانية (2016م)، لصاحب المقال (سعيد هرماس)، و إسم حمّة هو تدليعٌ لإسم مُحمّد، و هو مشهورٌ بالشّرق، و بالجنوب الشّرقي الجزائري، و تحديدا بمنطقة وادي سُوف، و منبعه في اعتقادي يعود إلى اللّهجة التُّونسيّة. و أمّا إسم قدّور فهو مُختصر من إسم عبد القادر، و هو اختصار شائعٌ بين المغاربة، كثيرٌ في لُغتهم، و قد أنكره بعضُ أهل العلم، و رأوه تحريفا في أسماء الله تعالى. و الله أعلى و أعلم . 5 تكملة الوفيات (1358 ه 1367 ه)، و طبقات المالكيّة الجزائريين خلال المئة الهجريّة الأخيرة، الطّبعة الثّانية (2016م). 6 ارتحل رُفقته إلى زاوية الهامل، حينما انتقل إليها الشّيخ بن حرز الله مُدرّسا لمدّة عشر سنوات، بعدما كان قد انضمّ إليها سابقا طالبا و دارسا لمدّة عشر سنوات أيضا. 7 و هي من أكبر الزّوايا الّتي عرفها القُطر الجزائري الحبيب، أسّستها في أوّل الأمر عائلة ابن الحملاوي الإدريسيّة الحسنيّة التّازيّة المغربيّة الأصل، بمكان يُدعى بوفُولة، بشلغوم العيد، جنوبي ولاية ميلة بالشّرق الجزائري، في القرن التّاسع الهجريّ، المُوافق مُنتصف القرن الخامس عشر الميلادي، ثمّ أعاد تأسيسها في القرن الثّالث عشر الهجري، المُوافق التّاسع عشر الميلادي، أحد أبناء هذه الأسرة البررة الشّيخ عليّ بن خليفة الحملاوي (ت 1317 ه / 1899 م أو 1900 م)، في مكان آخر، اُشتهرت به في ما بعد، يبعد عن بلدية وادي سقان بميلة، بنحو 04 كلم، و لا يزال التّعليم بها قائما، و قد عرف رواجا و انتشارا كبيرين في نهاية القرن التّاسع عشر، و بداية القرن العشرين الميلاديين، و تفرّع عنها المعهد الكتّاني بمدينة قسنطينة، و درّس بها طائفة من أهل الذّكر و الصّلاح، من داخل الجزائر و خارجها، و يغلب عليها التّصوّف الرّحمانيّ، و التّمذهب بالفقه المالكي، و التّمسك بالعقيدة الأشعريّة، و القائم عليها في هذا الزّمان مُحمّد الهادي بن عبد المجيد بن عبد الرّحمان بن عليّ بن خليفة الحملاوي، و بها طلبة كثرٌ. و من أوقافها 250 هكتارا من الأراضي الصّالحة. و هي كبقيّة زوايا الغرب الإسلامي، لها ما لها، و عليها ما عليها، و نتمنّى أن يشملها الإصلاح و الرُّجوع إلى التّعليم الصّحيح و الإقراء المُفيد و نشر الخير و إطعام الطّعام . و الله أعلى و أعلم. 8 تكملة الوفيات (1398 ه 1407 ه)، و طبقات المالكيّة الجزائريين خلال المئة الهجريّة الأخيرة، الطّبعة الثّانية (2016م). 9 قرأ عليه حفظا و شرحا مُقرّرات الفقه المالكي الرّائجة؛ المُرشد المُعين لابن عاشر، و الرّسالة لابن أبي زيد القيرواني، و المُختصر الفقهي لخليل بن إسحاق. 10 يُعتقد أنّه تتلمذ عليه ما بين سنتي 1341 ه / 1923 م ، و 1352 ه / 1933 م ؛ لأنّ الشّيخ ابن شليحة في السّنة الأخيرة منهما توجّه إلى بلدة سيدي خليل بولاية الوادي ، بدعوة من أهلها ؛ للتّدريس و الإفتاء بزاويتهم . و الله أعلى و أعلم . 11 تكملة الوفيات (1428 ه 1437 ه)، و طبقات المالكيّة الجزائريين خلال المئة الهجريّة الأخيرة، الطّبعة الثّانية (2016 م)، و من فُضلاء منطقة الجلفة من 1861 م إلى مطلع القرن الحادي و العشرين، الطّبعة الثّالثة (2013 م) . 12 طبقات المالكيّة الجزائريين خلال المئة الهجريّة الأخيرة، الطّبعة الثّانية (2016 م). 13 أي الأستاذ خذير بن عليّ مهنّي (حفظه الله). 14 و ممّا حدّثني به أيضا و لكن بصيغة التّمريض أن الشّيخ حمّة قدّور قد اكتحلت عيناه برُؤية صفحات وجه الشّيخ الفقيه الأُصوليّ المُدرّس المعروف مُحمّد بن عبد الرّحمان الدّيسي (ت 1339 ه / 1921 م)، أثناء زياراته و إقامته عند الشّيخ الحاجّ بن عمر بن حرز الله الحركاتي، و هو تلميذه، بمدينة سيدي خالد، و كان عُمره وقتئذ يتراوح ما بين 08 و 10 سنوات . و الله أعلى و أعلم.