تجتاح الرأي العام الغربي (بشقيه القديم والجديد) تيارات فكرية متناقضة ومتضاربة، ليبرالية أو ليبرالية متشددة في المجال الاقتصادي ولكنها تتزامن مع تيارات محافظة في المجال المجتمعتي تتسم بالتأكيد على مبدأ الهوية الوطنية. ويمكننا تفسير أسباب هاته الوضعية القائمة بغض النظر عن الأزمة الاقتصادية بعدة عوامل من بينها : هل العولمة تراوح مكانها ؟ 1- العولمة تراوح مكانها؟ فإن كان البعض يرى فيها فرصة للنجاح و اتساع افاق التألق، فان البعض الآخر لا يرى فيها إلا مغامرة و مجازفات، والمؤكد اليوم أنّ قسطا من المواطنين والأهالي ينتقدون مبدأ العولمة بشدة خصوصا منهم الفئات الاكثر هشاشة وحرمانا، اذ يرون انها لم تجلب سوى البطالة وضياع مناصب الشغل في اقليمهم، كما يعتقدون انها ساهمت بشكل كبير في إضعاف الأواصر الاجتماعية وروح العيش المشترك في المجتمعات التي حلت بها. 2- الخطاب السياسي بين التغيير والاستمرارية فالخطاب السياسي في الدول الغربية يتأرجح بين الاستمرارية والتغيير وهذا التحفظ يبرز بشكل واضح عندما نرى العديد من الحكومات المنتهية عهدتها قد اوفت بنصيب كبير من وعودها الانتخابية، وأحسن مثال يساق في هذا الاطار ما حدث في الولاياتالمتحدة شهر نوفمبر 2016 حيث لم يتم انتخاب هيلاري كلينتون (Hilary Clinton) والمدعومة من طرف الفريق المنتهية ولايته، رغم أن هذا الفريق قد حقق النمو المتزايد وحافظ عليه لمدة فاقت ثلاث سنوات. 3- تذبذب الخطاب السياسي لم يعد للخطاب السياسي ذو صدى عالي حيث أصبح وكأنه يخاطب نفسه دون أن يجد أي تجاوب من فئات المجتمع البسيط، فهو خطاب لا يصلهم، لأنه لم يعد يُهدّئ المخاوف ولا يُلبي بعض الاحتياجات اليومية. والسبب في ذلك راجع لفقدان هذا الخطاب لمصداقيته، إذ اصبح لا يوفر إلا حلولا جزئية لمشاكل الناس البسطاء ولا يستطيع حتى بعث الأمل في نفوسهم أو حتى إعطائهم اوصافا و تصورات تساعدهم على فهم العالم الحديث الذي يعيشون فيه. 4- هل هناك فجوة بين النخب السياسية والفئات الهشة او الضعيفة ؟ في أرض الواقع المعيش ظهرت شبه قطيعة بين الراعي والرعية او بين الحاكم و المحكوم، فبعض وسائل الإعلام تعطي توصيفا لحياة الجماهير لكنها في واقع الحال لا تعرف عن هذه الحياة سوى النزر القليل، أما غالبية السياسيون فيتحدثون عن معيشة الناس البسطاء لكنّهم في الحقيقة لا يعيشونها في يومياتهم. 5- الفراغ السياسي والبدائل الجديدة أمام هذا الفراغ السياسي، نجد عامة الناس يلجئون لوسائل الاعلام البديلة وشبكات التواصل الاجتماعي في محاولة منهم فهم ما يجري من حولهم، ويستمر الكل في سعيه اليومي وهو يحاول رسم صورة وقناعات شخصية حول ما يجري في هذا العالم مستهلكا سيولا من المعلومات المتوفرة والتي تكون في غالب الاحيان متفرقة و متعددة. وأمام هذا الكم الهائل من المعلومات والسيل العارم من الاخبار نجد شطر من الناخبين والناخبات متذبذبين حيث لا يستقر لهم رأي ويصيبهم نوع الريب. 6- الرأي العام أمام تدفق سيول المعلومات أمام كثافة تدفق هاته المعلومات وكذا الشبكات الرقمية المتحررة من الحدود الاقليمية والقيود المعنوية تضاعفت ابعاد هاته الظاهرة وزادت من حدة تذبذب الافكار والآراء الباحثة عن تطلعات وآمال جديدة، وقد زاد من تعقيد هذا الوضع تلك الآراء المتضاربة لبعض السياسيين وكذا تحاليل وكالات سبر الآراء وهيئات ترشيد الرأي العام . هل توجد نواة تبرز اعتماد خطاب جديد ؟ في هذا السياق، نلاحظ ان الخطاب التفريقي والمتطرف أصبح يسيطر نسبيا مقارنة بالخطاب السياسي الرزين والمتزن والمدروس، وبنفس المنطق فان المعروض او المقترح السياسي للعديد من المترشحين اصبح ينصب على المواضيع الاستهلاكية سياسيا (كالأمن، الهجرة، الهوية، حماية الاقتصاد وغيرها من المواضيع الاخرى... ) وهي المواضيع التي غاليا ما تضمن نجاح المرشحين الانتخابيين الذين يتبنون الخوض فيها والتعمق في تفاصيلها. وحسب بعض الملاحظين، فإن هاته الظاهرة هي التي تفسر نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت brexit)، والانتخابات المنضمة أخيرا في العالم الغربي، كما يتنبأ هؤلاء بظهور نمط جديد في طرق التناول الإعلامي وأنماط التفكير. هل الدورة الحالية (le cycle) تشرف على آخر حلقاتها ؟ على المدى الأوسع يرى بعض المحللين أن الدورة الحالية (le cycle) قد قاربت على نهايتها وهي تنقسم على أربعة (4) أطوار متلاحقة كالآتي : 1- مرحلة الابتكار التكنولوجي، وهي مرحلة مرتبطة بالاكتشافات الرقمية والمعلوماتية 2- تلتها فترة الرخاء الاقتصادي و الاجتماعي والانفتاح على أفاق العولمة 3- تبعتها مرحلة انتعاش البورصات والحياة المصرفية حيث بلغت ذروتها مع أزمة 2008 المالية 4- لتأتي بعدها مرحلة نهاية هاته الدورة cycle المتزامنة مع الأزمة الاقتصادية حيث تفاقمت ظاهرة إقصاء الآخر . وهكذا مع نهاية هاته الدورة الطويلة بمختلف الاطوار والمراحل التي ميزتها، برزت مؤشرات أنماط جديدة من التفكير والمعيشة والاتصال والإعلام. انه فعلا تغير عميق في عامل الزمن وسلم القيم والمبادئ، وسط عالم تتواصل فيه كل الاطراف بعضها ببعض وتتغير فيه الخطوط والمحاور السياسية والحدود الجيو إستراتيجية دون توقف، عالم اصبحت فيه النزاعات والحروب تندلع في كل وقت دون سابق إنذار، أنّه عالم أصبح فيه الظرف والراهن والحين يطغى على كل موروث التاريخ بثقله وتراكماته وعراه. (*) د. شريف رحماني: سفير الأممالمتحدة للصحاري و الأراضي الجافة (اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة التصحر)، رئيس مؤسسة صحاري العالم، وزير سابق